أخبار محلية

✳️أوراق سياسات : حرب واحدة على أربع جبهات✳️

✳️أوراق سياسات : حرب واحدة على أربع جبهات✳️
خالد فرّاج ـ مؤسسة الدراسات الفلسطينية
يبدو عنوان هذه الورقة غريباً إلى حدٍ ما، إذ يعتقد كثيرون أن الحرب التي تدور رحاها مقتصرة على منطقة قطاع غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي؛ فقد أسفرت هذه الحرب عن سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمفقودين، وتدمير البنية التحتية والفوقية للقطاع، وشمل هذا التدمير المستشفيات والعيادات والمدارس والجامعات والمساجد والمباني التراثية، بالإضافة إلى المزارع والملاعب والأندية، وحتى الأرشيفات والمكتبات سُحقت تحت الأنقاض. وفي هذه الحرب، لم يستثنِ القتل أحداً؛ فقد طال الأطباء ورجال الإسعاف والإطفاء والمعلمين والتجار والمزارعين والرجال والنساء، بمَن فيهم الحوامل وغير الحوامل.
إذن، هذه الحرب الطاحنة لا تستهدف مجموعة معينة في قطاع غزة فحسب، كما تحاول بعض وسائل الإعلام الغربية تصويرها بأنها حرب بين إسرائيل و”حماس”. بل هي حرب تستهدف الشعب الفلسطيني بأكمله في قطاع غزة، وليس فقط “حماس” أو الجهاد الإسلامي أو غيرها من فصائل العمل الوطني الفلسطيني.
هذه الحرب الضارية دفعت المؤسسات الحقوقية والإعلامية، المحلية والإقليمية والدولية، وغيرها إلى تركيز جهودها في قطاع غزة، على الرغم من الحصار الشديد الذي فرضته سلطات الاحتلال، منذ اليوم الأول للحرب على القطاع، بهدف عرقلة جميع الجهود الإنسانية والإغاثية والإعلامية والحقوقية والتوثيقية، وبطبيعة الحال السياسية، حتى إن الأطقم الصحافية وأطقم المنظمات الدولية تعرضت للاستهداف.
في ظل هذه الحرب، واستغلالاً لانشغال العالم بها، عمدت دولة الاحتلال إلى شن حروب أُخرى في ساحات مختلفة داخل فلسطين لتحقيق أهداف لم يكن من السهل إنجازها، أو إنجازها بهذه السرعة، من دون حالة الحرب الجارية وانشغال العالم بما يحدث في غزة، بل ربما كانوا يحتاجون إلى وقت وجهد أكبر لتحقيقها.
تجري الحرب في فلسطين في ثلاث ساحات أُخرى إلى جانب ساحة قطاع غزة. وعلى الرغم من أن حدة هذه الحروب قد تبدو أقل من الناحية الشكلية، فإنها ليست أقل ضراوة من حيث المضمون والنتائج؛ في الضفة الغربية، تندلع حرب حقيقية خُطط لها قبل اندلاع الحرب على غزة، وازدادت حدتها مع صعود اليمين الإرهابي إلى الحكم في إسرائيل. لقد ظهرت هذه الحرب بشكل أوضح، وأصبحت أكثر وضوحاً وتكثيفاً مع بدء الحرب على غزة، وهذا لا يشمل الحرب مع لبنان أو اليمن أو العراق، ولا التهديدات المتبادلة مع إيران، فهذه مواضيع أُخرى تحتاج إلى بحث منفصل، إذ خُصصت هذه المقالة للحديث عما يجري في فلسطين.
أمّا الساحة الثانية فهي ساحة السجون، في مواجهة الأسرى الفلسطينيين الذين تضاعف عددهم أكثر من مرة خلال الحرب على غزة. وهذه الحرب على الأسرى سبقت الحرب على غزة، إذ بدأت ملامحها مع تولي الوزير اليميني إيتمار بن غفير وزارة الأمن القومي في كانون الأول/ ديسمبر 2022، وهي الوزارة المسؤولة عن مصلحة السجون، وتجلت بشكل أوضح خلال الحرب على غزة.
والساحة الثالثة للحرب هي ما يتعرض له فلسطينيو 48 من سياسة القمع وتكميم الأفواه وملاحقة الناشطين والأكاديميين والسياسيين، وبدأت هذه الحرب أيضاً قبل اندلاع الحرب على غزة، لكنها اشتدت مع صعود اليمين المتطرف إلى الحكم في إسرائيل وتوليه وزارات مهمة مثل وزارة الأمن القومي، التي تشرف على جهاز الشرطة. هذا الجهاز، وبتوجيهات عليا، أطلق العنان للجريمة المنظمة في الداخل، لتصبح الاستهدافات أكثر وضوحاً مع بداية الحرب، يضاف الى ذلك حرب الدولة على تعبيرات وتجليات هوية الفلسطينيين في الداخل، فيما يشبه العودة إلى مرحلة الحكم العسكري في الفترة 1948 – 1966.
وفي هذا السياق، سيتم تناول كل ساحة من هذه الساحات بتفصيل أكبر، وخصوصية كل ساحة تجري فيها هذه الحروب، الصغيرة منها والكبيرة، والمعلنة والمستترة، لنتعرف على ما يجري، وكيف ترتبط هذه الساحات بعضها ببعض، من منظور الدولة المحتلة، وما هي النوايا المبيتة لمستقبل هذه الساحات ومستقبل الصراع برمته.
الضفة الغربية
في مؤتمر صحافي عقده رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في مقر إقامته بالقدس، مساء 2 أيلول/ سبتمبر 2024، استعرض فيه مواقفه بشأن الحرب، وصفقة الرهائن، ومحور فيلادلفيا، ومعبر رفح، وغيرها من القضايا المطروحة على الطاولة، ركّز نتنياهو خلال استعراضه على الأهمية الاستراتيجية لاستمرار سيطرة إسرائيل على محور فيلادلفيا. وما لفت الانتباه في استعراضه كان استخدامه لخريطة لا تظهر فيها الضفة الغربية على الإطلاق. وللتذكير، هذه ليست المرة الأولى التي يعرض فيها نتنياهو خريطة بدون الضفة الغربية أو بدون الدولة الفلسطينية المنشودة؛ ففي الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2023، استعرض خريطة “الشرق الأوسط الجديد”، حيث أشارت الخريطة باللون الأخضر إلى الدول التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل، وباللون الأزرق إلى دولة إسرائيل من دون أي إشارة إلى الدولة الفلسطينية أو الضفة الغربية، أو حتى مناطق السلطة الفلسطينية المصنفة “أ”.
بطبيعة الحال، لا يحتاج هذا السلوك من نتنياهو إلى تفسير؛ فقد وضع كل العراقيل أمام أي تقدم في العملية السياسية، وسنّ التشريعات ووضع السياسات التي تحول دون إقامة أي كيان فلسطيني. وهذا التوجه يعكس التزامه تجاه اليمين الديني بهدف الحفاظ على حكمه. ولم يكن اقتحام قطعان المستوطنين لباحات الحرم الإبراهيمي مجرد حادثة عادية، ولم يكن تصريح المتطرف إيتمار بن غفير من هذه الباحات تصريحاً عابراً، بل هو إعلان رسمي من وزير الأمن القومي عن نيته بناء كنيس كحق قانوني وديني لليهود في الصلاة بالحرم القدسي (إذاعة الجيش الإسرائيلي، 26/8/2024). فهذا التصريح ليس للاستهلاك الإعلامي أو الانتخابي، بل هو محاولة لجس النبض، لا لدى الفلسطينيين فحسب، بل لدى شركائه في الائتلاف الحاكم، والقوى الأُخرى في المجتمع الإسرائيلي، والمجتمع الدولي والإسلامي والعربي، لقياس مدى استعدادهم للخطوات التالية. كذلك لا يمكن اعتبار خطوة بن غفير إلاّ عملاً حربياً بامتياز، ذلك بأنه يرمي إلى تغيير الوضع القائم في الحرم القدسي بقوة السلاح، وبحماية القوى الأمنية الإسرائيلية، مستغلاً ما يجري في قطاع غزة لتنفيذ رغبته هذه.
وعندما تقصف طائرة مسيرة مجموعة من الشبان في مخيم نور شمس، وترديهم قتلى، فإن هذا يُعد عملاً حربياً بامتياز. فلم تكن هذه الحادثة الوحيدة، بل سبقتها أحداث مشابهة في جنين وطولكرم وطوباس ونابلس، ذلك بأن تدمير البنى التحتية في مخيمات شمال الضفة الغربية بشكل شبه يومي هو أيضاً عمل حربي بامتياز.
وأيضاً عندما تُشنّ حملة عسكرية واسعة النطاق على مدن ومخيمات جنين وطولكرم وطوباس، وتبدأ هذه الحملة بحصار المشافي ومنع سيارات الإسعاف من التنقل بحرية؛ فالحملة المكثفة على المخيمات الفلسطينية ليست سياسة جديدة، فقد جرى استهداف المخيمات في قطاع غزة والضفة الغربية والشتات من قبل. لكن الهجمة على المخيمات في الضفة الغربية تضاعفت وباتت أكثر وحشية خلال العدوان المستمر على غزة، وخصوصاً على مخيمات شمال الضفة. وربما يعود ذلك إلى الرمزية الخاصة التي يحملها المخيم، والمرتبطة بالنكبة، بالإضافة إلى كونه بيئة حاضنة للمقاومة والمقاومين. وتهدف الحملات الإسرائيلية المتتالية على المخيمات إلى جعلها أماكن غير قابلة للحياة الإنسانية.
وعندما يحتجز وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، والوزير المسؤول عن الإدارة المدنية في المناطق الفلسطينية، مئات الملايين من الشواكل، 3 مليار و674 مليون شيكل، أي ما يعادل المليار دولار أميركي من أموال الفلسطينيين المحتجزة لدى وزارة المالية الإسرائيلية، والتي هي حق لهم من أموال المقاصة التي تحصّلها السلطات الإسرائيلية، فإن هذا يُعد عملاً حربياً بامتياز. وهذا يتكرر في قطاعات الكهرباء والمياه وغيرها. واحتجاز الأموال الفلسطينية وتصرُّف الحكومة الإسرائيلية بها كما تشاء ليس سوى أحد مظاهر السعي المستمر لتقويض السلطة الفلسطينية ومكانتها أمام شعبها وجمهورها. فالاجتياحات المتواصلة لمراكز المدن التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، أي المناطق المصنفة “أ” بحسب تفاهمات وتقسيمات اتفاقية أوسلو، تعد مظهراً آخر من مظاهر هذا التقويض.
إن الإعلان عن نية بناء عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية، مستغلين حالة الحرب في غزة لرفع وتيرة الاستيطان بصورة غير مسبوقة، هو أيضاً عمل حربي بامتياز. والجدير بالذكر أن المؤسسات الاستيطانية والحكومة الإسرائيلية أعلنت في أكثر من مناسبة الشروع في بناء وحدات استيطانية. وفي هذا السياق تم الإعلان، وبصورة غير مسبوقة، عن أكبر مصادرة للأراضي منذ عام 1993، أي منذ نحو ثلاثة عقود، إذ صادقت الحكومة الإسرائيلية على مصادرة 24 ألف دونم من الأراضي الفلسطينية في غور الأردن، وتمت هذه المصادرة تحت مسمى أنها أراضي دولة. أمّا الإعلانات المتلاحقة عن العمليات الاستيطانية والمصادرات، فقد جاءت بعد أن روّع ما يُطلق عليهم “شبيبة التلال” عشرات العائلات الفلسطينية في غور الأردن وجبال الخليل والتجمعات البدوية، ما دفعهم إلى النزوح والرحيل خوفاً على حياتهم وأرزاقهم. فقد بلغ عدد الأفراد الذين نزحوا بسبب هجمات المستوطنين المحمية من قوات الجيش من مناطق مسافر يطا والأغوار 1266 فلسطينياً.
في الوقت نفسه، طُلب من العديد من العائلات الفلسطينية، وخصوصاً في القدس، أن يهدموا منازلهم بأيديهم وعلى نفقتهم الخاصة، وإذا لم يفعلوا ذلك، تتولى السلطات عملية الهدم وتحمّلهم تكاليفها. ومنذ السابع من أكتوبر، وفي الفترة الممتدة بين 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 و26 آب/أغسطس 2024، قامت السلطات الإسرائيلية بهدم أو مصادرة 1446 منشأة فلسطينية، أو أجبرت أصحابها على هدمها في مختلف أنحاء الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، ما أدى إلى تهجير أكثر من 3300 فلسطيني، بينهم نحو 1430 طفلاً. وهذا العدد يزيد عن الضعف مقارنةً بالفترة نفسها قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، حيث تم تهجير 1339 فلسطينياً، بمن فيهم 626 طفلاً. وتشمل عمليات الهدم التي نُفذت بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر نحو 500 منشأة مأهولة، وأكثر من 300 منشأة زراعية، وأكثر من 100 منشأة مخصصة للمياه والصرف الصحي والنظافة الصحية، و200 منشأة تُستخدم لتأمين سبل العيش لأصحابها. كما شهدت البنية التحتية تدميراً في حوالي 28 حادثاً، معظمها في طولكرم وجنين، ما ألحق أضراراً كبيرة بالغالبية العظمى من المباني المتضررة. علاوة على هذا، جرى تعديل شبكة الطرق في الضفة الغربية بما يضمن حماية المستوطنين، ويدفع بهم إلى استخدام الطرق الآمنة المحمية بالأبراج والجنود والحواجز والكاميرات والمجسات الإلكترونية، في حين يُجبر الفلسطينيون على استخدام الطرق القديمة غير المؤهلة، ومنها الترابية وغير المعبدة. ونتيجة ذلك، أصبح الوقت الذي يحتاجه الفلسطيني للوصول إلى بيته أو مكان عمله ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر. وهذا الإجراء، إلى جانب كونه ممارسة عنصرية، يُعد عملاً حربياً بامتياز. وقد وصل عدد الحواجز، بمختلف أشكالها وأنواعها، إلى 707 حواجز (سواتر ترابية، وبوابات، وحواجز مع جنود).
طبعاً، لا يمكن فصل هذه الأرقام والمعطيات، في أي حال من الأحوال، عن آلة القتل اليومي التي تمارسها سلطات الاحتلال وقطعان مستوطنيه؛ فقد بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين على يد القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، 681 شهيداً، سواء بإطلاق النار أو القصف، في حين بلغ عدد الفلسطينيين الذين قُتلوا نتيجة هجمات المستوطنين خلال وجودهم في قراهم أو حقولهم 22 شهيدا.
ورد في هذه الورقة العديد من الأرقام والمعطيات المتعلقة بأعداد الشهداء، والجثامين المحتجزة، ومساحات الأراضي المصادرة، والأموال المصادرة، وأعداد المستوطنين، وضحايا الجريمة المنظمة وغيرها من البيانات. بطبيعة الحال، فإن هذه الأرقام والمعطيات غير نهائية وقابلة للتغير والزيادة مع مرور الوقت.
أمّا المستوطنون في الضفة الغربية والقدس، الذين يبلغ عددهم 710,000 مستوطن فقد أصبحوا مع مرور الوقت القوة الأكثر تنظيماً وتسليحاً. فمنذ السابع من أكتوبر تم إصدار 100 ألف رخصة سلاح فردي جديد للمستوطنين، الذين يمثلون قوة كبيرة في الجيش والبرلمان والحكومة. وهذه القوة تتلقى تمويلاً رسمياً من الحكومة الإسرائيلية، ذلك بأن وزير المالية الإسرائيلي نفسه هو واحد من هؤلاء المستوطنين، وهو نفسه الذي دعا سابقاً، الدولة وليس الأفراد، إلى إحراق قرية حوارة.
الحرب على المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية
تطورت نضالات الحركة الوطنية الأسيرة عبر سنوات الاحتلال لتصبح مع مرور الوقت رافعة حيوية ومهمة لها. فقد حقق الأسرى على مدار عقود الكثير من الإنجازات المتراكمة، وجزء من هذه الإنجازات يتعلق بتحسين ظروف حياة الأسرى وجودتها مقارنةً بما كانت توفره لهم سلطات السجون، بالإضافة إلى الإنجازات المرتبطة بالدور التوعوي والتثقيفي والمكانة السياسية والتنظيمية للأسرى. ومع مرور الزمن، أصبح تمثيل الأسرى في الهيئات القيادية للأحزاب والقوى السياسية الفلسطينية أمراً مفروغاً منه. ومع ذلك، لم يكن تطور إنجازات الحركة الأسيرة أمراً سهلاً، فقد تراكمت عبر سنوات من المواجهة القاسية مع سلطات السجون. وكانت الأداة الأهم بيد الأسرى هي الإضرابات المفتوحة عن الطعام، التي كانت تحظى بدعم قوي من حركة التضامن في الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة.
مرة أُخرى، ومع صعود اليمين إلى الحكم وتولي بن غفير وزارة الأمن القومي المستحدثة، التي تشرف على ما يسمى بمصلحة السجون، بدأ بإطلاق سمومه العنصرية تجاه الأسرى، مستهدفاً ظروف حياتهم في المعتقل؛ فقد حرمهم من المياه الساخنة، وحدد مدة الاستحمام بأربع دقائق، ومنع عنهم الخبز الطازج وحرية الحركة داخل مرافق السجن. واعتبر أن ما كان قائماً قبل توليه منصبه لم يكن سجوناً بل “مخيمات صيفية”، ورأى أنه يجب تصحيح الوضع، وهو التصحيح الذي يعني في هذه الحالة إخضاع الأسرى. في المقابل، اتخذ الأسرى العديد من الخطوات لمواجهة هذه السياسة الجديدة، مثل العصيان داخل مرافق السجون وعدم الامتثال، وتم تحديد موعد للإضراب المفتوح عن الطعام في اليوم الأول من رمضان 2023، ما دفع سلطات السجون إلى التراجع ووقف جميع الإجراءات الجديدة التي حاولت فرضها مع تسلم بن غفير الوزارة.
أمّا بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، فقد تغير الوضع بشكل كامل ودراماتيكي، إذ شنت سلطات الاحتلال هجمة غير مسبوقة على الإنجازات التاريخية للأسرى، مستغلةً تركيز المؤسسات الحقوقية والإعلامية والسياسية على ما يجري في قطاع غزة من حرب إبادة. وفي هذا الصدد، قال أحد المفرج عنهم إن ما يجري داخل السجون بعد السابع من أكتوبر يعيد إلى الأذهان ما كان يجري في السجون مع بدايات الاحتلال، واختصر الحالة بأن السجانين يطلبون من الأسرى مناداتهم بـ “سيدي”.
ما جرى ويجري في قطاع غزة شكل فرصة لبن غفير وشرطته لتحقيق مخططهم الذي أُعدّ قبل الحرب، والهادف إلى سحب إنجازات الحركة الأسيرة الحياتية والحقوقية والسياسية، فبدأت حملة غير مسبوقة تشمل جميع السجناء القدامى والجدد وأسرى القدس والداخل، وبطبيعة الحال الأسرى الجدد الذين بدأوا بالتوافد من قطاع غزة مع بدء العملية البرية أواخر أكتوبر 2023. ومن خلال العديد من الشهادات المكتوبة والمصوّرة، عبر قنوات التلفزة أو وسائل التواصل الاجتماعي، أو التي يرويها أسرى مفرج عنهم، يمكن الاستنتاج أن الهدف الكامن وراء هذه الهجمة هو تحطيم كرامة الأسير الفلسطيني وإنسانيته عبر إقناعه بأنه وحيد وعاجز ومعزول وذليل، وأنه لا جدوى من أي فعل نضالي له سواء أكان خارج الأسر أو داخله. ولتحقيق ذلك، تم تجويع الأسرى وحرمانهم من الاستحمام والحلاقة وغسل الثياب أو تغييرها (لم يسمح لهم بتبديل الثياب التي يرتدونها)، كما حُرموا من التواصل فيما بينهم (الفورة أو النزهة)، واكتظت عنابرهم لتتجاوز سعتها أضعاف ما تتسع له، الأمر الذي اضطر السلطات إلى افتتاح سجون جديدة أو أقسام جديدة في السجون القائمة. إلى جانب ذلك، استهدفت سلطات السجون قادة ورموز الحركة الأسيرة، مثل الاعتداء الوحشي على مروان البرغوثي، وعلى الأسيرة القيادية خالدة جرار التي قررت سلطات السجون عزلها في زنزانة ضيقة لا تدخلها الشمس ولا الهواء، إلى درجة أنها بعثت برسالة عبر محاميها بأنها تموت في زنزانة لا يدخلها الهواء. بالنتيجة، فإن سياسة الحرمان المُعتمدة، بصورة منهجية، منذ السابع من أكتوبر وحتى يومنا هذا، باتت أمراً طبيعياً داخل المجتمع الإسرائيلي الذي يبدو أنه صار يستوعبها، إلى درجة مرور تصريح بن غفير بشأن هذا الموضوع مرور الكرام.
يُشار إلى أن عدد الأسرى قبل السابع من أكتوبر، وبحسب آخر تحديث من مؤسسة الضمير، بتاريخ 19 أيلول/ سبتمبر 2023، بلغ 5200 أسير فلسطيني، في حين أن حالات الاعتقال منذ السابع من أكتوبر تجاوزت العشرة آلاف حالة اعتقال. ويُشار إلى أن هذا الرقم لا يشمل الأسرى من قطاع غزة، الذين تجاوز عددهم الـ 4000، أُفرج عن نصفهم، وتم الإبقاء على النصف الآخر، وضمنهم عدد غير معلوم تحت مسمى “مقاتل غير شرعي”. وقد زادت وتيرة القتل المتعمد نتيجة التعذيب أو الحرمان من العلاج بصورة قياسية، إذ بلغ عدد الشهداء من الأسرى بعد 17 أكتوبر 25 شهيداً، وهو رقم أعلنته سلطات الاحتلال، في حين أن الحديث يدور عن العشرات ممن اعتُقلوا واختفى أثرهم. كذلك تحتجز سلطات الاحتلال جثامين هؤلاء الشهداء من أجل المساومة عليها في أي صفقات تبادل مستقبلية.
الحرب على فلسطينيي الـ 48
بدت لافتة حالة التضامن والوحدة في جميع ساحات العمل الفلسطيني خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في أيار/ مايو 2021، والتي أطلق عليها الفلسطينيون معركة “سيف القدس”، أو “هبّة الكرامة”؛ فبموازاة ما كان يجري في قطاع غزة من تدمير وقصف جوي يستهدف البنايات والأبراج العالية، كان هناك ساحات تضامن ومواجهة، وخصوصاً في الضفة الغربية ومناطق 48، في الجليل والمثلث والوسط والنقب. فقد عمت التظاهرات، وبأعداد كبيرة، ساحات المدن العربية، والمدن المختلطة، مثل حيفا واللد، وكان صدى هذا الحراك التضامني من فلسطينيي 48 كبيراً جداً، إذ برهن على وحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة الحلم الفلسطيني بالحرية في الضفة وغزة والشتات، وتميز هذا الحراك بأنه حراك الشباب والأجيال الجديدة.
انتهت “هبّة الكرامة” وبدأت حرب “طوفان الأقصى”، حيث شهدت غزة والضفة تدميراً واسعاً في مواجهة جديدة ومفتوحة. وبين العدوانين، عملت إسرائيل على تجهيز نفسها لقمع الفلسطينيين داخل أراضي 48 وتكبيدهم ثمن تضامنهم. فأصدرت المحاكم الإسرائيلية أحكاماً قاسية على من تم اعتقالهم خلال “هبّة الكرامة” بهدف الردع. ومع بدء العدوان على غزة، قامت باعتقال المئات بتهمة ما يُسمى “التحريض”، وهي تهمة تُستخدم لقمع حرية التعبير والتضامن مع أبناء شعبهم في قطاع غزة والضفة الغربية. من جهة أُخرى، قامت إسرائيل بتسليح الميليشيات، ما شكّل تهديداً مباشراً لحياة الفلسطينيين في حال خرجوا إلى الشوارع للتظاهر أو للتعبير عن رفضهم للجرائم المرتكبة في قطاع غزة. بالإضافة إلى ذلك، منعت الشرطة التظاهرات، وأقر الكنيست قوانين تهدد بسحب الجنسيات، ما يعني التهجير الفعلي، بالإضافة إلى الطرد من العمل والتضييقات الأُخرى.
ولا تزال آثار وتداعيات تضامن فلسطينيي 48 مع أشقائهم في غزة ملموسة حتى اليوم، حيث تستمر محاكم الاحتلال في إصدار أحكام قاسية على المتهمين بالتحريض والمشاركة في تلك التظاهرات، وتحرمهم من أبسط حقوقهم القانونية والسياسية والمدنية. ليس هذا فحسب، فما بعد حرب أيار/مايو 2021 ليس كما كان قبله فيما يتعلق بعلاقة الدولة العبرية بالفلسطينيين داخلها. فقد أزعج هذه الدولة الكولونيالية أن “العرب في إسرائيل” عبّروا عن مشاعرهم الوطنية والقومية. لذا، عمدت إلى إطلاق يد الجريمة المنظمة والمجرمين في أوساط الفلسطينيين، ليصبح الخبر اليومي العادي هو القتل والإصابة والتفجير والخطف وما إلى ذلك. مع ضرورة الإشارة إلى أنه في معظم الأحوال لا يتم اعتقال المجرم، في الوقت الذي يُعتقل الفلسطيني فوراً بسبب منشور على وسائل التواصل الاجتماعي. وبلغ عدد الضحايا نتيجة الجريمة المنظمة والعنف المتفشي منذ بداية العام الجاري حتى أواخر آب/ أغسطس، أي خلال ثمانية أشهر، 142 قتيلاً.
هذا مثال على ما تنفذه الدولة العبرية تجاه المواطنين الفلسطينيين الذين يحملون جنسيتها، أي سكان البلاد الأصليين الذين يبلغ عددهم مليوناً و750 ألف نسمة. فإلى جانب التهديدات بالقتل والترحيل، تتخذ ممارسات قانونية وتشريعية تهدف إلى سحب الجنسية من كل من يعبّر علناً عن هويته القومية أو الوطنية أو حتى عن التضامن.
ختاماً، وعلى الرغم من الفوارق والاختلافات بين الساحات الأربع (قطاع غزة، والضفة الغربية، والفلسطينيون في مناطق 48، والسجون)، إذ لا يمكن، على سبيل المثال، تشبيه أوضاع الفلسطينيين في إسرائيل، الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، بأوضاع فلسطينيي الضفة الغربية أو قطاع غزة الخاضعين للاحتلال، فإن القاسم المشترك بين هذه الساحات الأربع هو أن حكومة الحرب الإسرائيلية تستهدف الشعب الفلسطيني بأكمله، وتهدد هويته الوطنية ووجوده على أرض وطنه ومستقبله. ولا تأبه هذه الحكومة بالقانون الدولي ولا بالاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها، بل تطمح إلى فرض الاستسلام الكامل على هذا الشعب، الذي اختار في المقابل أن يصمد، ويقاوم، ويرفض كل المخططات التي تحول دون الحصول على حقوقه الوطنية.

https://bawwababaalbeck.com/wp-admin

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى