وسط التحولات الجيوسياسية.. هل تتمكن الصين من الموازنة بين السعودية وإيران؟
عندما بدأت الصين الانخراط كلاعب في الشرق الأوسط قبل نحو 4 عقود، اعتمدت بكين سياسة ذكية تتمثل في “الحياد المتوازن”، وما تزال تحاول الحفاظ على هذه السياسة حتى الآن.
في ذلك الوقت، كانت تعاملات الصين مع دول الشرق الأوسط مقصورة على مبيعات الأسلحة. وخلال الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات، ساعدت هذه السياسة المتوازنة الصين على بيع الأسلحة لكل من طرفي النزاع.
ومع ذلك، فإن الوضع تغير بالنسبة للصين في الشرق الأوسط. وبعد مبيعات الأسلحة في الثمانينيات، أصبحت الصين مستوردًا للطاقة من السعودية وإيران في التسعينيات، ثم تداولت السلع واستثمرت ونقلت التقنيات الحديثة لاحقًا إلى كلا البلدين.
وهكذا أصبحت السعودية وإيران (المتنافستان بشدة) شريكين رئيسيين للصين، وما تزال بكين تحاول الموازنة بينهما، وتتجنب دعم طرف على حساب طرف.
ويعد الهدف الرئيسي للصين في الشرق الأوسط هو التجارة واستكمال مبادرة الحزام والطريق. وعلى عكس الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لا تربط الصين التجارة ونقل التكنولوجيا بأى إجراءات متعلقة بأداء النظام السياسي أو حقوق الإنسان.
وبدلاً من ذلك، تبحث الصين عن موطئ قدم اقتصادي دون الانخراط في المشاكل السياسية والتنافس الجيوسياسي بين دول الشرق الأوسط. وهذا هو السبب في أن بكين لم تورط نفسها في التنافس بين الخصمين اللدودين السعودية وإيران.
وفي عام 2016، توترت العلاقات الإيرانية السعودية بعد إعدام رجل الدين الشيعي “نمر النمر”، وقامت الرياض بقطع العلاقات مع طهران في 3 يناير/كانون الثاني 2016، بعد أن هاجم إيرانيون غاضبون السفارة السعودية في طهران. ولم تدافع الصين عن أي جانب وحافظت على موقف محايد مع حث جميع الأطراف على ضبط النفس.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية “هوا تشونينج” في مؤتمر صحفي: “إيران والسعودية دول مهمة ومؤثرة في الشرق الأوسط. وتريد الصين تطوير علاقات ودية وتعاونية مع الاثنين وفقًا للمبادئ الخمسة للتعايش السلمي”.
توازن عسكري واقتصادي
حافظت الصين على موقعها المحايد عبر التعاون التكتيكي مع الخصمين، ففي 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، عقدت الصين تمرينًا بحريًا مشتركًا مع السعودية تحت اسم “السيف الأرق” في وقت تصاعدت فيه التوترات في الخليج على خلفية هجمات على ناقلات النفط وهجوم كبير للطائرات المسيرة على مرافق الطاقة السعودية.
وبعد بضعة أسابيع في 27 ديسمبر/كانون الثاني، أطلقت الصين تمرينًا عسكريًا مشتركًا لمدة 4 أيام مع روسيا وإيران في المحيط الهندي وخليج عمان.
أما فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية، فإن الصين تحاول تحقيق توازن نسبي بين البلدين – بقدر ما تسمح به العقوبات على إيران – بناءً على مصالحها الخاصة.
وقد قبلت الصين كل من السعودية وإيران كأعضاء مؤسسين في “البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية” في أبريل/نيسان 2015. وبالرغم أن إيران تخضع لعقوبات مشددة، فإن الصين لم تفرق بين الرياض وطهران وقبلت الاثنين كعضوين مؤسسين.
وتعد القدرات العسكرية أحد أهم الشواغل المشتركة بين إيران والسعودية، وحاولت الصين تحقيق توازن حساس نسبيًا في هذا الصدد حتى لا تتهم بالدعم العسكري لأحد البلدين على حساب الآخر. ويعد هذا التوازن العسكري مهما للغاية من وجهة نظر دول الشرق الأوسط، وهو عامل تدركه الصين جيدًا.
ولعبت الصين دورًا مهمًا في توطين الأسلحة الإيرانية، فقد قدمت بكين تقنيتها العسكرية للإيرانيين، الذين تمكنوا من استخدامها لبناء صواريخ قصيرة المدى مثل “نازعات” و”أوغاب” وحتى “شهاب 3” طويل المدى.
بالإضافة إلى ذلك، ففي عام 2010 ساعدت الصين إيران على إنشاء مصنع “نصر” لبناء صواريخ كروز المضادة للسفن، وذكرت التقارير أن هذه الصواريخ متطابقة تقريبًا مع صواريخ “C-740” الصينية.
ونظرًا لأن تطوير الصواريخ في إيران قد يواجه معارضة من خصمها اللدود السعودية، فإن الصين لعبت دورا أيضا في دعم السعودية حتي لا يتم اتهامها بالإخلال بالتوازن العسكري بين دول الشرق الأوسط.
ونهاية العام الماضي، أعلنت المخابرات الأمريكية أن السعودية أنتجت بمساعدة الصين صواريخ باليستية ذات وقود صلب. وتم نشر خرائط الأقمار الصناعية التي تبين مصنع الصواريخ الذي تم إنشاؤه بالقرب من مدينة الدوادمي غربي الرياض.
موازنة تطوير الجيل الخامس
تنخرط دول الشرق الأوسط في منافسة شرسة على التقدم الاقتصادي والهيمنة. وعلى سبيل المثال، تستعد الإمارات والسعودية لاقتصاد ما بعد النفط، وتطمح إيران في الاستثمار في نقل التكنولوجيا وإعادة بناد الاقتصاد بعد استئناف الاتفاق النووي. ويمكن أن تلعب الصين دورًا مهمًا بالنسبة للسعودية وإيران في هذا الصدد، طالما تمكنت بكين من الحفاظ على الموازنة بين الخصمين.
واستثمرت الصين بشدة في تطوير شبكة الجيل الخامس. وبعد انسحاب “ترامب” من الاتفاق النووي في عام 2018، اضطرت شركة الاتصالات السويدية “إريكسون” إلى مغادرة إيران، بعد أن تعاونت طهران و”إريكسون” في تطوير شبكة الجيل الخامس في البلاد. وبعد رحيل “إريكسون” حلت “هواوي” (عملاقة الاتصالات الصينية التي اتهمتها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بالتجسس لصالح الحكومة الصينية) محل “إريكسون” بضوء أخضر من الحكومة الصينية في مشروع تطوير شبكة الجيل الخامس.
ومنعت الولايات المتحدة حلفاءها في الخليج (مثل السعودية والإمارات) من تطوير شبكة الجيل الخامس مع “هواوي”، لكن الصين قدمت أدوات تكنولوجية أخرى لتحقيق التوازن في علاقتها بين السعودية وإيران. وخلال زيارة ولي العهد السعودي الأمير “محمد بن سلمان” إلى بكين في عام 2017، تعهد الجانبان بتطوير التعاون الفضائي.
ووقع الجانبان اتفاقية تتضمن مشاركة السعودية في مهمة “Chang’e-4 Moon” التي تقودها الصين، وهي عبارة عن مشروع فضاء متقدم للهبوط والبحث على سطح القمر. بالإضافة إلى ذلك، أطلقت الصين اثنين من الأقمار الصناعية الاستطلاعية السعودية. وفي ديسمبر/كانون الأول 2018 ومارس/آذار 2022، وقع البلدان مذكرة تفاهم لتطوير تكنولوجيا الفضاء.
أما في قطاع الطاقة، فقد أثبتت بكين قدرتها على إرضاء طهران والرياض في ذات الوقت بالنظر إلى أن كلًا من السعودية وإيران هما من مصدري الطاقة إلى الصين.
وقد تواصل المسؤولون السعوديون مع الصينيين بعد قرار مجلس الأمن رقم 1929 في يونيو/حزيران 2010 لإقناعهم بدعم العقوبات ضد إيران. وتعهد السعوديون للمسؤولين الصينيين بأنهم سيضمنون إمدادات النفط إلى الصين بدلاً من إيران، حتى تتمكن بكين من مغادرة سوق الطاقة الإيرانية دون القلق بشأن تلبية احتياجاتها من الطاقة.
ولم تقبل بكين الصفقة واستمرت في تعزيز تجارتها مع إيران حتى زاد حجم التجارة بين البلدين من 21 مليار دولار في 2009 إلى 41 مليار دولار بين عامي 2010 و 2014.
وعلى مدار 4 عقود، سعت الصين إلى متابعة أهدافها الاقتصادية في الشرق الأوسط، والبحث عن أفضل استراتيجية لتحقيق التوازن بين دول المنطقة بما في ذلك الخصمين اللدودين السعودية وإيران. ومع ذلك، يبقى أن نرى ما إذا كانت بكين ستتمكن من الحفاظ على نهج متوازن بين البلدين بالرغم من تغير الديناميات الجيوسياسية، أو ما إذا كانت ستضطر لتبني نهج جديد.
المصدر | محمد سلامي/ إنسايد أرابيا