أخبار محلية

اكبر تحقيق عن مكتبة السيد عبده مرتضى الحسيني

بقلم الاستاذ الموسوعي د حسن عباس ن ص ر الله

مكتبة عبده مرتضى الحسيني :

قيض المدينة بعلبك أحد ابنائها

، لمسته احرف الكلمات، وابتسمت له سطور الكتب ، واستهوته طموحات المعرفة … فبدأ يلملم مصادرها ، ويقرأ بنهم مضامينها وهكذا بدأت رحلة السيد عبده مرتضى الحسيني. أكبر مكتبة خاصة في الشرق الأوسط.

ولد في بعلبك عام ۱۹۱۸ م ، نشأ يتيماً حرم عطف الاب وعطاءه ، فحبت الأم حناناً مضاعف. وفي سن مبكرة عام ۱۹۳۰ م تفتحت موهبته هواية في جمع الكتب واقتناء المعرفة ، جمع كتب الدراسة واضاف اليها مصنفات الادب والجرائد والمجلات … انها هواية طموحة ، هانت امامها الصعاب وهوت حواجز العرف. لقد التقط نوى (المشمش ) وباعه في موسمه ولملم المسامير المرمية في الطرقات وأمام مصانع النجارين وباعها في مواسم دائمة. وجمع الرصاص من ساحة الرماية التدريبية التي كان يجريها جيش المستعمر الفرنسي. ووفر القروش الموهوبة اليه من
والدته … واشترى الكتب . وفي عام ١٩٣٧م بعد ان تخرج من مدرسة الصنائع والفنون الجميلة

في بيروت دخل سلك التعليم ، وخص هوايته بقسم من راتبه ، وحركته المغريات إذ كلما امتلك كتاباً أحب آخر. وتفاعلت صبابة المعرفة و استحكمت الهواية بلبته لأن الانسان يساوي معرفة ) فخرج مرة ثانية على العرف القبلي ، وباع البستان والطاحون والبيت .

باع ما ورثه الأب ، وهذا في نظر المجتمع عقوق ، فضَّل نسب المعرفة على نسب الدم . ضحى في سبيل الأسفار حتى كبرت المكتبة بعد أن رفدها بمكتبات قديمة لمفكرين وكتاب لبنانيين . جمع بعصامية حتى بات يُعد من (صرعى الكتب ) الذين حدثنا عنهم التاريخ .
أما ذهب الطبيب الفارسي الى بلاد الهند ، وأقام سنوات متنكراً ليسرق من خزانة ملكها کتاب بيدبا الفيلسوف » اصل «كليلة ودمنة » ؟

وهذه بعض وقائع جماعي الكتب حديثاً في العراق للمقارنة بين (صرعى الكتب ) المبالغين في اقتنائها والضنة بها . (ان الشيخ ميرزا حسين النوري ) ، المتوفى عام ۱۹۰۰م في النجف ، تفانى في جمع الإعلاق حتى ملك الف مجلد بخطوط مصنفيها. وهذا لم يتفق حتى في خزائن الملوك .

وله نوادر مثيرة اذ كان يقايض الكتب بحلله الفاخرة ، ويعود إلى منزله عاريا ، الا من كتاب حسب اقتناءه سعادة الحياة . ونافسه أمير هندي – وظل مقصرا – اذ جمع سبعماية مخطوط بتواقيع مؤلفيها …

ولكن صاحبنا البعلبكي قال : ان كان الشيخ ميرزا بادل جبته بالكتاب فانا لم اشتر الجبة ، ولم ارفل بحريرها، ولم انعم بالوانها الزاهية ، بل كنت أحياناً أطوي جائعاً لأنني دفعت كل نقودي لكتاب عزيز اغذي بمحتواه روحي ، وأسكت جوع الجسد بفرحة المعرفة … وإن كان الشيخ علي آل كاشف الغطاء قد جاب الحجاز وتركية وايران ومصر وسوريا سعياً وراء النفائس ، ونسخ في رحلته المخطوطات الفذة التي رفض مالكوها بيعها ، فإن السيد عبده قد جمع آلاف العناوين المؤسسات كتبية. وأتجر معها . اتصل بمختلف المكتبات العامة ودور النشر ، والمجامع العلمية، واتحادات العلماء ، والصحفيين ، والشعراء ، والمؤرخين في القارات الخمس يطلب اليهم تزويده بمنشوراتهم، ومؤلفاتهم ويقايضهم بفائضه . وقد نمت مكتبته المعجزة عن طريق الشراء والمقايضات والهدايا .

وكان يغتنم الفرص عندما تعرض مكتبات للبيع ، فباع العقار الموروث ليشتري مكتبات : جرجي نقولا باز ، ويوسف صفير ، ورشيد سنو ….. خلق لتفتنه الكتب فتنة قل أن تعهد في غيره ، فعكف على نشدانها وطلبها في مظانها فتيسر له جمع ما ليس باليسير . فكان من (صرعى الكتب ) .

يصبو الى توافر أصول المعرفة وفروعها ، حتى إذا اراد الانسان التعرف الى شاعر أو ناشر أو حاكم ، أو علم من العلوم أو مدينة أو وقعة تاريخية او مذهب أدبي أو مسألة نحوية وصرفية مد يده الى رف المكتبة واخذ المرجع الذي يشرح، ويفصل، ويحلل ويروي الظمأ باللغة التي يريد .

وهذا التكامل موجود في مكتبة (السيد عبده ) التي اصبحت مجموعة مكتبات كل واحدة منها تحكي قصة الحياة في تشعب العلوم : الادب وتاريخه قديماً وحديثاً رواية ومقارنة وتحليلاً.. عربياً وأجنبياً ، والفلسفة ، وعلم النفس والاجتماع والتاريخ ، والجغرافية ، والفلك ، والطب ، والهندسة ، والسياسة ، والاقتصاد بفروعه : الزراعة والصناعة والتجارة ، والتراجم والسير، والقواميس والمسرح ، والقصة والسينما ، والفنون الجميلة، والاديان : الاسلام والمسيحية والصابئة ، واليهودية … وهذا التكامل لم يقتصر على اللغة العربية
لأن. ٨٥ ٪ من المحتويات لغتها العربية والفرنسية والانكليزية
و ١٥ ٪ تتوزعها بضع عشرة لغة أهمها : اليونانية واللاتينية ، والالمانية ، والايطالية ،، والفارسية ، والتركية ، والروسية ، والهندية. ، والبولونية … وأهم المجموعات :

۱ – دائرة معارف من ۳۷ مجلداً تترجم لمفكري اليونان والرومان باللغة الفرنسية. وهي تحفة علمية – اثرية لأنها مطبوعة عام ١٧٦٦ م .

۲ – المؤلفات الكاملة لفيكتور هيجو) بحجم موسوعي تضم ۲۹ مجلداً تزينها لوحات بريشة الشاعر نفسه . مئات الدواوين الشعرية ، تغطى عطاء العرب في مفخرتهم من الجاهلية حتى العصر الحاضر.

٤ – أمهات الكتب العربية ، بطبعاتها الأولى ، وأحيانا بطبعات متلاحقة وأشهرها مؤلفات : ابن المقفع، والجاحظ، وأبي الفرج الاصفهاني وابن قتيبة ، وياقوت الحموي ، والطبري ، والمسعودي ، وابن خلكان ، وابن عبد ربه ، والشريف المرتضى ، والقالي والمبرد وابن خلدون

ه – مجموعة (ماذا اعرف ( الفرنسية .؟ Que Sais je
٦ – مجموعة لاهوتية تقدر بمئتي مجلد، تتحدث عن سير القديسين، باللغة اللاتينية .

  • مجموعة قواميس علمية فلك) – كيمياء – فيزياء – طب ) بلغات مختلفة منها قاموس في الكيمياء : فرنسي – فنلندي ، واخر في اللاهوت لاتيني – الماني ، وثالث في علم الفضاء : بولوني – انكليزي ….. ولا اقول يصعب تعداد الكتب المتوافرة بل يستحيل لأنها تقارب مائة الف مجلد .

ولذلك يندر الكتاب العربي المطبوع الذي لا تضمه رفوفها .

قسم المخطوطات : فقير في المكتبة ومرد ضحله الى غلاء المخطوطات ، وصعوبة الحصول عليها ، وندرتها في بلادنا ، والمخطوطة اذا نشرت فقدت قيمتها العلمية ، وتغدو قطعة اثرية ، لأن المطبوع اسهل قراءة ، وأيسر اقتناء .
ولما كانت غاية صاحب المكتبة جمع الثقافة ، والمعرفة ، اعرض عن العلمية شراء (المخطوطة التحفة ) واستبدلها بعشرات المطبوعات ذات الفائدة

ومن مخطوطات المكتبة

أ ـ خمس نسخ خطية من القرآن الكريم يعود تاريخ نسخها الى أكثر من خمسماية سنة

ب – رسالة من عبد الله باشا والي عكا الى الامير بشير الثاني عام ١٢٤٧ هـ / ١٨٣١م. يحثه فيها على التصدي للغزو المصري بقيادة
ابراهيم باشا

ج – رسائل اصبحت وثائق تاريخية من متصرفي جبل لبنان (واصه – رستم . . ( ارسلوها الى بعض الأعيان في جبل لبنان .

قسم المجلات :.

ضم ذخيرة نفيسة من المجلات الادبية والعلمية الصادرة في القرنين الماضي والحالي أشهرها : المقتطف ، والمشرق والهلال ، والمسرة ،الجنان، والمجمع العلمي العربي. والمجمع العلمي العراقي ، والعرفان ، والأديب، ودراسات عربية ، والموقف الادبي ، والفكر الاسلامي ، وصدى الاسلام . فضلا عن المجلات الاجنبية الراقية .

قسم الجرائد :

تتكدس عشرات الألوف من الجرائد التي ابصرت النور في البلاد العربية وأهمها اعداد من الجوائب لأحمد فارس الشدياق الاستانة ١٨٦٠) م ). ولسان الحال ، والحياة . بل كل ما صدر منها في لبنان . .

ويصعب تعدادها لأنها تزدحم في غرفتين لا موضع قدم فيهما إلا
للجرائد
وذا سألت (الاستاذ عبده ) عن عدد المجلات اجاب: رابع المستحيلات ان اعرف العدد ، لأن غرفها السبع غصت بالكتب المنضدة للجرائد . صفوفا متراصة ومتداخلة . إنما قدر العدد وفد جامعة الكسليك عام ۱۹۷۰ بمئة الف مجلد ، ومثل هذا العدد من المجلات والجرائد ويقول : إنه اضاف بعد هذا التاريخ الآف المجلدات،

حتى ان هيئة الاذاعة البريطانية لما سئلت ـ منذ بضعة أشهر – عن أكبر مكتبة خاصة في الشرق الاوسط أجابت مكتبة السيد عبده مرتضى الحسيني، في بعلبك – لبنان ) .

إن هذا العدد يثير الدهش إذا ما قيس بمكتبات العالم العربي العامة والخاصة، ويؤكد ان صاحبها حقق معجزة بجهد فردي معجزة لأن دول النفط الغنية لم تجمع في مكتباتها العامة إلا ثلث ما جمع في مكتبة الخاصة .

كشف إحصاء لمكتبات العراق جرى عام ١٩٦٠ م ، ان أكبر مكتبة خاصة لا تتجاوز عشرة الآف مجلد مع ما عرف عن العراقيين من شغف في اقتناء الكتب . فمكتبة باش اعيان – البصرة تضم عشرة ألآف مجلد ضمنها (١٥٠٠ ) مخطوط (۱) ومكتبة علي الخاقاني في بغداد (٦٠٠٠ ) الذي أجرى مجلد)، ومكتبة كوركيس عواد وهو الذي اجرى الاحصاء ، (٩٠٠٠ ) مجلد بينها (٥٢٤ ) مخطوط .

ويرتفع العدد في مكتبة الموصل العامة الى (٣٥٤٢٠) مجلداً وفي مكتبة بغداد المركزية (۳۳۷۰۹)، وفي مكتبة أمير المؤمنين
النجف (۱۹۰۰۰ ) ويصل في مكتبة المتحف العراقي الى (٣٦٠٠٠) وإذا اتجهنا الى السعودية الفينا مكتبة الرياض العامة تأتي في الطليعة وتضم (۱٥۰۰۰ ) مطبوع و ( ۱۱۷ ) مخطوطا هذا في إحصاء عام وتليها مكتبة مكة المركة العامة (١٤٠٠٠ ) مجلد عام ١٩٧٠

واطرفها مكتبة عارف حكمت) خاصة . ، (٤٥٠٠ ) مخطوط و ( ۲۰۰۰ ) مطبوع . فيها تفسير القرآن لابن عباس ، على رق غزال

واشارت آخر إحصاءات المكتبة الظاهرية دار الكتب الوطنية في دمشق ) الى وجود (۹۱۹۰۰) مجلد ، ضمنها (۱۱۹۰۰) محطوط و (۸۰۰۰۰) مجلد مطبوع

أما كبرى المكتبات التي شهدتها فمكتبة الجامعة الأميركية في لبنان وتتبع طريقة العرض المباشر المصنفات بين ايدي القراء ، يتناولون من الرفوف ما يشتهون كل طابق فاذا بي أمام غابة من الكتب متشابكة تحجب الرؤية ، أن دخلت طوابقها الخمسة ، وتجولت بين اجنحة نظرت وحيثما اتجهت تحسر بصرك جدران من الكتب …. وتليها كمية وكيفية مكتبة الجامعة اليسوعية.
وثالثة المكتبات هي مكتبة السيد عبده مرتضى الحسيني في بعلبك

الطموحات :

وأقول بصراحة إنها جاوزت طموحات البعلبكيين وتطلعاتهم،فعجزوا حتى الآن عن تأمين بناء مجهز بالخزائن يستوعب المجلدات – الثروة . وقصروا عن تحقيق رغبة صاحبها في تحويلها إلى مكتبة عامة لبعلبك بشروط زهيدة ولو توافر البناء ورتبت الكتب لجذبت الزوار مثلما جذبتهم الهياكل ،
فئة تطلب المتعة الفنية في تأمل النقوش الحجرية ، وفئة تنتشي بنهل المعرفة من مخزن الثقافة. ورغم ضيق المكان أكسبها تكاملها شهرة فغدت مثابة للباحثين يقصدون نبعها الثر للارتواء . وكان مؤسسها آمن بالقول «إن زكاة الكتاب عاريته » .

لقد عوض بمكتبته الخاصة – العامة ( حرمان المدينة المكتبي . ورهن نفسه لخدمة طلاب العلم لا يبتغي بعمله جزاء ولا شكورا . وإذا ذكرت أمامه كتابا بادرك باسم مؤلفه ، ومضمونه ، ومحققه ، ودار النشر ، وعام الطباعة هذه المعرفة لو استغلها ووضع الفهارس للكتب والمكتبات لقدم خدمة جُلَّى للمعرفة وعشاقها في العالم العربي

ومما يحمد له حرصه على ابقاء المكتبة في بعلبك . لقد رفض العروض المغرية المقدمة لشراء المكتبة من دول عربية غنية (السعودية ، الجزائر و الكويت…. ومن الجامعة اللبنانية ، وبلدية النبطية )

أراد ان تبقى المكتبة في بعلبك ليستفيد ابناء المنطقة المحرومة من معطيات التحضّر ،
إنه وفاء للارض التي باعها ، وعاهدها بأن ثمنها لن يبرح المدينة بل تتحول ذرات ترابها الى حروف ثقافية تنير بعلبك رغم عقوق الموسرين والمتنفذين ، وصدودهم عن حفظ التراث ، والتصامم أمام نداء (المكتبة – الكنز ) المدفونة في شقق أثرية شقق الزمان سطوحها فرشحت المياه لتعفن الكتب وتتلف الآف المجلات والجرائد . ثم غزتها جحافل العث لتقتات بورقها وتستذوق طعم المعرفة التي جفاها السكان، وفضلوا الجهل على العلم .

ويصبو هذا الكنز الى( بيت متكبي ) في بعلبك دون سواها ، مزود لرفوف وخزائن تفرج زحام الصفوف ، الكتب تقاتل صفا مرصوصا ضد الاهمال لكنها ملت القتال الذي مزَّق دفاتها ، وتسلل الى مضمونها …. فحلمت بتجليد يكسو عربها ، ويقيها التلف وحوادث الزمان .

محاولات اجهضت :

صدر قرار وزاري في ٢١ / ٦ / ۱۹۷۲ بوضع المكتبة تحت إشراف (الحركة الاجتماعية ( وتحويلها الى مكتبة عامة في بناء مناسب لكن العقبات وقفت أمام القرار وظل ينتظر التنفيذ… وقد تحيا هذه المحاولة أو تولد محاولات اخرى اذا انشئت (هيئة للمكتبة ) من المثقفين والاثرياء في المنطقة تفتش عن حلول وبسرعة لأنقاذها وتحويلها الى مكتبة عامة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى