كيف تأثرت الاقتصادات الآسيوية بالأزمات العالمية؟
لم تكن القارة الآسيوية، صاحبة الثروة البشرية الهائلة والنمو الاقتصادي المُتسارع، بمنأى عن الصدمات التي تعرض لها الاقتصاد العالمي في الفترة الأخيرة، بدايةً من جائحة كورونا وتداعياتها السلبية على القطاعات كافة بسبب حالة الإغلاق في الدول، وصولاً إلى الحرب الروسية – الأوكرانية الراهنة وما تركته من آثار على ارتفاع أسعار السلع المختلفة، لاسيما الطاقة والغذاء والمواد الخام. وخلقت تلك الأزمات تحديات اقتصادية جديدة لدول آسيوية في عدة قطاعات، ومنها التجارة والاستثمار والتضخم.. إلخ.
تحسن بطيء:
منذ أواخر العام الماضي، بدأت الاقتصادات الآسيوية في التعافي، مدفوعة بتخفيف آثار إغلاق الاقتصاد الناتجة عن فيروس كورونا، وتعافي الطلب العالمي على السلع، وعودة حركة النقل والسياحة تدريجياً. وبناءً عليه، وفقاً لصندوق النقد الدولي، فقد بلغ معدل النمو الاقتصادي في منطقة آسيا الصاعدة والنامية خلال عام 2021 نحو 7.3%، مقارنةً بمعدل انكماش بلغ -0.8% في عام 2020. بينما وصل معدل النمو الاقتصادي في مجموعة “آسيان” ASEAN (تضم كلاً من إندونيسيا وتايلاند وفيتنام والفلبين وماليزيا وسنغافورة ولاوس وميانمار وكمبوديا وبروناي) خلال عام 2021 نسبة 3.4%، مقارنةً بمعدل انكماش -3.4% في عام 2020.
وجاءت حالة التعافي في دول آسيا مدفوعة بالأساس بمعدلات النمو القوية التي تحققت في الصين، أكبر الاقتصادات في القارة، والذي بلغ 8.1% في عام 2021، مقارنةً بـــ 2.2% في عام 2020؛ وهذا بفضل النمو في حجم الصادرات الصينية التي وصلت إلى معدل تاريخي، مسجلة 3.36 تريليون دولار، وبزيادة 30% مقارنةً بنظيرتها في عام 2020. وبالإضافة إلى الصين، فإن الهند أيضاً كان لها نصيب من التعافي الاقتصادي، حيث سجل اقتصادها معدل نمو بنسبة 8.9% في عام 2021، مقابل انكماش بلغ -6.6% في العام السابق له.
ظروف ضاغطة:
مع دخول عام 2022، واجه العالم أزمات جديدة أصابت الاقتصاد بحالة ارتباك، في ظل اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية، وما ترتب عليها من تفاقم أزمة سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، وارتفاع أسعار السلع بمعدلات غير مسبوقة، فضلاً عن تبني البنوك المركزية سياسات تقييدية من خلال رفع أسعار الفائدة.
ومعلوم أنه منذ بداية انتشار وباء كورونا، يواجه القطاع اللوجيستي العالمي بالأساس ضغوطاً قوية نتجت عنها أزمة في سلاسل الإمداد والتوريد، وارتفاع غير مسبوق في أسعار الشحن. ومع بداية عام 2022، ارتفعت حالات الإصابة بكورونا في الصين، مما دفع الأخيرة إلى تشديد قيود التنقل من خلال تبني “سياسة صفر كورونا”، وتم إغلاق مدن بأكملها مجدداً، وأبرزها شنغهاي التي يوجد بها أهم موانئ العالم ازدحاماً.
وجدير بالذكر أيضاً أنه منذ بداية الألفية، أصبحت الصين بمثابة مصنع العالم ومصدر رئيسي للسلع المُصنعة والنصف مُصنعة للعالم. وهذه كلها عوامل مكّنتها من السيطرة على سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، لتتخطى حجم صادراتها في عام 2021 حاجز 3 تريليونات دولار؛ أي ما يوازي 14% من حجم الصادرات العالمية.
على جانب آخر، فإنه مع الارتفاع المتتالي لمعدلات التضخم في الولايات المتحدة، اضطر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لرفع أسعار الفائدة 3 مرات بمعدل 0.25% و0.5% و0.75% على الترتيب خلال العام الحالي؛ لكبح ارتفاع التضخم. وواكب ذلك قيام معظم البنوك المركزية الآسيوية، وبالأخص الدول النامية المُعتمدة على تدفقات الاستثمارات في أدوات الدين الحكومية (الأموال الساخنة)، برفع أسعار تكاليف الإقراض.
وسوف يُلقي رفع الفائدة في دول آسيا بمزيد من الضغوط المالية على اقتصاداتها، بالإضافة إلى تراجع معدلات النمو الاقتصادي، وارتفاع مستوىات البطالة؛ وهو ما ستظهر تبعاته خاصةً لاقتصادات مثل الهند، وهي ثالث أكبر اقتصاد في آسيا، حيث اضطرت إلى رفع معدلات الفائدة في مايو الماضي من 4% إلى 4.4%، ثم إلى 4.9% يوم 8 يونيو 2022. ولم تكن الهند الوحيدة التي لجأت إلى رفع سعر الفائدة، ولكن تبعتها دول آخرى مثل باكستان والفلبين وماليزيا.
انعكاسات سلبية:
تفرض التغيرات الطارئة على الساحة الاقتصادية والسياسية الدولية، تبعات سلبية على الاقتصادات الآسيوية، حيث يمكن إيجازها على النحو التالي:
1- تباطؤ النمو الاقتصادي: في ضوء المُعطيات السابقة، خفض صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصادي العالمي في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي في أبريل 2022، مُتوقعاً انخفاض النمو في قارة آسيا إلى 4.9% في العام الجاي، مقارنةً بمعدل نمو وصل إلى 6.5% خلال عام 2021.
ويُرجح صندوق النقد الدولي أن يسود التباطؤ الاقتصادي في غالبية دول القارة الآسيوية، من الصين والهند إلى كوريا الجنوبية واليابان، وصولاً إلى إيران وباكستان. وربما الاستثناء سيكون في مجموعة الآسيان، حيث يتوقع الصندوق أن تنمو دولها خلال 2022 بمعدل 5.3% مقارنةً بمعدل نمو 3.4% في العام الماضي.
2- ارتفاع معدلات التضخم: أصبح الارتفاع المُستمر في أسعار السلع والخدمات أكثر ما يؤرق الاقتصاد العالمي في الدول المُتقدمة أو النامية. فالحرب الروسية – الأوكرانية وما تركتها من أثر على أسعار السلع الغذائية والطاقة والمواد الأولية، بالإضافة إلى استمرار أزمة سلاسل الإمداد والتوريد واختلالات الطلب والعرض؛ هذه كلها عوامل دفعت معدلات التضخم في آسيا إلى مستويات غير مسبوقة. وكان الارتفاع أكثر تأثيراً على الدول النامية والمُعتمدة بشكل أساسي على الواردات.
وفي هذا الإطار، قفز مؤشر أسعار المستهلكين في دول مثل إيران خلال أبريل 2022 ليصل إلى 35.6%. كما صعد المؤشر في سريلانكا، الدولة التي تعاني مشاكل مالية جعلتها تتخلف عن سداد ديونها، إلى 29.8% في نفس الشهر مقارنةً بـــ 18.7% في مارس الماضي، وكانت الزيادات مدفوعة بشكل أساسي بارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود.
3- تعثر في سداد الديون: ترى المؤسسات الاقتصادية الدولية أن من الآثار السلبية الجوهرية لجائحة كورونا على الدول النامية، ارتفاع سقف الاقتراض ومن ثم المدينوية الخارجية لتلك الدول، حيث إنها لجأت إلى الاقتراض من الخارج لتعويض نقص إيراداتها من مصادر النقد الأجنبي؛ بسبب حالة الإغلاق الاقتصادي، وتراجع إيرادات قطاع السياحة، وتباطؤ الصادرات.
وكانت جائحة كورونا بمنزلة صدمة لدولة سريلانكا، المُعتمدة بشكل أساسي على إيرادات السياحة، وزدات أعباء الديون فيها بشكل كبير، وباتت غير قادرة على الوفاء بمستحقات الدائنين. وأعلنت سريلانكا مؤخراً تخلفها عن سداد ديونها الخارجية البالغة 51 مليار دولار، ولا تعد مشكلة الديون فيها وليدة التطورات الأخيرة فقط؛ وإنما نتيجة التوسع في الاقتراض قبل سنوات من أجل تطوير البنية التحتية للبلاد. وسبق أن اضطرت سريلانكا في عام 2017 للتخلي عن أهم الموانئ في البلاد؛ وهو “ميناء هامبنتوتا” لصالح شركة صينية بعد تعثرها في سداد ديون لبكين بقيمة 1.4 مليار دولار.
4- ضغوطات على أسعار الصرف: مع رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة 3 مرات منذ بداية العام الحالي، تعرضت أسعار صرف عملات الدول الآسيوية لضغوط شديدة، خاصةً مع تخارج الاستثمارات غير المباشرة في أدوات الدين الحكومية والبورصات المحلية. وصاحب ذلك ارتفاع معدلات التضخم، وتآكل القوة الشرائية للعملات المحلية للعديد من الدول. وفرض ذلك تحديات جديدة أمام البنوك المركزية للبلدان الآسيوية من أجل تغطية عملية تخارج الأموال الساخنة من أسواقها، مُضطرة للسحب من احتياطيات النقد الأجنبي. ولعل “الروبية” السريلانكية كانت أكثر العملات تأثراً في آسيا، مُنخفضة إلى مستوى قياسي في الأشهر الأخيرة (1 دولار الأمريكي = 360.99 روبية سريلانكية)، لتصبح بذلك العملة الأسوأ أداءً في العالم منذ بداية عام 2022.
5- اضطرابات داخلية في بعض الدول: مع ارتفاع معدلات الأسعار بالتوازي مع نقص الإمدادات من السلع المختلفة مثل الغذاء والوقود وانقطاع الكهرباء، اندفع السكان في عدد من الدول الآسيوية للتظاهر وتنظيم الاحتجاجات اعتراضاً على الأوضاع المعيشية الصعبة. وظهر ذلك بوضوح في باكستان التي تعاني من أزمة سياسية داخلية بعد رحيل رئيس الوزراء السابق، عمران خان، إلى جانب إيران التي تضاعفت فيها معاناة المواطنين في ظل العقوبات الغربية على الاقتصاد بسبب البرنامج النووي، وشهدت خروج احتجاجات على ارتفاع أسعار الغذاء.
كما شهدت سريلانكا احتجاجات كبيرة اعتراضاً على الأوضاع الاقتصادية الصعبة، ونقص المواد الأساسية والوقود. ومن المُتوقع انتشار الاضطربات الداخلية في العديد من الدول الآسيوية، خاصةً النامية، مع ترجيحات بنقص الإمدادات الأساسية، واستمرار ارتفاع مستويات الأسعار.
آفاق الأزمة:
من المُرجح أن تؤدي البيئة الدولية المُضطربة على خلفية الحرب الأوكرانية، بالإضافة إلى أزمة سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، والارتفاع المُتوقع لأسعار الفائدة في الولايات المتحدة خلال الاجتماعات القادمة في العام الجاري إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في آسيا، لتقترب من الدخول في “ركود تضخمي”.
ويبدو هذا الأمر متوقعاً، خاصةً مع التقديرات التي تشير إلى أن أسعار السلع الأساسية ستستمر في الارتفاع بالأجل المتوسط. ويرى البنك الدولي أن تأثير الأزمة الأوكرانية على أسعار السلع سيمتد حتى عام 2025، بينما سيكون أكثر شدة خلال العام الجاري مع ارتفاع أسعار كلٍ من الطاقة بأكثر من 50%، والقمح بنسبة 40%، والنفط بـــ 40%، والفحم بــــ 80%، والسلع الزراعية والمعادن بنسبة 20%.
وسيكون لارتفاع أسعار السلع الأساسية تداعيات كبيرة على الاقتصادات الآسيوية، بما في ذلك إندونيسيا وبنجلاديش وباكستان، في الأجل القصير، حيث تعتمد معظمها على تأمين إمداداتها من مصادر الطاقة والغذاء والسلع الأولية من روسيا وأوكرانيا؛ مما سيخلق مزيداً من الضغوط التضخمية، فضلاً عن خسائر النشاط الصناعي والزراعي.
الخلاصة، يمكن القول إن الأوضاع الاقتصادية في القارة الآسيوية تتأزم تدريجياً في ظل حالة “عدم اليقين” التي أصابت الاقتصاد العالمي، والمُستمرة منذ تفشي وباء كورونا، وحتى الحرب الأوكرانية – الروسية، ولتفرض بذلك مصاعب مالية ونقدية أمام الاقتصادات الآسيوية؛ وعلى نحو يجعل التعافي الاقتصادي في العديد من دول القارة غير وارد على الأقل في غضون العام الجاري.