حركة تطوّر نظم المعلومات الجغرافيّة بقلم: حسين أحمد سليم الحاج يونس مهندس إختصاص في المعلوماتيّة الرّقميّة تعود بنا الذّاكرة التّوثيقيّة إلى ولوج الحقب الزّمنيّة السّالفة, و ترجع الجذور الأولى بنا لإكتشاف و لبدء العمل التّجريبي الأوّلي في نظم المعلومات الجغرافيّة إلى منتصف القرن الثّامن عشر الميلادي من القرن السّالف، مع بدء حركة عمليّات توقيع و رسم و تشكيل و إنتاج الخرائط, و زيادة الإستخدام لها في أعمال كثيرة و متعدّدة و كثافة الطّلب عليها لأغراض مدنيّة و عسكريّة, لتسدّ و تملأ إحتياجاتها البشريّة و خدماتهم التي تتطلّبها ظروف الحياة و إستمرارها… و تميّزت هذه المرحلة بتقدّم وسائل الطّباعة و تحديثها, و تطوّر الجوانب الإحصائيّة المُتشعّبة, و إستخدام الأرقام و البرمجة الرّقميّة, و إكتشاف الشّبكة العالميّة العنكبوتيّة للمعلومات و التّوثيق, فيما بعد, و إنتاج الخرائط الموضوعيّة أو الإختصاصيّة أو المُؤسلبة وفق موضوعاتها, أيّ الخرائط التي تتناول موضوع واحد, إلى جانب الخرائط المُتعدّدة المواضيع و الإستخدامات و الخرائط الشّاملة… و قد إستمرّت هذه الفترة حتّى العام 1940 للميلاد، أيّ قبل إكتشاف و إختراع الحاسوب الآلي الرّقمي فى الأربعينات، حيث صاحب هذا الإختراع تطوّرا سريعا للتّكنولوجيا و ثورة رقميّة تُعتبر قفزة هامّة في الثّورة الحضاريّة… و فى الفترة الزّمنيّة الممنتدّة ما بين العامين الميلاديين 1950 و 1960 , حيث تنوّعت و تعدّدت الأشكال الرّئيسيّة لسيل البيانات المختلفة, ممّا زاد في كمّها و توافرت بشكل كبير و كثافة هائلة، بما حذا بالبعض لمُهتمّ للبحث السّريع عن حلول ملائمة و نافعة، خاصّة بالنّسبة للبيانات التى تتعلّق بإستخدام الأرض تحديدا و مختلف الموارد الطّبيعيّة, و التّحليلات البيئيّة و السّكانيّة و الخدماتيّة, و خاصّة مع تراكم و تزايد المشكلات الخاصّة بتخزين البيانات و معالجتها عبر وسائل تتّسع لها و تُظهر منائجها بسرعة مطلوبة… و منذ البدء فقد كانت غالبيّة الحلول المتداولة و المطروحة إن لم تكن كلّها, تتركّز في عمليّة إستخدام آلة حاسوبيّة رقميّة حديثة, يتمّ التّوصّل إليها بعد دراسات و تجارب مستفيضة, بما يُمكنها تخزين أكبر كمّ من البيانات، و تقديم نظم أساليب فاعلة و سهلة و سريعة لمعالجتها و التّعامل معها، و بالتّالى كانت ثورة صناعيّة علميّة قلبت كلّ الموازين تمثّلت في ولادة الحاسوب الآلي الرّقمي, بحيث كان هو الحلّ الأمثل و الأكفأ لجميع هذه المشكلات المُتشعّبة, كما كانت هناك من جهة أخرى, خطوة واسعة أخرى تمثّلت فى حركة فعل تطبيقي لإنتاج الخرائط الموضوعيّة بطريقة آليّة… و بصفة خاصّة فى كلّ من الولايات المتّحدة الأميركيّة و بريطانيا و بعض الدّول الأخرى. و قامت محاولات أخرى فرديّة تمثّلت فى محاولة إنتاج خرائط بإستخدام الحاسوب الآلي الرّقمي… هذا و تُعدّ محاولة بعض العلماء فى بريطانيا إعداد أطلس مُصوّر عن النّبات في الدّولة البريطانيّة, إستخدمت فيه البطاقات القديمة المثقّبة، و هي أحدث تكنولوجيا كانت متاحة آنذاك، وكان ذلك في عمليّة إنتاج مايزيد عن ألفيّ خريطة، بحيث كانت خطوة على هذا الطّريق… كما قام البعض من علماء الأرصاد و الطّبيعة الأرضيّة و الجيولوجيّون في هذه الآونة بإستخدام الحاسوب في الكثير من أعمالهم… و قامت كذلك الهيئات المدنيّة و الهيئات ذات الصّبغة العسكريّة في الولايات المتّحدة الأميركيّة, بتطوير و تجديث أجهزة العرض الخاصّة بنظم الدّفاع الجويّ، حيث كان يمكن إستخدام الحاسوب الآلي الرّقمي في تحويل البيانات الرّقميّة الواردة من الرّادار إلى صور و لوحات رقميّة شبكيّة مرئيّة يمكن التّعامل معها و توظيفها في مجالات مطلوبة و نافعة… و في نظرة تاريخيّة توثيقيّة, يُمثّل العام 1960 للميلاد, في البداية أكثر تقدّما للإستخدام الفعلي لعمليّة نظم المعلومات بشكل عام، حيث إستطاعت الحكومة الكنديّة في تجربة فاعلة, أن تقوم بجمع كمّ كبير من البيانات و المعلومات في عدد من المجالات العلميّة و الخدماتيّة, مثل حركة الزّراعة و تفاصيل الحياة البرّيّة و تعداد الغابات، و التّعدادات السّكانيّة و تطوّرها، و إستخدام مساحات من الأرض و تحديد الموارد و جغرافيّتها… و قد تمّ إدخال هذه البيانات التي تمّ جمعها إلى الحاسوب الآلي من خلال برمجيات رقميّة فعّالة، و ذلك بغرض تجميعها و تخزينها و إعادة إستخدامها و التّعامل معها و تحديثها و تطويرها أو الإضافة عليها أو إنقاصها، و كذلك عرضها أو إعادة إظهارها، ممّا أعطاها في ذلك الوقت الشّكل الأوّلي لحركة نظم المعلومات الجغرافيّة الحقيقيّة، و عليه فقد عرف هذا العمل في ذلك الوقت بإسم نظم المعلومات الجغرافيّة الكنديّة… و كذلك قامت الجهة المعنيّة بصناعة البترول في الولايات المتّحدة الأميركيّة من جانبها, بعمل مجموعات من الخرائط المتكاملة و التي تتألّف من البيانات الجيولوجيّة و الجيوفيزيائيّة التى تُستخدم في عمليات الإستكشاف عن أماكن في باطن الأرض تُعتبر مُخزّنة للبترول الخام و بإستخدام الحاسوب الآلي و البرمجيات الرّقميّة المُتخصّصة في هذا الجانب… كما تميّزت تلك الفترة الزّمنيّة بثورة من التّطوّر الواسع و التّقدّم الكبير في مجال حركة و رصد الجغرافيا من النّواحي الكمّيّة، حيث إستخدمت كافّة الأساليب الإحصائيّة و المسارات الكميّة، و المعمول بها في فروع علوم الجغرافيا المختلفة, و تمّ ذلك بأستخدامات الأساليب العميقة و المتقدّمة، ممّا جعل البعض بدافع توصيفي أن يُطلقوا عليها إسم الثّورة الكمّيّة… و في العموم, فقد كان التّطوّر سريعا و متلاحقا فى جوانب عديدة لهذا العلم و تطبيقاته العمليّة، و يرجع هذا الفعل إلى الحاجة الشّديدة و الماسّة إلى مثل هذا النّظام البرمجي الجديد… بحيث كان ذلك التّقدّم السّريع و التّطوّر الفاعل بدافع فعلي للوفرة الضّخمة و الكمّ الهائل من سيل البيانات و المعلومات، خاصّة مع توافر أجهزة حديثة و متطوّرة لحركة الرّصد و القياس من مناظير دقيقة و رقميّة و حركة التّصوير الجويّ و الفضائي الفوتوغرامتري… إلى جانب حركة التّقدّم الحديث فى علم النّظريّات الجغرافيّة، و حركة التّقنين الفعلي الذي جرى في العديد من الفروع العلميّة المختلفة، و إستخدام أحدث الأساليب في دراسات و وضع الكمّيّة و الإحصائيّة بكثرة… و تعدّد و تنوّع البيانات المُتاحة، نظرًا لتنوّع مصادرها المختلفة و المُعتمدة، مثل الإحصاءات بأنواعها العلميّة المعروفة، و إعتماد الإستمارات و الإستبيانات، و المعلومات النّاتجة من الصّور الجويّة و الغوغليّة و الإستشعار عن بعد، و إجراءات العمل الميداني، ممّا أدّى إلى ظهور الحاجة لعمليّات جمع و تصنيف البيانات و المعلومات و ضرورة إدارتها بطريقة أفضل تخدم متطلّبات أهداف الأعمال المختلفة… و لعب تقدّم أجهزة الحاسوب الآلي، و البرامجيّات المستخدمة، و تطوّرها بصورة متلاحقة و متسارعة، ممّا أعطى الفرصة لظهور أجيال منها, قادرة على التّعامل مع هذا الكمّ الهائل من البيانات و المعلومات، و التى جاءت من مصادر متعدّدة أو كانت تتناول ظاهرات و أشكال متنوّعة… و مع وجود و توافر هذه الجوانب كانت الرّغبة الفعليّة و الإندفاع القوي تّجاه إستخدام هذه التّكنولوجيا الحديثة… و كان لحركة الإنخفاض المستمرّ للأسعار فى الأجهزة الحاسوبيّة أثره الواضح و الملموس فيى تقدّم هذا الجانب المستمرّ و تطوّره البارز… بحيث تضاعفت أعداد أجهزة الحواسيب الآليّة الرّقميّة في المدارس و الجامعات و المؤسّسات مرّات عديدة… و فعل إستخدامها المتصاعد من قبل الكثير من الأساتذة المتخصّصين كما كان الحال فيى جامعتيّ هارفارد و واشنطن… و دخل إلى الحيّز العملي و التّطبيقي كذلك الأجهزة المتوسّطة من الحواسيب بقدراتها و إمكانيّاتها الواسعة… و إلى جانب الجامعات التّعليميّة في الدّول المتقدّمة, كان هناك النّشاط الواضح من بين العديد من الحكومات في العديد من الدّول المتقدّمة سيّما فى الولايات المتّحدة الأمريكيّة و الدّول الأوربّيّة… حيث كان للعديد من هذه الدّول السّبق في إستخدام برمجيات نظم المعلومات في الكثير من الجهات الحكوميّة و الخاصّة… كما أدّت حركة إنعقاد العديد من المؤتمرات العلميّة فى هذا الموضوع إلى تجميع واسع للكثير من الأفكار المشتّتة، و تضافر الجهود الفرديّة فى هذا المجال، ممّا عمل على بلورة هذه الأفكار و وضع تصوّرات معيّنة تقترب من النّظريات، كما أدّت المؤتمرات و تشاطات التّجمّعات إلى ترابط الأفكار و تجميع كافّة الجهود، و توجيهها بشكل سليم و بطريقة أفضل وصولا للنتائج المرجوّة… هذا و قد إستمرّت مراحل الفترة السّابقة و التى يمكن أن يُطلق عليها المرحلة الأولى من عمر حركة نظم المعلومات الجغرافيّة و تطوّرها ما يزيد عن العشرة سنوات… أمّا المرحلة الثّانية من حركة نظم المعلومات الجغرافيّة فتبدأ من العام 1973 للميلاد و حتّى العام 1980 للميلاد, و تتميّز هذه الفترة بتراجع الجهود الفرديّة و تقدّم الجهود الحكوميّة و الجماعيّة… كما تتميّز بميزة أساسيّة أخرى هي ظهور الكثير من الشّركات التّجاريّة و التى تحتاج إلى عمليّات تحليل و ربط و تغيير و متابعة, تتجسّد في إعتماد حركة فعل نظم المعلومات الجغرافيّة و أنواع من الحواسيب الرّقميّة المتطوّرة… و في كلّ الأحوال المرحليّة, فإنّ فترة الثّمانينات تُعتبر فترة التّغيير السّريع في حركة تكنولوجيا نظم المعلومات الجغرافيّة و يرجع ذلك إلى تطوّر عدّة جوانب تتراءى ظاهرة لنا في تطوّر اجهزة الحواسيب الآليّة و الأجهزة الملحقة و المساعدة، و تطوّر مكوّناتها من حيث القدرة و السّرعة و إمكانيات التّخزين و عمليّات الإدخال و العرض و الإخراج… و في ظهور نظم معلومات متكاملة تقوم بمجموعة الأعمال فى شكل نظام متكامل و منها على سبيل المثال أنظمة الأرك إنفو و الأنترغراف و غيرها من النّظم التى تتيح العمل المتكامل بإمكانيات واسعة… و ظهور ما يُعرف بالملفّات العالميّة و التى وفّرت كمّيات كبيرة من المعلومات المنظّمة و الدّقيقة التى ساعدت فى عمل الكثير من الإنجازات كبرمجيات الجيوداتّا و غيرها… و تطوّر أساليب العمل على النّظم و تقدّمها، و كيفيّة بناء قواعد البيانات و كيفيّة العمل عليها… و زيادة الكمّ من المؤتمرات العلميّة و النّدوات و من أهمّها مؤتمرات الإتّحاد الدّولي للجغرافيّين و التى تعقد بشكل دوري، و كذلك مجموعات المؤتمرات و المعارض التى قامت بها الشّركات المنتجة للبرمجيّات و الأجهزة، ممّا كان له الأثر الكبير فى إلتقاء الفكر و تبادل المعرفة بين الباحثين و الدّارسين، فضلا عن تبادل أشكال التّكنولوجيا المختلفة… و تقدّم نظم الإتّصال بين المؤسّسات و بعضها، و بين المؤسّسات و الأفراد المستخدمين للنّظم، ممّا ساعد على سرعة تبادل المعلومات و الخبرات و حلّ مشاكل العمل بسرعة… و تقدّم مجالات حديثة تمثّلت في إنتشار و تقدّم نظم الإستشعار عن بعد و عمليّات التّصوير الجوّي و ما وفّرته من بيانات و معلومات إعتمد عليها بصفة أساسيّة في الكثير من الأعمال… و صدور العديد من المجلات العلميّة المتخصّصة و تركيز وسائل الإعلام عليها… و تدريس النّظم فى الكثير من الجامعات و زيادة إهتمام الجامعات بهذا المجال و تبادل الخبرات… و إستخدام نظم المعلومات الجغرافيّة في الكثير من الوزارات و مراكز البحث العلمي المتخصّصة و مجالات العمل التّطبيقيّة الأخرى… و تمثّلت المرحلة التّالية في فترة التّسعينات، و التى تميّزت بتطوّر سريع و يمكن تلخيص ملامح التّغيّر و رصدها في حركة ظهور المزيد من النّظم المتقدّمة التى تخدم جوانب متعدّدة… و التّطوّر السّريع في الأجهزة و البرامج… و القيام بالكثير من الأعمال و التّطبيقات… و زيادة المعرفة و الإنتشار عن طريق التّعليم و المؤتمرات و المجلاّت المتخصّصة… و يصل حجم البرامج التي تتناول التّطبيقات و الإستخدام في هذه النّظم إلى عدد كبير، كما وصلت الأجهزة لدرجة عالية من التّقدّم، و أصبحت البرامج يمكنها تغطية معظم المجالات العلميّة بصفة عامّة و الجغرافيّة بصفة خاصّة. و تقوم معظم الجامعات حتّى فى الدّول النّامية بتدريس النّظم و منح الدّرجات العلميّة فيها، كما يمكن إستخدام النّظم و بكفاءة عالية فى المجالات التّطبيقيّة فى البحوث و الدّراسات في الجامعات، و إستخدامها على نطاق واسع فى الكثير من الوزارات و الإدارات و الشّركات و مراكز دعم إتّخاذ القرار… و في الختام لهذا العرض السّريع, يمكننا القول بشيء من الإختصار, أنّ حركة نظم المعلومات الجغرافيّة و غيرها, خطت اليوم خطوات متسارعة مواكبة لثورة المكننة و البرمجيات المتعدّدة و الشّاملة… و خلال وقت قادم و مستقبلي سوف يكون لها السّيطرة الكاملة على جميع الأعمال التّطبيقيّة التى تحتاج إلى بيانات و التّعامل معها، و هو الشّيء الذي يتوافر فى كلّ مكان، كما سوف تمتدّ إلى جميع مجالات الحياة اليوميّة، و ذلك بما توفّره من إمكانيّات و قدرات و مزايا لا تتوفّر لأيّ من عناصر و أدوات العمل الأخرى…