الأزمة الاقتصادية الإسرائيلية بسبب الحرب على غزة آخذة بالتعمّق وبدأت تلحق الضرر بقطاعات عديدة ✳️
برهوم جرايسي – المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية مدار
تؤكد كل التقارير الاقتصادية الإسرائيلية، ومعها تقارير مراكز أبحاث ومؤسسات اقتصادية عالمية، أن إسرائيل ستشهد أزمة اقتصادية لم تعرفها منذ سنوات طوال بسبب الحرب على قطاع غزة، فالحروب القصيرة التي شنتها إسرائيل، في العقدين الأخيرين، ابتداء من العام 2006، لم تعكس نفسها سلباً على الاقتصاد، كما أن متانة الاقتصاد جعلته يجتاز بسرعة أزمة الكورونا، أما الآن فإن حجم الصرف على الحرب ما زال يصعب حصره، ليس فقط على الجيش الإسرائيلي، وإنما بالأساس على الجمهور وقطاعات اقتصادية باتت مشلولة، في حين أن المساعدة الأميركية السخية تتأخر بسبب الأزمة في الكونغرس. وفي ظل كل هذا، تتكاثر الاتهامات لوزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، الذي لم يعرض خططا واقعية، ويصر على استمرار الصرف على مصالح الأحزاب الشريكة في الائتلاف الحاكم.
هذه الورقة تحاول أن تلقي الضوء على أبرز التداعيات الاقتصادية التي ترتبت وسوف تترتب على الحرب التي تشنها إسرائيل ضد قطاع غزة.
ما هي القطاعات الاقتصادية الأكثر تضرراً حتى الآن؟
عدّدت التقارير الاقتصادية المتعدّدة أكثر القطاعات تضرراً بسبب الحرب، ومنها قطاعات إنتاجية، خاصة الزراعة والبناء، ومنها قطاعات خدماتية، مثل السياحة التي توقفت كليا، داخليا وخارجيا، ومعها أيضا المطاعم، وكذلك شبكات التسوق للبضائع غير الاستهلاكية الأساسية الضرورية، وبشكل خاص قطاع الملبوسات، والاحتمال يتزايد بإخراج مئات آلاف العاملين إلى إجازات غير مدفوعة الأجر.
فيما يلي موجز لواقع حال هذه القطاعات، استنادا إلى سلسلة تقارير في الصحافة الاقتصادية الإسرائيلية:
قطاع السياحة: فور نشوب الحرب، سارعت جميع الدول للطلب من مواطنيها مغادرة إسرائيل، في حين أوقفت شركات الطيران، عدا الإسرائيلية، رحلاتها إلى إسرائيل، وعشرات آلاف المواطنين الذين كانت حجوزات عودتهم إلى البلاد مع شركات عالمية يضطرون لشراء تذاكر من شركات طيران إسرائيلية، بأسعار باهظة ومضاعفة، في حين أن أعدادا كبيرة، بالذات عرب، اختارت العودة عن طريق مطار عمان الدولي، ومنه برّاً إلى البلاد. وتوقفت أيضا السياحة الداخلية في الفنادق، التي تشكل عادة أكثر من 60% من حجم الإقامة في الفنادق بالمعدل السنوي. والفنادق التي تعمل حاليا باستيعاب كامل هي فنادق البحر الميت، التي استوعبت أساسا آلاف الذين تم إجلاؤهم من البلدات الإسرائيلية المحيطة بقطاع غزة. وقال مسؤولون في اتحاد الفنادق، إن آلاف العاملين خرجوا إلى إجازات ليست مدفوعة الأجر، وهناك من توقع أن يصل عددهم إلى 100 ألف عامل.
قطاع المطاعم: في سياق متصل بالسياحة، فإن اتحاد المطاعم يتحدث عن انهيار بنسبة 70% في عدد الذين يرتادون المطاعم، وأن من يدخلون المطاعم بغالبيتهم الساحقة هم في ساعات النهار ولوقت قصير، ومراكز النقاهة والترفيه الكبرى في البلاد، خاصة في منطقة تل أبيب الكبرى، ومثلها في حيفا شمالا وأيضا في مدينة القدس، شبه خالية. وأعلن اتحاد المطاعم بعد أسبوعين من بدء الحرب، صعوبة تسديد المطاعم لالتزاماتها المالية والضريبية في شهر تشرين الأول المنتهي، وربما الشهر المقبل، تشرين الثاني، بسبب تردي حجم السيولة.
قطاع الزراعة: حتى اندلاع الحرب، كان يعمل في قطاع الزراعة الإسرائيلي 20 ألف عامل تايلاندي، و9 آلاف عامل فلسطيني، وغيرهم، وقد توقف عمل العمال الفلسطينيين بسبب الإغلاقات على مناطق الضفة، وبطبيعة الحال إغلاق قطاع غزة، وإلغاء كل التصاريح، أما العمال الأجانب وخاصة من تايلاند، فقد غادر معظمهم البلاد بعد الإعلان عن أن عدداً منهم إما قتل أو تم أخذه رهينة في هجوم السابع من تشرين الأول، وكانت هناك أكثر من إحصائية، فهناك من تحدث عن 20 عاملا، بين قتيل ورهينة، وهناك من تحدث عن 54 عاملاً رهائن في قطاع غزة. ولم تنجح إغراءات إسرائيل للعمال التايلانديين بالبقاء في إسرائيل في مقابل منحة بقيمة تعادل 500 دولار لكل واحد منهم، كما قالت تقارير اقتصادية إن إسرائيل تحاول استقدام آلاف العمال من الهند والفيلبين، لكن احتمالات هذا الأمر ضعيفة جدا، على ضوء استمرار الحرب.
قطاع البناء: بسبب عدم الأمان في العديد من مناطق البلاد، وهذا يسري على قطاع الزراعة، فإن مشاريع بناء ضخمة شبه متوقفة عن العمل، وفي الأساس في جنوب إسرائيل وأقصى شمالها، وفي بعض مناطق الوسط، وكما في قطاع الزراعة، كذلك في قطاع البناء، فإن الاعتماد الأساس هو على عشرات آلاف العاملين الفلسطينيين من الضفة الغربية، والقليل من قطاع غزة، وعشرات آلاف العاملين الأجانب. فمن جهة، تم وقف تصاريح العمال الفلسطينيين، والغالبية الكبيرة من العمال الأجانب غادرت البلاد، لكن بحسب تقارير ميدانية هناك جانب خسائر آخر في هذا القطاع، وهو أن شركات البناء الكبرى أوقفت تحويل أموال إلى شركات بناء أصغر منها، تتلقى مشاريع من الشركات الكبرى، وهذه شركات تعد صغيرة، ومقاولين “صغار” اقتصاديا، لا يحتملون وقف التحويلات، نظراً لالتزاماتهم المالية للمزودين والعاملين، والبنوك، بالإضافة إلى الالتزامات الرسمية مثل الضرائب وغيرها، ولكن هذه الأخيرة ممكن إيجاد حل حكومي لها.
قطاع الملبوسات: هذا القطاع يجمع بين الاستهلاك الأساس وبين الكماليات، والأخيرة هي مصدر دخل أساس، ونظراً لقلق الجمهور، وتركيزه على الإنفاق على الاحتياجات الأساسية الضرورية، بهدف توفير المال لحالات ضائقة أشد، فقد قالت التقارير إن هذا القطاع يشهد تراجعاً حادّاً في مداخيله. وعلى سبيل المثال، أعلنت شركة “كاسترو”، وهي من أكبر شبكات تسويق الملبوسات، عن انهيار مداخيلها بنسبة 75% في شهر تشرين الأول المنتهي، وهو شهر موسمي للملبوسات، ولهذا فقد أخرجت 80% من العاملين لإجازات مدفوعة، لكن في حال طال الوقت، فإن الإجازات ستتحول إلى غير مدفوعة، ما يعني تحول العاملات والعاملين إلى البطالة القسرية.
الاستهلاك العام: بشكل عام وكما في كل فترة توتر، وهذه قاعدة عامة، فإن الاستهلاك الفردي ينهار، لأن تخطيط العائلات للمستقبل يتغير، خاصة أولئك الذين هم قلقون على مستقبل تشغيلهم. والقطاع المستمر هو الأغذية على أنواعها، لكن هنا أيضاً فإن العائلات أقبلت على تموين ضخم جدا، وهذا سيتبعه في المرحلة المقبلة حالة اكتفاء، قد تجعل حركة الشراء ضعيفة.
في المجمل العام، فإنه في الحالة الاقتصادية القائمة هناك نوعان من الخسائر: خسائر لا يمكن تعويضها، وأخرى سيتم تعويضها وأكثر بعد انتهاء المرحلة. وفي النوع الأول نجد المطاعم والسياحة وأيضاً المزروعات، إذ أن الخسائر فيها لا يمكن تعويضها، في حين أن خسائر في قطاعات أخرى مثل البناء واستهلاك “الكماليات” والتي قد تُستأنف بعد الحرب يمكن تعويضها، وكما في حالة الكورونا فإن لدى نسبة عالية من العائلات ستتكدس أموال كبيرة نسبياً على مستوى مداخيل الفرد وستسعى لإنفاقها لرفاهيتها، بعد حالة الحرب.
اتساع البطالة
أعلنت مؤسسة الضمان الاجتماعي الحكومية (مؤسسة التأمين الوطني)، في نهاية الأسبوع الماضي، أن عدد من أبلغوها بخروجهم إلى عطلة غير مدفوعة الأجر، بلغ حتى يوم إصدار التقرير، 15 ألف عامل وعاملة، وهؤلاء سيطلبون تلقي مخصصات بطالة، إلا أنه حسب قانون البطالة العام، باستثناء فترة الكورونا السابقة، فإن من يحق لهم تلقي مخصصات هم من عمر 28 عاما وحتى سن التقاعد؛ للرجال 67 عاماً وللنساء 65 عاماً.
ويبدأ حجم المخصصات من نسبة 40% من الراتب غير الصافي للعامل، ولمدة شهرين، لمن هم في عمر 28 عاما وحتى 32 عاما، وترتفع تدريجيا النسبة والفترة، لتصل إلى 70% ولفترة 7 أشهر لمن تجاوزوا عمر 35 عاما، وعملوا 12 شهرا متواصلا قبل خروجهم للبطالة.
وبحسب ما ورد هنا، وتضاف له سلسلة تقارير اقتصادية، فإن عدد العاملين الذين أعلنته مؤسسة الضمان هو مجرد عدد سيتضاعف عدة مرات طالما استمرت الحرب، وفي حال اتسع نطاقها.
ونشير هنا إلى أنه حسب تقارير إسرائيلية، فإن ما بين 300 ألف إلى 360 ألف جندي احتياط تم استدعاؤهم للخدمة العسكرية، وهؤلاء يشكلون 8% من القوة العاملة، باستثناء بضع عشرات آلاف قليلة، ممن هم طلاب في معاهد التعليم العليا، وبالتالي فإن خروجهم من سوق العمل سيقلل من عدد الذين يخرجون لبطالة قسرية، خلافا لما كان في فترة الكورونا، وهذا الملف هو جانب صرف كبير في الميزانية العامة، وما زال مبكراً جداً معرفة حجم هذا البند من الصرف.
هبوط النمو الاقتصادي وعجز 4%
في نهاية الأسبوع الماضي، وقبل انتهاء الأسبوع الثالث على الحرب، وضع جهاز خبراء وزارة المالية الإسرائيلية تقديرات لمستقبل الاقتصاد الإسرائيلي، في سيناريوهين أساسيين: الأول يقضي بحرب تتركز أساساً في قطاع غزة وتكون فترة الحرب محدودة نسبياً، والثاني، هو تشعب الحرب وامتدادها لأشهر، كما طرح الخبراء فرضية أشد قسوة على الاقتصاد.
في السيناريو الأول، الذي يستند فيه التقدير إلى التعبئة الجماعية للجيش الاحتياطي، وإغلاق نظام التعليم وإغلاق الشركات، تقدر خسارة الناتج المحلي الإجمالي بنحو 0.6% من هذا الناتج، أي حوالي 11.8 مليار شيكل. وفي مثل هذا السيناريو، يبلغ تقدير العمال الذين سيخرجون من سوق العمل بنحو 1.1 مليون عامل، أي 25% من الحجم الحالي للقوة العاملة. وهذا يعني خسائر للاقتصاد بأكثر بقليل من 20 مليار شيكل، من دون كلفة الجيش والأسلحة وما يرتبط بهما.
وبحسب السيناريو الثاني، ستصل خسارة الناتج المحلي الإجمالي خلال 2023-2024 إلى 44 مليار شيكل (22 مليار كل عام) وسينخفض النمو إلى 2.2% في العام 2023 (مقارنة بتوقعات 3.4% عشية الحرب) وفي العام 2024 من المتوقع أن يرتفع إلى 2.5% (مقابل 2.7% في التوقعات السابقة).
ويفترض السيناريو بداية التعافي في الربع الأول من العام 2024 والتعافي الكامل في الربع الثالث من نفس العام. وترى صحيفة “كالكاليست” التابعة لصحيفة “يديعوت أحرونوت”، أن هذا السيناريو يبدو متفائلاً جداً، وهو مشابه جداً لسيناريو بنك إسرائيل (2.3% – 2.8% على التوالي).
وبحسب السيناريو الحاد، ستصل خسارة الناتج المحلي الإجمالي إلى 67 مليار شيكل (31 مليار هذا العام و36 مليار العام المقبل) وستنخفض معدلات النمو إلى 1.3% في العام 2023 (مقارنة بـ 3.4% أصلاً) وفي العام 2024 ستنخفض مرة أخرى إلى 0.6% (مقابل 2.7% عشية الحرب). في هذا السيناريو، يستمر التعافي حتى الربع الرابع من العام 2024 ولا يكتمل. ومعنى هذا السيناريو هو أنه خلال عامين متتاليين، سيكون نمو نصيب الفرد سلبيا عندما يكون هناك خطر كبير للركود.
وإذا طالت الحرب، حسب تقديرات وزارة المالية، ستصل خسارة الناتج المحلي الإجمالي إلى 55 مليار شيكل (22 مليار هذا العام و33 مليار العام المقبل- ما يعادل 5.5 مليار دولار إلى 6.6 مليار دولار) وستنخفض معدلات النمو إلى 2.1% في 2023 (مقابل 3.4%).
في المقابل، تقول تقارير اقتصادية إسرائيلية إن كلفة الحرب الإجمالية في جميع الاتجاهات، ستصل إلى 80 مليار شيكل (20 مليار دولار)، وهذا يعادل 4% من حجم الناتج. إلا أنه حتى الآن لم تعرض التقارير الاقتصادية الإسرائيلية الرسمية، أو تلك الصادرة عن جهات تقدير اقتصادية وخبراء ومحللين، دور الدعم الأميركي للحرب، الذي بلغ 14.3 مليار دولار، وهذا عدا 3.8 مليار دولار، مبلغ الدعم العسكري السنوي الثابت.
اللافت في الدعم العسكري الجديد أنه يخصص 10.6 مليار دولار للدعم العسكري، والباقي لـ”الدعم المدني”، بيد أن إسرائيل أوقفت في سنوات الألفين جانب الدعم المدني، بعد تعزز اقتصادها. وهذا يعني أن الدعم الأميركي يصل بالمجمل إلى 56 مليار شيكل، وهو تغطية تبدأ من شبه كاملة للتقديرات الأولى، إلى 75% من الصرف الكلي في أسوأ التقديرات بشأن الصرف.