واقع امراض القلب والشرايين في لبنان والعالم في العام 2022
(الجزء السادس):
الموت المفاجئ لأسباب قلبية عند “الرياضيين” وغيرهم:
كيفية تقليل عوامل الخطر، المقاربات التشخيصية، اهمّية التحقيق الجيني، مُتابعة المرضى، طُرق العلاج والوقاية من هذه الحوادث
.
وبعد ان نشرنا في الأجزاء السابقة من هذا الملف اهم المعطيات حول الموت المفاجئ لأسباب قلبية عند الرياضيين وغيرهم من المرضى غير الرياضيين، وعرّفنا سريعاً هذه الظاهرة الخطيرة، وقلنا انها حالة موت مُفاجئ ناتج عن توقّف في عمل القلب وتوقّف وظائفه، واشرنا الى طُرق التعرّف عليها، كيفية حدوثها، بحيث اننا ذكرنا انه ناتج في اغلب الأحيان عن إضطراب خطير في ضربات القلب، وشرحنا تفصيلياً اهم اسبابه التي قلنا انها قد تكون لها علاقة بأمراض تُؤدّي الى “نقص تروية عضلة القلب”، او أمراض قلبية اخرى “تكوينية” غير مُتعلقة بنقص في تروية العضلة، او اخيراً أمراض “غير بنيوية”، هي في مجملها امراض وراثية او عائلية تُؤدّي الى إضطرابات خطيرة في ضربات القلب وبالتالي الى حالات رجفان بطيني مُميتة. وقد عرضنا في الجزء السابق من هذا الملف اهم مُميّزات وخصائص تلك الأمراض “غير البنيوية”، العوامل العامة المُحفّزة لحصول حالات الموت المُفاجئ واخيراً العوامل القلبية التي تزيد من مخاطره. في هذا الجزء نستكمل الحديث عن كيفية تقليل عوامل خطر الإصابة بهذه الحالات، المقاربات التشخيصية وكيفية مُتابعة المرضى الذين تعرّضوا لهكذا حادث خطير مع التركيز على اهميّة التحقيق الجيني او الوراثي الكامل في بعض الحالات، طُرق العلاج المتوفّرة حالياً، كيفية الوقاية من هذه الحوادث الخطيرة مع عرض بعض التوصيات لمنع حصول هكذا حالات مُميتة في اغلب الأحيان.
1-كيفية تقليل عوامل الخطر:
من المُهمّ جداً في حال كان المريض يُعاني من أحد أمراض الشرايين التاجية للقلب، وحتى إن لم يكن يعاني من اعراض مُهمة بسبب ذلك، أن يحرص على خفض مستويات الكوليسترول في الدمّ ومُراقبة ضغط الدم وضبط السُّكَّري وعلاجه بطريقة مُتشدّدة والمُحافظة على وزن صحي مثالي. ويُمكن أن يِؤدّي تقليل عوامل الخطورة عن طريق تغيير نمط الحياة إلى تقليل كبير لمخاطر التعرّض لتوقّف القلب المُفاجئ.
وتتضمّن تغييرات نمط الحياة الخطوات التالية: الإقلاع نهائياً عن التدخين، إنقاص الوزن في حال كان هناك بدانة، الإلتزام بمُمارسة الرياضة بإنتظام، الإلتزام بنظام غذائي صحّي قليل الدسم ويحتوي على الكثير من الخُضار والفواكه الطازجة، ضبط ومراقبة مستوى السُّكَّري في الدم طبقاً للتعليمات الطبية التي يعطيها الطبيب المُعالج .
كذلك يجب إدارة الحالات المرضية الأخرى بالتعاون مع الطبيب المُعالج.
ويُنصح المريض بالتحدّث إلى طبيبه لتلقّي أية استفسارات حول اعراض او حالات مرضية اخرى أو الحاجة للمساعدة في إجراء تعديلات في العلاج او وصف ادوية جديدة للحالات المرضية المُستجدّة.
ويترتّب على المريض والعائلة تمييز ومعرفة علامات وأعراض أمراض الشرايين التاجية للقلب والخطوات التي يجب اتخاذها لدى ظهور هذه الأعراض لمنع اي تطوّر سلبي لحالة المرض والوقاية من اية إختلاطات جانبية.
و لتقليل خطر التعرّض لتوقّف القلب المفاجئ، قد يصف الأطباء بعض انواع الأدوية للمريض الذي سبق وُأصيب بذبحة قلبية أو بقصور في عضلة القلب أو بإضطرابات خطيرة في نظم كهرباء القلب. وقد تشمل هذه الأدوية مُثبّطات الإنزيم المُحوّل للأنجيوتنسين وحاصرات بيتا وحاصرات قنوات الكالسيوم وغيرها من مُضادات اضطراب نظم كهرباء القلب. وقد يحتاج المريض الذي يُعاني من ارتفاع مستوى الكوليسترول وامراض الشرايين التاجية إلى أخذ أدوية من عائلة ال (Statins) التي تعمل على خفض مستوى الكوليسترول في الدم. ويُزوّد المريض بتعليمات مُحدّدة لأخذ الدواء الموصوف طبياً.
وقد يحتاج ايضاً هؤلاء المرضى لجهاز مُقوّم نظم القلب مُزيل الرجفان الداخلي (Internal Cardioverter-(Defibrillator كوسيلة وقائية، حيث أن هذا الجهاز عبارة عن جهاز صغير يشبه “بطارية” او “مُنظم القلب” ويعمل على تصحيح اضطرابات نُظم كهرباء القلب في حال حصول حالة رجفان بطيني، إذ يكشف عن معدل ضربات القلب السريعة وغير المُنتظمة ثمَّ يُصحّحها بواسطة صدمة كهربائية داخلية.
ويعمل جهاز مُقوّم نظم القلب مُزيل الرجفان الداخلي على مُراقبة نُظم القلب بشكلٍ مُستمر، فيقوم بإرسال طاقة على شكل صدمة كهربائية صغيرة وقوية إلى عضلة القلب، فيستعيد القلب إيقاع نبضه الطبيعي. ويقوم هذا الجهاز أيضاً بتسجيل كل نوبة كهربائية غير طبيعية، مما يسمح للطبيب بالإطّلاع على المعلومات عن طريق “جهاز مساءلة او استجواب هذا الجهاز” الموجود عادة في في المستشفى او في عيادة الطبيب المُتخصّص في كهرباء القلب والذي يسمح بدراسة دقيقة لنبض قلب المريض خلال الفترات السابقة وكشف كل النوبات الكهربائية غير الطبيعية، وتعديل وبرمجة الصادم الداخلي حسب مُقتضيات حالة المريض والأعراض التي يشكو منها. ويمكن أيضاً الجمع بين استعمال هذا الجهاز ومُنظم ضربات القلب بطارية للقلب (Pace-Maker) لعلاج الحالات الُأخرى الكامنة لإختلال نظم القلب اي ان يتمّ زرع جهاز واحد فيه بطارية داخلية وصادم داخلي في ذات الوقت.
وقد يحتاج المريض الذي يُعاني من أمراض الشرايين التاجية للقلب إلى الخضوع لإجراء “علاج تدخّلي” عبر توسيع الشرايين المريضة بواسطة تقنيات البالون والروسور أو ل”جراحة القلب المفتوح” من اجل “زرع جسور ابهرية-تاجية” لتروية عضلة القلب عبر جسور توصل الدم الى الشرايين التي يوجد عليها إنسدادات لتحسين تدفّق الدم إلى عضلة القلب وتقليل خطر التعرّض لموت القلب الفجائي. وقد يكون المريض الذي يُعاني من الحالات الأخرى مثل اعتلال عضلة القلب التضخمي أو تشوهات القلب الخلقية بحاجة إلى إجراء علاج تدخّلي أو عملية جراحية لإصلاح المشكلة ولعلاج اختلال نُظم القلب بما فيها تقويم نُظم القلب بالصدمة الكهربائية الخارجية والاستئصال او الإجتثاث (Ablation) عن طريق القسطرة (إزالة نسيج القلب الذي يُسبب اضطرابات نُظم القلب).
فعند حدوث الذبحة القلبية في البطين الأيسر او الأيمن مثلاً، تتشكّل “ندبة في الأنسجة” تجتاحها بسرعة مواد ليفية تحلّ مكان الأنسجة العضلية التي ماتت من جرّاء الذبحة القلبية. وقد تزيد هذه الأنسجة المُصابة بالندب من خطر تسارع القلب البُطيني ومن مخاطر حصول رجفان بطيني. ويُمكن لطبيب القلب المُتخصّص في كهرباء القلب أن يُحدّد مكان وحجم المنطقة التي تُسبّب الإضطرابات في نظم كهرباء القلب عن طريق استعمال تقنية تُسمّى “رسم خرائط ثلاثية الأبعاد لإضطراب نظم القلب (Three-Dimensional Mapping of Cardiac Arrhythmias). وقد يجمع طبيب كهربائية القلب بين إجرائي الإجتثاث او الإستئصال، وهو يقوم على “استعمال طاقة كهربائية عالية” لفصل المسارات الكهربائية غير الطبيعية في القلب، و”جراحة ترميم البطين الأيسر”، وهي الإستئصال الجراحي لأنسجة القلب المُتضررة، وهي تقنية جراحية فعّالة جداً في حالات الرجفان الأذيني المُزمن.
2-المقاربات التشخيصية وكيفية مُتابعة المرضى:
إِذا كان لدى المريض او الرياضيّ الذي ندرس ملفّه أي عامل من عوامل الخطر المذكورة أعلاه، فمن المهمّ أن يتحدّث مع طبيبه المعالج حول كيفية تقليل مُعدلات الخطر. ويدخل في جملة الوسائل والإجراءات التي تُقلّل من المخاطر لدى هكذا مرضى الإلتزام التامّ بمواعيد المراجعة الصحية الدورية مع الطبيب وأخذ كل الأدوية الموصوفة له بحسب الوصفة الطبية والخضوع للإجراءات العلاجية او التدخّلية أو الجراحية حسب توصيات طبيب القلب او الفريق الطبّي الذي يُشرف على حالته.
ان المُتابعة الصحية مع الطبيب المُعالج هي الخطوة الأساسية في هذا السياق. ويجب ان يقوم الطبيب المُعالج بإخبار المريض عن عدد المراجعات الصحية المطلوبة دورياً. ولأجل الحدّ من حدوث نوبات توقف القلب المفاجئ في المستقبل، يعمد الطبيب إلى إجراء بعض الاختبارات التشخيصية لتحديد أسبابها. ويجب ان تشمل هذه الاختبارات التخطيط الكهربائي للقلب (EKG)، وقياس معدل قوة ضخّ القلب للدم ومعرفة حالة صمامات القلب وسماكة عضلة القلب ومراقبة مُؤشرّات اخرى عن طريق التصوير الصوتي للقلب مع إستعمال الدوبلر (Cardiac ultrasound and doppler).
وهنا نُشير الى ان مُعدّل ضخّ الدم هو عبارة عن قياس نسبة ضخ الدم من القلب في كل ضربة قلبية الكسر القذفي(Ejection fraction).،ويمكن قياسه في عيادة الطبيب أثناء إجراء التصوير الصوتي للقلب او خلال غيره من الإختبارات مثل تصوير القلب بواسطة تقنيات التصوير الطبقي المحوري والقسطرة القلبية وإختبار الإجهاد النووي أو تصوير القلب بواسطة الرنين المغناطيسي.
ويتراوح مُعدّل الكسر القذفي للقلب لدى الشخص السليم بين 55 إلى 65 بالمائة، وقد يتقهقر هذا الكسر لدى الشخص بناءً على حالة القلب ومدى نجاح العلاجات المتنوعة.
وفي حال كان الشخص يُعاني من مرض في القلب، فمن المهم قياس هذا المُؤشّر في أوّل مرة يتمّ فيها تشخيص المرض، ثمَّ تكراره حسب الحاجة إستناداً إلى الحالة السريرية للمريض والى التغييرات الطارئة على حالته. وعلى الطبيب تحديد عدد المرات اللازمة لقياس هذا المُؤشّر بشكل دوري لمراقبة تحسّن قوة عضلة القلب ولأخذ الإجراءات اللازمة في حال عدم تحسّن حالتها مع الوقت بعد إجراء كل العلاجات المناسبة.
وفي بعض الحالات قد نستعين بشكلٍ كبير بفحص تخطيط القلب على الجهد (Stress test)، الذي قد نستعمل معه قياس ال (VO₂ max)، وهو الحدّ الأقصى لمعدل استهلاك الأوكسيجين الذي يُمكن تحقيقه أثناء المجهود البدني. وهو فحص نستعمله بشكلٍ كبير عند الرياضيين المُحترفين خاصةً. وهو يعكس لياقة القلب والجهاز التنفسي والقدرة على التحمّل على أداء التمارين، بحيث يُمكن للرياضيين النخبة، مثل عدّائي المسافات التنافسيين أو راكبي الدراجات الهوائية في السباقات الطويلة أو المتزلّجين الأولمبيّين تحقيق قيم (V̇O2) قصوى تتجاوز 90 مل/(كيلوغرام / دقيقة). وكلما ازداد هذا المُؤشّر كلما ازدادت قدرة الرياضي على تحمّل الجهد وبالعكس.
واحياناً اخرى قد نلجأ الى إجراء فحص تمييل شرايين القلب او القسطرة القلبية (Coronarography)، لمعرفة حالة الشرايين التاجية للقلب ومعالجة اماكن الإنسداد فيها، او لكشف بعض التشوّهات الخلقية التي قد تُصيبها وعلاجها ايضاً.
اما في حال وجود “امراض قلبية غير بنيوية” اي في حال وجود-او الشك بوجود- احد امراض كهرباء القلب التي ذكرناها سابقاً والتي قلنا انها “امراض نادرة” لكن يجب دائماً التفكير بها، وهي الحالات الأكثر تعقيداً وتحتاج الى اطباء مُتخصّصين، فإننا قد نستعين بدراسة “فسيولوجيا القلب الكهربائية” (Electrophysiological study). وهي فحوصات مُعقّدة لها اربابها من المُتخصّصين في تشخيص وعلاج امراض كهرباء القلب والذي يُعتبر من اصعب مجالات تخصّصات القلب.
وفي هذا السياق ايضاً، وبما ان بعض هذه الأمراض غير البنيوية له طابع “وراثي” او “عائلي” فإننا بحاجة الى إجراء تحقيق دقيق عند كل اقارب الضحية ولإجراء “التحقيق الجيني التفصيلي” Detailled Genetic)
(survey، لمعرفة ما اذا كان احد افراد العائلة يحمل الجينات المسؤولة عن بعض هذه الأمراض. ويجب أن تتيح هذه التحقيقات العثور على الشذوذ القلبي المسؤول عن الوفاة. واذا كان هذا المرض مرتبط بطفرة جينية مُعيّنة نطلب أن يتمّ البحث عنها بشكلٍ منهجي في الإختبارات التي يقوم بها الرياضيون قبل الحصول على شهادة طبية. كل ذلك يسمح لنا بأخذ كل الإحتياطات اللازمة للوقاية من الموت المُفاجئ عندهم، بما في ذلك عن طريق تركيب صادم كهربائي داخلي (Internal cardioverter-defibrillator)، في بعض الحالات اذا استدعى الأمر ذلك لمنع حصول إضطرابات كهربائية قد تكون مُميتة عند هؤلاء الأشخاص.
اخيراً قد نلجأ في بعض الأحيان الى تشريح جثة الضحية (Autopsy) لأجل البحث عن كل انواع امراض القلب التي ذكرناها ( إحتشاء في عضلة القلب، تشوّهات خلقية في شرايين
القلب او تشوّهات قلبية خلقية اخرى، زيادة سماكة عضلة القلب …)
وقد نأخذ ايضاً عيّنات من الحمض النووي للضحية للبحث عن بعض الجينات او بعض الطفرات الجينية المُرتبطة ببعض هذه الأمراض، في حال الشك بوجود امراض قلبية وراثية.
وهنا لا بدّ من الإشارة ايضاً الى ان اعتلالات عضلة القلب والأمراض البنيوية للقلب يُمكن إكتشافها عبر التصوير الصوتي للقلب أو أثناء تشريح الجثة. اما أمراض كهرباء القلب غير البنيوية فلا يتمّ إكتشافها خلال تشريح الجثة. ولذلك فإذا تمّ التعرّف على جينات مُعينة مسؤولة عن هذه الأمراض، فيجب ان يمتدّ التحليل ليشمل الجينوم بأكمله، لتحديد الطفرات الأخرى التي يُحتمل أن تكون ذات صلة وعلاج حاملي هذه الطفرة واخذ كل إجراءات الوقاية عندهم.
3-اهمية التحقيق الوراثي او الجيني، التجربة الفرنسية مثالاً:
يُصيب الموت المفاجئ عند البالغين حوالي 10000 شخصاً في فرنسا كل عام. اليوم وفي عام 2022 تحديداً، عندما يكون السبب وراثياً كما في حالة معظم امراض القلب غير البنيوية التي ذكرناها سابقاً، فإن التحقيق الوراثي يجعل من المُمكن منع الناجين وأقاربهم من العيش دون خوف من الأسوأ.
ويُمكن حالياً تحديد التعبير السريري لأي مرض يتسبّب بإضطرابات خطيرة في ضربات القلب من خلال طفرة جينية معيّنة. فوجود مثل هذا الجين المُتحوّر مثلاً سوف يُحفّز الموت المفاجئ عند حصول إنفعال نفسي او عاطفي كبير، ووجود جين آخر سيكون مسؤولاً عن موت مفاجئ قلبي ليلي، وآخر سيتسبب بالحدث عند حصول ضوضاء شديدة مثلاً، إلخ. ولا يحدّد الإختلاف الجيني الظروف المُحفّزة فحسب ، بل سيساعد أيضاً في العلاج. وهذا هو السبب وراء سعي “علم الوراثة القلبية” على مدى عشرين عاماً إلى إكتشاف الطفرات الجينية المسؤولة عن الرجفان البطيني او تلك المُرتبطة ببعض الأمراض غير البنيوية التي ذكرناها.
وهناك حالياً في فرنسا ثلاثة مراكز مرجعية مُتخصّصة في علم الوراثة القلبية. وهي مراكز تسعى لتطوير هذه الخبرة التشخيصية بحيث يُحلِّل التسلسل الجيني اليوم لوحة مُكوّنة من 120 جيناً وتنوعاتها ، والتي وثّقها أخصائيو علم الوراثة القلبية حتى الآن.
وفي كل عام يتمّ حالياً في فرنسا إختبار ما يقرب من 1000 مريضَاً جديداً كانوا ضحايا لهكذا حوادث خطيرة
و 1700 من أقاربهم . ويُؤكّد الخبراء ان “الفحص الجيني” يجعل من الممكن تأكيد التشخيص عند الضحية، وإستبعاد الأقارب الذين ليسوا حاملين للمُتغيّر الذي يُسبّب المرض واقتراح العلاج المناسب للمريض. ويتمّ حالياً بفضل هذا الفحص اكتشاف حوالي 35٪ من الإيجابيات، أي 350 أسرة مُتأثّرة. كما يُؤدي هذا الفحص للأسف انقلاب حياة الكثيرين رأساً على عقب بإعلان تشخيص وجود “جين” المرض عندهم!؟.
وبالتالي ، فإن رعاية الأشخاص المُتعافين من توقّف القلب المفاجئ وأقاربهم مُتعدّدة التخصّصات، وتشمل طبيب القلب، طبيب علم الوراثة، عالم الأحياء الجزيئية، طبيب النفس وباحث إكلينيكي. فالعبء العقلي المُرتبط بخطر الموت المفاجئ مُرتفع جداً، والإعلان عن وجود وراثة الجينية لطفرات مُعيّنة يُمكن أن يُولّد معاناة نفسية كبيرة. وعلى الفريق الطبي العامل في هذا المجال الإلزام الكامل بمساعدة المرضى في الحفاظ على نوعية حياتهم وتحسينها. ويجب أن تكون المعلومات الطبية في متناول المريض أو أحد الأقارب لإتخاذ قرار حُرّ ومُستنير.
وإعتماداً على الإختلاف الجيني المُحدّد والطفرات الجينية الموجودة عند الشخص، قد يكون العلاج المُقترح عندهم مُكوّناً مثلاً من ادوية من عائلة “حاصرات بيتا” او ادوية اخرى، أو زرع جهاز مُزيل الرجفان البطيني ( صادم كهربائي داخلي) تحت الجلد.
فالعلاج الأول “يحجب” تأثير الانفعالات العاطفية او النفسية على القلب، والعلاج الثاني هو كما ذكرنا سابقاً يقوم على زرع جهاز طبي يُراقب مُعدّل ضربات القلب ويتدخّل بالصدمة الكهربائية في حالة الرجفان البطيني، وبذلك يلعب هذا الصادم دور “الملاك الحارس في الصدر”. بالنسبة للآخرين ، يوصى بمتابعة بسيطة مع طبيب القلب.
وفي 23 شباط/فبراير 2022، نشرت مجلة Nature نتائج تحليل للمتغيرات الجينية الجديدة التي تُسبّب تغييرات في تكوين العديد من البروتينات المسؤولة عن أمراض القلب وغيرها من الأمراض البشرية لدى أكثر من 653000 فرداً. ويُجمع العلماء من جميع أنحاء العالم، ان هذا البحث الهائل والشامل يُعزّز خبرة علماء الوراثة القلبية وعزّز من أهميتها في تقديم العلاجات الشخصية، وبالتالي فإن الموت المفاجئ اليوم لا ينبغي أن يكون حادثة قاتلة بفضل تقدّم العلاجات الطبية والأبحاث في كل الإتجاهات.
4-الوسائل العلاجية:
كما شرحنا سابقاً فإن اسباب الموت القلبي المُفاجئ تشمل مجموعة كبيرة ومُتنوّعة من الأمراض القلبية “التكوينية” التي قد تطال تروية عضلة القلب، او عضلة القلب ذاتها، ومجموعة اخرى نادرة من الأمراض “غير التكوينية او البنيوية” التي تتسبّب في حصول إضطرابات خطيرة في كهرباء القلب، واخيراً اسباب اخرى غير قلبية فصّلناها جميعها في الأجزاء السابقة. وبعد إستعادة نبض القلب وإنقباضه بشكلٍ طبيعي ومُنتظم، والحصول على ضغط شرياني مقبول مع / او بدون إستعمال ادوية مُساندة، يجب فوراً إدخال المريض الى غرفة “العناية القلبية المركَزة” او “غرفة العناية المُشددة والإنعاش”. وهنا تبدأ رحلة التشخيص السريع والعلاج المُناسب بحسب تقدّم العملية التشخيصية وبحسب التسلسل المنطقي الذي شرحناه في المحور السابق. وفي كل الأحوال هناك العلاج العام الذي يسمح للمريض بالبقاء على قيد الحياة عبر عمليات الإنعاش المُتعددة الأشكال والتي تشمل اجهزة التنفّس الإصطناعي، الأجهزة الميكانيكية لمساندة عضلة القلب في حال حصول قصور خطير وحادّ في عضلة القلب، وغيرها من الوسائل المعروفة لمساندة وظيفة الكلى او الكبد والتخدير وغيره في حال دخول المريض في حالة غيبوبة بسبب تأخّر مُعاودة إقلاع القلب وحصول اضرار كبيرة في الدماغ والجهاز العصبي.
اما العلاج الأهمّ فهو العلاج السببي للحالة. فبحسب تقدّم الفحوصات المخبرية والشعاعية وتخطيط القلب والتصوير الصوتي للقلب وغيرها، سيظهر لنا بسرعة ما إذا كان المريض قد تعرّض لذبحة قلبية حادّة وهنا يجب التوجّه فوراً لإجراء قسطرة قلبية وفتح الشريان او الشرايين المسدودة بواسطة التقنيات المعتمدة. اما اذا ظهر ان السبب له علاقة بمشاكل في عضلة القلب مثل وجود إعتلال قلبي تضخمي او توسعي في عضلة القلب، فهنا ايضاً نلجأ الى العلاجات المناسبة لكل حالة على حدة بحسب خطورة الإصابة ونوعها. واخيراً إذا ظهر ان سبب الرجفان البطيني الذي ادّى الى توقّف القلب ناتج عن مرض غير بنيوي في كهرباء القلب، فهنا يجب الإستعانة بخبرات الأطباء المُتخصّصين في تشخيص وعلاج مشاكل كهرباء القلب الذين قد يلجؤون الى إجراء فحوصات مُتخصّصة ومعقّدة كما شرحنا سابقاً، والى زرع جهاز صادم كهربائي داخلي مُزيل للرجفان البطيني (Internal cardioverter-defibrillator) كما اوردنا ايضاً، او الى بعض العلاجات الأخرى مثل الإجتثاث (Ablation) بواسطة الطاقة الحرارية او الجليد، او لإستعمال بعض الأدوية المُعيّنة التي تُساعد في الوقاية من حصول إضطرابات خطيرة في كهرباء القلب.
5-الوقاية: هل يمكننا تجنب الموت المفاجئ؟
في البداية لا بُدّ من التذكير اننا نتحدّث عن الموت المفاجئ “المُتعافى” او “المُجهض” عندما يقوم أحد الشهود الحاضرين في موقع الحدث بتدليك القلب وبإجراءات الإنعاش القلبي الرئوي التي شرحناها تفصيلياً سابقاً، وذلك أثناء انتظار جهاز إزالة رجفان القلب، والذي سيُصدر صعقة كهربائية لإعادة تشغيل القلب. وتُشير التقديرات إلى أن وجود أجهزة تنظيم ضربات القلب في الملاعب ضاعف عشرة أضعاف فرص البقاء على قيد الحياة بين الرياضيين الذين عانوا من الموت المُفاجئ.
عند المرضى الذين يعانون من أمراض القلب المعروفة، ولا سيما بعد احتشاء عضلة القلب ، تستخدم الوقاية الأوّلية إما الأدوية (مُضادّات عدم إنتظام ضربات القلب أو غير المُضادّة لإضطراب النُظم) في ما يُسمّى المجموعات “عالية الخطورة”، أو الغرس الوقائي لمزيل الرجفان الآلي عند المرضى الذين يتمّ تصنيفهم في مجموعات “شديدة الخطورة”.
وتستند الوقاية الأوّلية وهي الوقاية الخاصة بالمرضى المُعرّضين للخطر ولكنهم لم يعانوا في السابق من عدم إنتظام ضربات القلب او من حالة موت قلبي مفاجئ، إلى 3 أركان اساسية: التثقيف والتعليم حول كيفية الممارسات والنشاطات الرياضية الجيدة، التدريب على الإجراءات المنقذة للحياة، وقبل كلّ شيء على الفحص الطبّي للتأكّد من عدم وجود موانع لممارسة الرياضة.
إن الحدّ من مُعدّل الوفيات من الموت المفاجئ مُمكن. ويجب علينا هنا ان نُعاود التذكير يأنّ مُعدّل البقاء على قيد الحياة بعد التعرّض لحالة وفاة مُفاجئة من هذا النوع هو فقط 3٪ حالياً، بدون حصول إختلاطات وعواقب دماغية او عصبية خطيرة. هذا المُعدّل يُمكن أن يزيد عشرة أضعاف إذا تمّ تدريب المزيد من الأشخاص على إجراءات الإسعافات الأولية التي شرحنا عنها تفصيلياً في الأجزاء السابقة. ومع ذلك، إذا تعرّض احد اقاربك، او اصدقائك، او احد الأشخاص الذين صودف وجودك بقربهم في العمل او في احد الأماكن العامّة او في الطريق، لسكتة قلبية، فتذكّر دائماً الإتصال بالرقم 140 (الصليب الأحمر اللبناني)، او الرقم 125 (الدفاع المدني)، او على ارقام اقسام الطوارئ التي تُقدّم هكذا خدمات في البلد الذي تعيش فيه، او تتواجد فيه اذا كنت في زيارة من اجل السياحة او العمل او اي هدف آخر. وإذا كنت متدرباً على الإسعافات الأولية، فمن الضروري إجراء الإنعاش القلبي الرئوي الذي شرحنا ايضاً تفاصيل إجرائه في الأجزاء السابقة. ويجب إجراء هذا الإنعاش في أسرع وقت مُمكن لكسب الوقت وإستعادة نبض وإنقباض قلبي طبيعي من اجل تفادي حصول تلف دماغي كبير، لأن كل تآخّر في إعادة إقلاع نبض وإنقباض القلب بشكلٍ فعّال يُؤدّي الى اضرار كبيرة في الدماغ. وإذا حدث العارض امامك في مكانٍ عام، فتعرّف بسرعة على وجود أجهزة تنظيم ضربات القلب الأوتوماتيكية أو شبه الأوتوماتيكية
(AED:Automated (External Defibrillator.
هذا ويُعدّ التدريب على بروتوكولات الإنعاش الفعّالة وزيادة توافر أجهزة تنظيم ضربات القلب الخارجية الآلية في الأماكن التي يتمّ فيها ممارسة الرياضة التنافسية من أكثر الإستراتيجيات فعاليةً في المساعدة على تقليل حدوث الموت القلبي المفاجئ عند الرياضيين وتخفيف اضراره اللاحقة.
وبصرف النظر عن حملات التوعية حول “الإجرءات المُنقذة للحياة”، وتركيب “أجهزة تنظيم ضربات القلب التلقائية” في بعض الأماكن العامة وحقيقة دعوة الأشخاص للخضوع لفحوصات مُنتظمة لأمراض القلب، فإننا في الوقت الحالي، لا يُمكننا منع خطر الموت المُفاجئ دون سبب واضح (اي بدون حصول اعراض احتشاء عضلة القلب أو بدون مرض قلبي كامن)، حيث أن أعراضاً قليلة جداً (إن وجدت، وقد لا توجد ابداً!؟) تسبق الموت المفاجئ، مما يجعل عملية التنبؤ بهكذا حدث شبه مُستحيلة.
اما في حالة الأمراض القلبية الوراثية التي ذكرناها سابقاً وهي نادرة كما اشرنا، فأن هناك دراسات عالمية مُتعدّدة تهدف إلى منع حدوث وفاة مُفاجئة غير مُفسّرة، ومنع خطر تكرارها عن طريق اجراء “تحقيق وراثي شامل” في عائلة الشخص الذي تعرّض لهكذا حادث من التحقّق من هذا الإستعداد الوراثي. فيُمكننا البحث عن “الجين المسؤول” عن المرض الذي تمّ تشخيصه في أسرة الضحية، اي الشخص الذي توفي فجأة دون سبب واضح وبالتالي تنفيذ الوقاية وإعطاء العلاج والرعاية المناسبة ومتابعة الحالات عند اقاربه (الوالدين، الأطفال، الإخوة والأخوات، إلخ..). وإذا كان لدى هؤلاء الأشخاص المُقرّبين منه أيضاً عوامل خطر مُرتبطة تزيد من مخاطر حصول الموت المفاجئ مثل مرض السكري، خلل في مستوى البوتاسيوم في الدم، خلل في أنسجة عضلة القلب، “مُتلازمة QT الطويل الخلقي”، وما إلى ذلك، سيكون من المثير للإهتمام أن نناقش فكرة زرع “مزيل الرجفان البطيني الداخلي” او “صادم كهربائي داخلي” عنده (Implantable Cardioverter (Defibrillator : ICD.
6-التوصيات:
من المُمكن ان نتكلّم عن نوعين من التوصيات اللذيْن يُمكن ان ترجمتهما ضمن أسس الوقاية الأولية من هذه الحوادث :
أ-التوعية الصحية لأفراد عائلة المريض: وهي مُهمّة إذا كان المريض يُعاني من أحد عوامل خطر التعرّض لموت القلب الفجائي، وفي هذه الحالة، فإن عليه التحدّث مع أفراد عائلته كي يتفهّموا حالته ويعلموا تفاصيل اكثر عن مرضه ويدركوا ضرورة تلقّيه العناية الطبية الفورية في الحالات الطارئة. ولذلك لا بُدَّ من أن تعرف عائلة وأصدقاء المريض المُعرّض لخطر موت القلب الفجائي كيفية القيام بالإنعاش القلبي-الرئوي الذي تحدّثنا عنه تفصيلياً في الأجزاء السابقة.
ب-توصيات عامة لكل الأفراد وللرياضيين خاصة:
يُوصي المُختصون بالطبّ الوقائي والرياضي بفحص القلب وأوعيته لدى طلاب الثانويات والرياضيين في الكليات، على أن يتضمّن الفحص تقييم طبي كامل ودقيق يشمل استعراض كافة عوامل الخطورة التي ذكرناها سابقاً، التاريخ الصحي الكامل للشخص الرياضي وعائلته بالإضافة إلى الفحص السريري الكامل. ويتمّ تكرار الفحص كل سنتين وإستعراض التاريخ الصحي سنوياً.
وعلى الرجل في سنّ الأربعين عاماً وما فوق، والمرأة في سنّ الخمسين عاماً وما فوق، إجراء اختبار الإجهاد القلبي وتلقي المعلومات الصحية التوعوية فيما يخصّ عوامل خطر الإصابة بأمراض القلب وأعراضها قبل الشروع في اي نشاط رياضي بهدف ترفيهي او احترافي.
وإذا ظهر أثناء الفحوصات أن لدى الشخص الرياضي مشاكل في القلب، فيتمّ إحالته إلى أخصائي القلب لمزيد من التقييم الطبي والفحوصات المُتخصّصة ومن اجل تلقّي العلاجات المُناسبة في حال وجود امراض او اعراض معيّنة قبل اشتراكه في الأنشطة الرياضية الإحترافية التي ينوي المشاركة فيها.
ويُصدر نادي أطباء القلب الرياضيين الفرنسي توصيات دورية للوقاية من حالات الموت المفاجئ عند الرياضيين، سواء على مستوى عالٍ (عند الرياضيين المُحترفين)، او عرضي (اي عند الأشخاص الهواة الذين يمارسون الرياضة من وقت لآخر من اجل التسلية)، وهي تشمل:
أ-قبل مُمارسة أي نشاط رياضي مُنتظم ومُتكرّر او الإحتراف، وإذا كان قد مضى وقت طويل على عدم مُمارسة الرياضة، فمن المُهمّ جداً إجراء فحص طبي للقلب مع طبيبك، خاصة إذا كان عمرك أكثر من 35 عاماً للرجال و 45 عاما عند النساء.
ب-أبلغ طبيبك بأية علامات غير طبيعية قد تحدث لديك وقد تدلّ على وجود مشاكل في القلب عندك مثل خفقان القلب، ألم في الصدر، ضيق غير طبيعي في التنفّس، وتوعّك يحدث أثناء المجهود أو بعده بفترة قصيرة.
ج-تذكّر دائماً أن تقوم بالتحمية لمدة عشر 10 دقائق على الأقلّ قبل الجهد وبتناول السوائل جيداً خلال الجهد، وأن ترتاح لمدة 10 دقائق لكل 30 دقيقة من التمرين.
د-لا تُمارس الرياضة في حالة الإصابة بالحمى أو خلال 8 أيام من الإصابة بالأنفلونزا او اية حالة التهابات فيروسية او ميكروبية خاصة اذا كانت تُصيب الرئتين والقصبة الهوائية.
ه-لا تُدخّن ابداً قبل التمرين بساعة وساعتين بعد التمرين.
و-تجنب تناول مشروبات الطاقة قبل مُمارسة الرياضة مباشرة،ولا تتناول المُنشّطات او المُخدّرات والأدوية التي تُساعد على تحسين الأداء وتجنّب العلاج الذاتي.
ز-في حالة حدوث اية مشكلة، اطلب مشورة طبيبك بدلاً من العلاج الذاتي لأي عارض ولا تتناول اي دواء دون مشورته.
ح-تجنب الأنشطة في درجات الحرارة الخارجية التي تقل عن -5 درجة مئوية أو أعلى من +30 درجة مئوية ، أو أثناء ذروة التلوث.
اما الوقاية الثانوية من هذه الأحداث فهي تشمل كل ما ذكرناه في هذا المحور من المقالة لمنع تكرار الحالة مرّة اخرى عند مريض تعرّض سابقاً لحادث مُماثل، وهذا يعتمد بشكلٍ أساسي على زرع مزيل الرجفان البطيني الآلي الداخلي، عندما تحدث السكتة القلبية في غياب سبب حادّ أو قابل للعكس، بالإضافة الإتّباع المُتشدّد لكل ما ذكرناه عند الحديث عن المقاربة التشخيصية والتحقيق الجيني والعلاج.
د. طلال حمود- طبيب قلب وشرايين. مُتخصّص في الطبّ التدخّلي للقلب وفي امراض القلب عند المُصابين بمرض السكري وعند الرياضيين.
مُنسّق مُلتقى حوار وعطاء بلا حدود