اقتصاد

الاستثمار في الجغرافيا.. هل تصبح السعودية مركزا لوجيستيا عالميا؟

كشف وباء “كورونا” عن مدى ضعف النموذج المالي السعودي أمام مثل هذه الصدمات، وزاد من أهمية تنويع الاقتصاد ووضع حد للاعتماد الحصري على قطاع الطاقة.

وبينما تستفيد السعودية من تداعيات حرب أوكرانيا على سوق الطاقة العالمي، وما نتج عن ذلك من ارتفاع في أسعار النفط، فقد أصبح من الواضح أن الاعتماد على الزيادات الدورية في الأسعار ليس استراتيجية مستدامة لضمان المرونة على المدى الطويل لدولة تتعرض مواردها الهيدروكربونية للاستنزاف.

وتتضمن رؤية 2030 الاستعداد لعصر ما بعد النفط عبر تعزيز القطاعات الأخرى من السياحة إلى التكنولوجيا والطاقة المتجددة. وقد بدأت الخطة السعودية بالتدريج في تحقيق أهدافها، وكان أبرز التقدم في السنوات الأخيرة في مجال الخدمات اللوجستية.

ففي يونيو/حزيران2021، أطلقت السعودية الاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية التي تهدف إلى زيادة جاذبية وتنافسية قطاع النقل السعودي ووضع البلاد كمركز لوجستي عالمي رائد عبر تطوير الطرق التجارية (البرية والجوية والبحرية) وتعزيز كفاءة بنيتها التحتية.

وقد حددت الخطة أهدافًا تشمل جعل السعودية خامس مركز عالمي لركاب الترانزيت، ومضاعفة سعة الشحن الجوي، وزيادة عدد الحاويات السنوية إلى أكثر من 40 مليون حاوية.

ومن بين 92 مبادرة و 378 مشروعا في الاستراتيجية، يبرز مشروع “الجسر البري” نظرا لآثاره بعيدة المدى. وتهدف الخطة المقدرة بـ26 مليار دولار إلى إنشاء خط سكة حديد بطول 800 ميل، يمتد عبر المناطق النائية السعودية ويربط مدينة الدمام (الغنية بالنفط) بجدة.

ومن المتوقع أن ينقل هذا الخط أكثر من 3 ملايين راكب و50 مليون طن من البضائع سنويا بمجرد اكتماله، وهو مشروع يحتاج تنفيذه إلى ما يتراوح بين 5 و7 سنوات، وفق ما يقدره وزير النقل والخدمات اللوجيستية السعودي “صالح بن ناصر الجاسر”.

ورغم أن السلطات السعودية تتوقع إتمام العقود في غضون عام، إلا أن مشروع الجسر البري شهد تأخيرات متكررة بسبب الخلافات المالية بشأن التكاليف الإجمالية والصعوبات في إصدار العطاءات. علاوة على ذلك، قد تعيد القيادة السعودية ترتيب أولوياتها وتختار نسخة أقل من المشروع بسبب الاتجاه لخفض الإنفاق العام.

ويمكن لمشروع الجسر البري ومشاريع التنمية الإقليمية الأخرى، مثل برنامج سكك حديد الإمارات ومشروع سكة ​​حديد مجلس التعاون الخليجي، أن تحدث نقلة هائلة لنظام النقل الداخلي في شبه الجزيرة العربية.

وتبلغ قيمة مشروع السكك الحديدية الإماراتي 13 مليار دولار، ويتضمن بناء شبكة وطنية تربط 11 مدينة رئيسية بين الإمارات السبع. وفي الوقت نفسه، يهدف مشروع سكة ​​حديد دول مجلس التعاون الخليجي إلى إنشاء خط سكة حديد بطول 1315 ميلا يمتد من الكويت إلى عُمان ويربط جميع دول مجلس التعاون الخليجي.

ومن خلال ربط مدينة صحار العُمانية بجدة والحديثة على الحدود السعودية الأردنية ومدينة الكويت، فإن شبكات السكك الحديدية في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي، ستضع الأساس لمجموعة لوجستية تتسم بالكفاءة. ومن شأن ذلك أن يعزز اتصال المنطقة مع ممرات الشحن العالمية، ويكون مفيدا لمبادرة التكامل الاقتصادي بين دول مجلس التعاون الخليجي.

وبالرغم من الإمكانات، فإن هذه الدول -خاصة الإمارات والسعودية- تتنافس على الريادة في مجالات مماثلة؛ مما قد يقلل من احتمالات التعاون. ومع ذلك، فإن الحاجة إلى تأمين سلاسل إمداد مرنة وضمان الأمن الاقتصادي ومعالجة التحديات المشتركة قد تؤدي إلى مرحلة جديدة من العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي.

وإذا نجحت هذه الخطط، فقد تكون شبكة السكك الحديدية سببا في تشجيع دول الخليج العربية على تحقيق المزيد من التكامل الاقتصادي. ولا شك أن خط سكة حديد دول مجلس التعاون الخليجي ليس حلا سحريا للمشاكل المتأصلة بين دول المجلس، لكنه قد يكون ساحة اختبار لأعضاء المجلس حول صياغة حلول مبتكرة.

ورغم أن الظروف المناخية القاسية والتضاريس الوعرة للبيئة الصحراوية في منطقة الخليج تتطلب استثمارات ضخمة في عمليات التخطيط والبناء، فإن هذه التكاليف تتضاءل أمام الآثار الإيجابية طويلة المدى على النسيج الاقتصادي الإقليمي.

ومن بين الفوائد المحتملة الحد من المخاطر المرتبطة بالملاحة عبر خليج عدن، خاصة أنشطة الحوثيين التخريبية وهجمات القراصنة الصوماليين. ومن خلال تجاوز المياه المضطربة في مضيق باب المندب، ستعتمد شركات نقل البضائع على حلول أكثر كفاءة في استخدام الطاقة.

وفي 2 يونيو/حزيران، وقّعت الإمارات والأردن ومصر اتفاقية اقتصادية لتعزيز التعاون الصناعي في العالم العربي؛ مما يسلط الضوء على أهمية بنية تحتية متكاملة للسكك الحديدية على مستوى المنطقة ويوفر فرصة للسعودية باعتبارها “دولة جسر”.

وفي حين أن الموقعين الثلاثة ليس لديهم طرق ربط مباشرة، فإن الرياض تشترك في حدود برية مع الأردن والإمارات وحدود بحرية مع مصر. لذلك، يمكن للرياض الاستفادة من موقعها الجغرافي لتصبح مركزا لإعادة التصدير، وتكون بمثابة قناة للتبادل التجاري مع الإمارات والأردن ومصر.

وإذا نجحت مبادرات النقل هذه، فمن المتوقع أن تصبح جدة المحور الساحلي الذي يربط هذه الطرق التجارية. ومع 62 رصيفا و4 محطات تمتد على ما يقرب من 5 أميال مربعة، يعد ميناء جدة أكبر ميناء سعودي من حيث الحجم ومناولة البضائع؛ حيث تمر 75% من الواردات والصادرات السعودية المنقولة بحرا عبر مستودعاته. وتم تصنيف ميناء جدة في المرتبة 37 في قائمة “لويدز” لأفضل 100 ميناء حاويات في 2021؛ ليصبح نقطة وصل مهمة في شبكة التجارة العالمية.

والتزاما بالأهداف الطموحة للاستراتيجية الوطنية للنقل والخدمات اللوجستية، سعت الهيئة العامة للموانئ السعودية إلى تعزيز قدرة الميناء وبنيته التحتية من خلال حشد استثمارات بملايين الدولارات والسعي إلى شراكات استراتيجية مع الشركات العالمية الرائدة في مجال الخدمات اللوجستية والشحن.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2021، وقعت شركة “مواني” السعودية وشركة “مايرسك” الدنماركية للشحن والخدمات اللوجستية صفقة تقدر بنحو 133 مليون دولار لإنشاء أكبر مجمع لوجستي متكامل للشركة الدنماركية في المنطقة.

وفي 19 يونيو، وقعت شركة “مواني” وشركة موانئ دبي العالمية اتفاقية بقيمة 130 مليون دولار لإنشاء منطقة لوجستية في ميناء جدة. وتقوم موانئ دبي العالمية بالفعل بتشغيل محطة الحاويات الجنوبية بميناء جدة، ولكن بموجب هذه الاتفاقية حصلت الشركة الإماراتية على امتياز لمدة 30 عامًا لبناء أول مجمع لوجستي لها في السعودية.

وفي حين أن تأمين الشراكات مع مشغلي الموانئ البارزين وخطوط الشحن هو الركيزة الأولى لاستراتيجية السعودية لتوسيع وتحديث أنشطة الموانئ البحرية، فإن دعم مشغلي الخدمات اللوجستية المحليين يأتي في المرتبة الثانية.

وتعد محطة بوابة البحر الأحمر أول مشروع بناء وتشغيل ونقل للقطاع الخاص السعودي، ويمثل رأس الحربة في دفع البلاد في قطاع الخدمات اللوجستية. ومع قدرة إنتاجية سنوية للحاويات تبلغ 5.2 ملايين حاوية، تعد محطة بوابة البحر الأحمر أكبر محطة حاويات في السعودية.

وفي ديسمبر/كانون الأول 2019، وقّعت شركة “مواني” ومحطة بوابة البحر الأحمر اتفاقية تشغيل لمدة 30 عاما في القسم الشمالي من ميناء جدة. ومن خلال استثمار 1.7 مليار دولار بحلول عام 2050، تهدف محطة بوابة البحر الأحمر إلى زيادة قدرتها الإنتاجية إلى 9 ملايين حاوية بحلول عام 2030.

وساهمت مبادرة “مواني” الذكية، التي تم إطلاقها في مارس/آذار، في تسريع وتيرة الدفع السعودي في قطاع الخدمات اللوجستية بشكل كبير. وتهدف المبادرة إلى تطوير حلول التشغيل الآلي للعمليات في جميع الموانئ السعودية، وتشمل شراكات بين شركة “مواني” وشركات رائدة في قطاعي التكنولوجيا الفائقة والخدمات اللوجستية مثل الاتصالات السعودية و”إريكسون” و”هواوي” وشركة الموانئ السعودية العالمية وموانئ دبي العالمية ومحطة بوابة البحر الأحمر.

وتهدف هذه الاتفاقيات إلى وضع الموانئ السعودية بين أفضل المراكز اللوجستية العالمية من خلال تقديم خدمات متقدمة وتعزيز جاذبية وتنافسية مرافق الموانئ السعودية. وفي نهاية المطاف، تعكس هذه المبادرة تصميم الدولة على رعاية قطاع الخدمات اللوجستية ووضع تقنيات الثورة الصناعية وتكنولوجيا الجيل الخامس وخدمات الحوسبة السحابية في صميم أجندة التنويع الاقتصادي.

وفي حين أن هذه المبادرات تبشر بتحويل البلاد إلى مركز لوجستي عالمي، إلا أن الطريق لا يزال طويلا. ولا يزال من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت الإنجازات التي تحققت خلال السنوات الأخيرة ستكون بمثابة سباق قصير الأجل، أو مسار طويل الأجل سيمكن السعوديين من تشكيل الريادة الإقليمية في مجال الخدمات اللوجستية التي يحتفظ بها الإماراتيون حاليا.

ومن أجل النجاح، تتطلب المشاريع العملاقة بعض الوقت والتدفق المنتظم للاستثمارات وقيادة صارمة وبيئة إقليمية خالية من التقلبات وانعدام الأمن.

وبناءً على النهج تعاوني بين أصحاب المصلحة السعوديين والتدفقات المالية الهائلة والنخبة المصممة، يبدو أن الرياض عازمة على الاستفادة من موقعها الجغرافي الفريد في جهودها الأوسع لتأمين مستقبل مزدهر بعد النفط.

المصدر | ليوناردو جاكوبو ماريا مازوكو/ معهد دول الخليج في واشنطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى