قراءة في كتاب”رحلة في فضاء الزمن”
مذكرات عبد المنعم حطيط.
بقلم جوزيف غطاس كرم.
ما من مرّة استمعت إلى أحاديثه إلا وتراءى أمامي العالم والشاعر والتاجر “عبدالله بن مبارك” الذي قضى عمره في الأسفار، واشتهر بالصدق، والذكاء، والسخاء،والشجاعة، والشهامة، والكبرياء والتواضع.
في كتابه القيّم “رحلة في فضاء الزمن” الصادر عن “دار النهضة العربية” في 403 صفحات، سجل نقيب الطيّارين،والإداري الرفيع في شركة ميدل إيست سابقاً الطيّار عبد المنعم حطيط، بعضاً من مذكّراته الشخصيّة والمهنية والوطنية، وجمع وثائقه بأسلوب علمي ونوعي، ما يجعل الكتاب وثيقة إضافية في المكتبة الوطنية اللبنانية التي تحتوي مذكّرات وأبحاثاً ودراسات لأعرق شركة طيران لبنانية “طيران الشرق الأوسط” الميدل إيست M.E.A”.
بهرني أسلوب الكاتب في مرافقته لسيرته الذاتية، كما شدّني تسلسل الفقرات المتعلقة في عمله بشركة “الميدل إيست” النابضة بمقوّمات الحياة.
يقول الشاعر :”الليالي تزينها الأقمار”.
وزينة أقمار “الكابتن حطيط” في عالم الطيران لا حد لها ولا حصر، فهو ظاهرة شبه فريدة في الأوساط اللبنانية التي شغل فيها مناصب عليا في المراكز الرئيسية التي تهتم بشؤون البشر العامة والخاصة. شخصيته الوطنية، والنقابية والمهنية ذات طابع سياسي واقتصادي من جهة، وهي إنسانية شاملة من جهة أخرى.ولا يميّزه تعدد جهاده الوطني والاقتصادي في حقل الطيران فقط، إنما كذلك في التحول والتطور الجوهريين في أفكاره ومسيرته الشخصيّة التي ابتدأت من بيئة داخلية ريفية زارعية في الجنوب اللبناني إلى تربعه في مشاركة إدارة أكبر الشركات اللبنانية والعربية في حقل الطيران المدني، أقصد الخطوط الجوية اللبنانية ـ طيران الشرق الأوسط، والتي شارك في حمايتها من تسلط القوى السياسية والاقتصادية في لبنان وعالمه العربي والعالم أجمع.
اشتمل الكتاب على خمسة عشر فصلاً تم إخراجها بعناوين عديدة وبتسلسل تاريخي، وعلمي، ومنطقي ومنهجي، بالإضافة إلى صور فوتوغرافية ووثائق متنوعة تنتهي بفهرس لعناوين الكتاب، كلها خُطت بلغة سردية سهلة، ميسرة وشاملة لكل ما قد يتبادر إلى أذهان القراء من أسئلة .
استهل المؤلف الطيّار كتابه بكلمة شكر للسيّدة “سناء ضو” التي جمعت المذكرات وحررتها،ثم أعقبها بمقدمة للرئيس الأسبق لرابطة الأساتذة في الجامعة اللبنانية الدكتور “عصام خليفة” الذي أعتبر في مقدمته أن “رحلة النقيب حطيط دليل يساعدنا للخروج من الكارثة”.
الإهداء قدمه إلى نبتة التبغ التي علمته “أن النجاح يحتاج إلى معرفة وجهد وصبر”، كذلك إلى “تلّة المرج” في بلدته النبطية الفوقا حيث شاهد لأول مرّة “الاعتداء الإسرائيلي على طائرة ركاب مدنية لبنانية” فغضب وصرخ بأعلى صوته:”سأصبح طيّاراً في سلاح الجو، وأهزم إسرائيل”، وختم إهداءه إلى الغيوم والسماوات التي “تنتظر الطموحين”.
مذكراته أرخت لمساره الطويل على الأرض وفي الجو على شكل يتداخل فيها أدب المذكّرات مع الأدب التوثيقي.
تحت عنوان “بداية الغرسة بذرة” تساءل “الكابتن حطيط” مع الفيلسوف والأديب الفرنسي “جان جاك روسو” عن أهمية كتابة مذكّراته الشخصيّة والمهنية، ومدى استفادة القراء منها، آملاً أن يستفيد من مضمونها كل طيّار يريد “إعلاء شأن مهنته، وشأن الشركات التي يعمل فيها.”
وتحت عنوان” النبطيّة الفوقا أربعينيّات القرن الماضي” حدّثنا عن طفولته البسيطة والسعيدة، وعن مدرسته في منطقة النبطيّة التحتا،التي درس فيها علومه الابتدائية والتكميلية.
ويتابع أنّه بعد نيله “شهادة البكالوريا القسم الأول”، لم ينتسب إلى كلية الهندسة ليصبح مهندساً، بل قرر أن يدرس الطيران لأن صرخته العفوية على تلّة المرج في بلدته ما زال صداها يتردد في قلبه ووجدانه،فساقته الصدفة إلى القاهرة لدراسة علوم الطيران.
أفتتح “الكابتن عبد المنعم حطيط” الفصل الثاني من كتابه بعنوان “شدّ الرّحال القاهرة 25 تشرين الأول العام 1955″، وذكر أنّه قد تمّ قبوله في “معهد مصر للطيران في إمبابا” .
وفي عنوان “17 شباط 1956، تاريخ لن أنساه”، حدثنا عن أول مرّة قاد فيها طائرة تدريب وحده،إذ نجا من حادث خطير كاد أن يشعل الطائرة ويغير مجرى حياته، ونجاحه في إنزالها سالمة على “بقعة رملية مسطحة” بأعجوبة.
وفي مقطع “المباراة المشهودة” يخبرنا عن رفضه لرشوة مغرية عُرضت عليه مقابل انسحابه من مسابقة جرّت في “إمبابا” لاختيار أفضل طالب طيّار” بين “ستة تلاميذ اختارتهم إدارة المعهد، وقد نشرت صحيفة “الأهرام” المصرية في صدر صفحاتها: “لبناني يفوز بكأس مصر للطيران”.
ونقرأ في فقرة “انتهاء الدراسة في مصر” أنه نجح في “الحصول على شهادة طيّار تجاري” بعد تنفيذه عدة “حركات بهلونية…وهبوط اضطراري من علوٍ منخفض بعد الاقلاع”، وكان الامتحان بإشراف النقيب “حسني مبارك” الذي أصبح رئيساً لجمهورية مصر العربية عام 1981″.
وأشار في فقرة “يوم مجيد يحفر في الوجدان” إلى فرحته العامرة يوم تأميم قناة السويس، وكان في معهد الطيران في مصر ينتظر استلام شهادته .
بعدها نقلنا إلى رحلة البحث عن عمل”،مشيراً إلى الصعوبات التي اعترضت طريقه لإيجاد وظيفة في “شركة طيران الشرق الأوسط” وتدخل رجال السياسة والمال والأجانب في عمليات التوظيف.
وتابع متحدّثاً في فقرة “شركة الخطوط اللبنانية ” Air Liban” أنه قام بأول رحلة “على الخطوط، وكانت من بيروت إلى حلب” حيث قاد “طائرة ” ODAAN” ، وهي الطائرة نفسها التي رآها من على تلّة المرج في النبطية الفوقا”.
يفتتح الكاتب معظم الفصول بأقوال مأثورة لعظماء في عالم الإبداع المتنوع، وهذا يدل على عمق ثقافته الشاملة. فقد افتتح فقرة “بيروت في 1961” بقول للصوفي المشهور “راما كريشنا” الذي يصف فيه التجربة الروحية بما يلي:
“إنها أشبه بنبتة الأناناس التي تعقد الثمر قبل أن تُنبت الزهر”. ثم روى موضوع “إقفال شركة الخطوط الجوية اللبنانية” ومواقف الطيارين والمضيفين والموظفين “المهدّدين بالصرف من وظائفهم”، وفصّل لنا تحركات النقابة وصراعات الأعضاء فيما بينهم للفوز في رئاستها،وكيف أصبح نقيباً،وهو ما يزال مساعد طيّار.
” بنبضه وروحه وليس بالحبر، يستذكر أحاديثه النقابية المتعلقة بحقوق الإنسان العامل مع صديقه الفرنسي الطيّار “جان شانو” ومقولة المفكر والسياسي الروسي “فلاديمير لينين” القائلة:
“لا أخلاق خارج نطاق المجتمع الإنساني، وخارج مصالح الطبقة الكادحة ونضالها”.
وعلى ضجيج ذكريّاته يوم حرض “العاملات في قطف وشكّ الدخان” ضدّ أبيه لتحسين “أجرهن اليومي، من ليرة إلى ليرة وربع” أُعلنت نتيجة فوزه بمنصب نقيب الطيّارين لأول مرة.
و أخبرنا النقيب الجديد في فقرة “غريب في مكان غريب” ما واجهه بعد يوم واحد على انتخابه من مسائل شائكة تنظيمية كإبلاغه بوجوب الاستقالة لأن ” الطيّارين يرفضون أن يكون نقيبهم مساعد طيّار”، وقد هددوه بالانسحاب من النقابة “إذا لم يستقل”، هذا بالإضافة إلى تراكمات مالية مستوجبة على صندوق النقابة الفارغ من المال، إضافة إلى المنافسة الحادة بين “الإنجليز المسيطرين على شركة طيران الشرق الأوسط، والفرنسيين الذين يمتلكون الأسهم الكبيرة في شركة الخطوط الجويّة اللبنانية” وانعكاسها على العاملين في هاتين الشركتين.
“أولى الصولات” التي خاضها كنقيب جديد هي حادثة تحطم طائرة شحن تابعة لشركة ” TMA”، ما أضطره إلى عقد مؤتمر صحفي عنونته الصحف اللبنانية ب “فضائح في الطيران المدني”، فاستدعاه وزير الأشغال العامة والنقل الشيخ “بيار الجميل” واستجوبه بشكل فج، وهذا ما دعا “الكابتن حطيط” إلى أن يطالبه بإنشاء “لجنة تحقيق فنيّة ” .
بعد أيام قليلة،رفعت وزارة الأشغال والنقل دعوى ضدّه بتهمة “القدح والذم، والإضرار بالمصلحة الوطنية”، وبعد مدّة قصيرة برأته المحكمة من التهمة.
في العنوان الخامس “قضية إقفال شركة الخطوط الجويّة اللبنانية” يخبرنا كيف استطاعت النقابة “إيصال قضية إقفال الشركة” إلى الجنرال “شارل دو غول” الذي سرعان ما دعم الشركة “لتستمر وتربح”، كذلك عن دعمه لدمج شركتي “الخطوط الجوية اللبنانية والميدل إيست”.
كما حدّثنا عن “الدور المحوري للنقابة للمحافظة على الخطوط الجوية اللبنانية” وحكمته في إيجاد الحلول للخلافات التي نشأت بين إدارة مجلس الشركتين المرتبطتين بدولتي فرنسا وبريطانيا وبين الدولة اللبنانية، وحفاظه على حقوق الموظفين في الشركتين.
وتابع في الصفحات اللاحقة سرده لمعلومات هامة حول تاريخ شركات الطيران الأربع التي نشأت في لبنان. ودوره في توظيف طيارين لبنانيين في شركة الخطوط الجوية عبر البلاد العربية،وموقف الطيّارين الإنكليز الذين رفضوا ذلك وعمدوا إلى الإضراب، وبحنكته الإدارية أستطاع بواسطة السياسي “كمال جنبلاط” والأمن العام اللبناني إنهاء إضرابهم وحل مشكلتهم.
بعد ذلك يُعدد للقارئ المسائل الإدارية والاقتصادية الصعبة التي وجد حلولاً لها وساعدت “النقابة” باستعادة “عافيتها”، ومشاركته الفعالة في “تأسيس جبهة التحرّر العمالي”، ودوره في “تأسيس رابطة نقابات النقل في لبنان والعديد من الدول العربية.
ثم روى نضاله “النقابي” الذي “أمتدّ ثمانية عشر عاماً” تحمل خلالها قضايا وطنية وإدارية ومالية وقضايا شخصية محقّة سار فيها إلى النجاح بالرغم من كل الصعاب التي واجهته، وحدثنا عن “أوّل التحديات، “لبننة المهنة” ومواجهاته للرافضين مشروعه “تقليص عدد الطيّارين الأجانب” لصالح الطيّارين اللبنانيين، وقد أصدرت إدارة الشركة قراراً ب “فصله من العمل” بتهمة أنّه شيوعي “يضرّ بمصالح الميدل إيست”، إنما بعد انعقاد جلسة “الجمعية العمومية لنقابة الطيّارين” لانتخاب نقيب جديد أُعيد انتخابه، وحصل على خمسة وسبعين صوتاً من أصل ثمانية وسبعين”، فتراجعت إدارة الشركة عن قرار فصله، وأُعيد إدراجه إلى “جدول الرحلات”.
ويروي لنا المؤلف كيف أسس الاتحاد العربي للطيارين،وقد ترأسه لسنوات طوال.
وأفرد فصلاً شيقاً لحوادث خطف وتحطم الطائرات،ودوره في التحقيق فيها ،وإنهاء بعضها.
الكتاب جدير بالقراءة، وفصوله مشبعة بالمعلومات والأخبار الدسمة، لهذا أقترح على القراء اقتناءه وقراءته، فأنا على يقين أن ما استعرضته سريعاً في هذه المقالة يختزن ثروة وثائقية كبيرة، وسيرة ذاتية مشرّفة تصلح نبراساً للأجيال الصاعدة، كما أدعو كل قارئ بلغة الضاد الجميلة، وكل ناشط مهتم بالشأن اللبناني إلى أن يقرأ هذا الكتاب ويعطيه ما يستحق من الاهتمام، خاصة القراء الذين يرغبون بالاطلاع على مسيرة إنسان ولد في بيت تزيّنه شتلات التبغ والمزروعات من خضار وأشجار مثمرة عام 1936، في بلدة النبطيّة الفوقا جنوب لبنان، منطلقاً منها متجاوزاً الصعوبات، وأصبح من أوائل الطيارين اللبنانيين الذين حققوا إنجازات كبيرة في عالم الطيران،وتبوّأ مناصب رفيعة وحساسة في إدارة الميدل إيست،فكان نائب الرئيس للعمليات الجوية والأرضية في أحلك الظروف،وبينما مطار بيروت مقفل خلال الحرب كانت طائرات الميدل إيست تحلق في كل العالم. فقد بادر حطيط إلى تأجير الطائرات المركونة في مطارات باريس وغيرها،مع طواقمها ،ما حصد للشركة سمعة ناصعة في مجال تأجير الطائرات،وعوّض الخسائر التي سببها إقفال المطار،وأمّن استمرارية دفع الرواتب،وهذا جعل إدارة الميدل إيست تغيير رأيها به،بعدما كانت تتهمه بأنه يريد تدمير الشركة،وعرضت عليه إدارة العمليات إلا أنه رفض المنصب مراراً وتكراراً مركزاً على نضاله النقابي،ولكن تحت إصرار الإدارة استقال من النقابة ،بعدما بقي رئيساً لها لدورات تسع،مطمئناً إلى ما تحقق من إنجازات،وانتقل يعمل في الإدارة بخلفية النقابي المتحسس لقضايا الطيارين والعاملين.وبعد تقاعده من الميدل إيست أسس شركة خاصة لاستئجار الطائرات،محققاً النجاح تلو الآخر.
إننا اليوم في لبنان وعالمه العربي بحاجة ماسة إلى إلقاء شعاع المعرفة على شخصيّات مميزة لعبت أدوراً مهمة في الحياة العامة وحققت نجاحاً كبيراً يمكن له أن يكون منارة للسائرين على دروب الحياة، كما أنني أرجو أن يكون ما نشرته في هذه المقالة بداية لقراءات أخرى متأنية لظهور المزيد من المذكرات حول إبراز تاريخ أعرق شركة طيران في لبنان والعالم العربي.