أخبار محلية

✳️ ملامح تصاعد أزمة القيادة في الاتحاد الأوروبي ✳️

نوار الصمد – إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية

دفعت تداعيات الحرب في أوكرانيا نحو إعادة صياغة توازنات القوى داخل الاتحاد الأوروبي؛ حيث أصبح لجيران أوكرانيا الأوروبيين صوت مرجح في تحديد مسائل مهمة في سياسات الاتحاد، كالأمن والدفاع والتوسع شرقاً، وجمع المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا، وفرض العقوبات على روسيا، وتعديل خريطة الإمدادات الطاقوية الأوروبية. وجاء هذ التغير في موازين القوى على حساب كل من باريس وبرلين؛ نتيجة إظهارهما بعض التردد في مسألة التصدي لهجوم بوتين على أوكرانيا؛ حيث بقيت باريس، ولفترة طويلة، مؤمنة بقدرتها على لعب دور الوسيط بين الطرفين الروسي والأوكراني، فيما تم انتقاد ألمانيا لاعتبارها أن التجارة والتبادلات الاقتصادية مع روسيا ستدفعها إلى تغيير سلوكياتها التوسعية، على الرغم من كل التحذيرات الصادرة حول نوايا بوتين الحقيقية.

أسباب رئيسية
يمكن إرجاع الدوافع التي أدت إلى تصاعد أزمة القيادة في الاتحاد الأوروبي إلى النقاط التالية:

  1. التنافس على اتخاذ القرار في أوروبا: أطلقت المساعي المبذولة أوروبياً لإنقاذ أوكرانيا، سباقاً جديداً على الزعامة السياسية وعملية اتخاذ القرار داخل الاتحاد الأوروبي؛ فالأمر لم يعد قاصراً على القوى الكبرى التقليدية داخل الاتحاد على غرار فرنسا وألمانيا؛ بل بزغت قوى أخرى لها تأثيرها، وهو الأمر الذي ساهم في تقويض “النموذج القديم للهيمنة”، على حد تعبير مجلة إيكونوميست؛ فقد كان “المشروع الأوروبي لعقود من الزمن يتمتع بديناميكيات يمكن التنبؤ بها على نحو مماثل، سواء كان يتألف من ستة بلدان أو 12 أو 27 دولة؛ حيث كانت فرنسا وألمانيا القوى الأكثر تأثيراً في عملية اتخاذ القرار الأوروبي، لكن النموذج القديم للهيمنة من قبل أكبر عضوين في الاتحاد الأوروبي كان يعاني منذ فترة طويلة من التراجع. وبينما تواجه أوروبا أزمات متكررة، بدأت تتشكل جغرافياً قوة جديدة أكثر مرونةً”.
  2. مساعي لندن لمنافسة قوى الاتحاد الأوروبي: بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، عملت لندن على تعزيز تحركاتها على الساحة الدولية، وهو الأمر الذي تضمن في الوقت ذاته منافسة القوى الرئيسية داخل الاتحاد الأوروبي، وخاصةً فرنسا وألمانيا. ولعل هذا ما كشفت عن الحرب الأوكرانية؛ حيث كان رئيس وزراء المملكة المتحدة آنذاك بوريس جونسون أول زعيم أوروبي يزور أوكرانيا بعد بدء الهجوم الروسي في 24 فبراير 2022، كما أتت الزيارة الخارجية الأولى للرئيس الأوكراني “زيلينسكي” إلى لندن قبل أي عاصمة أوروبية أخرى. وكان البريطانيون أول من قَبِل بتسليم دبابات إلى كييف (تشالنجر 2) مع تقديم عروض بتدريب الطيارين الأوكرانيين في الوقت الذي كانت فيه ألمانيا مترددة في مسألة إرسال مدرعات ليوبارد 2 إلى كييف.
  3. تبلور مركز جيوسياسي جديد في أوروبا: كما حاولت بولندا، وبدعم من دول البلطيق، تشكيل مركز جيوسياسي جديد داخل الاتحاد الأوروبي، قائم على طرح العديد من السياسات الداعمة لأوكرانيا، سواء كانت عسكرية أو مالية، ودفع الاتحاد الأوروبي إلى تبنيها، كما أن بولندا استقبلت أكثر من 3.5 مليون لاجئ أوكراني، وزارها الرئيس الأمريكي جو بايدن مرتين في أقل من عام بعد اندلاع الأزمة. علاوةً على ذلك، قررت الحكومة البولندية زيادة إنفاقها الدفاعي إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي بهدف تحويل الجيش البولندي إلى أقوى جيش بري للناتو داخل أوروبا.
  4. تـأثيرات التشتت الألماني: مع بدء الأزمة في أوكرانيا، وجد المستشار الألماني أولاف شولتز نفسه منشغلاً بإنقاذ الائتلاف الحاكم في ألمانيا الذي كان مهدداً بالتفكك، كما أدى تراجع مستوى التأييد الداخلي لحزب شولتز (أي الحزب الاشتراكي) إلى المرتبة الثالثة بـ15%، إلى امتداد التشتت الألماني نحو المستوى الأوروبي؛ حيث تُرك الاتحاد الأوروبي بلا قيادة ألمانية تستطيع إلهام الآخرين مثلما كان الوضع في السابق مع أنجيلا ميركل.
  5. انشغال فرنسي بترتيب البيت الداخلي: كما لا يختلف وضع فرنسا الداخلي عن وضع ألمانيا، بل يُعتبر أكثر سوءاً؛ حيث كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعاني من خسارة أغلبيته البرلمانية منذ يونيو 2022؛ الأمر الذي أفقده الكثير من سلطته داخل البرلمان، كما أنه علاوةً على ذلك كان يواجه احتجاجات عارمة في الشارع على وقع إقرار قانون إصلاح نظام التقاعد، ولقد أدى كل ذلك إلى تضاؤل قدرة ماكرون على التأثير في أوروبا.

ويواجه ماكرون حالياً معضلة إضافية أيضاً تتمثل في انشغاله بكيفية ردم تأخره عن تيار أقصى اليمين الذي يسبقه بنحو 10 نقاط في سباق الانتخابات الأوروبية في يونيو القادم؛ الأمر الذي دفعه إلى القيام بتغيير حكومي على أمل إعادة إنعاش وضعه الداخلي. وكان ماكرون يطمح، بعد انسحاب أنجيلا ميركل من الحياة السياسية، إلى وراثة زعامتها الأوروبية، لكن أوضاعه الداخلية، بالإضافة إلى أسلوبه في التعامل الذي لا يلقى استحسان القادة الآخرين في الاتحاد الأوروبي، لم يُمكِّنانه من ذلك.

  1. تزايد التباينات الفرنسية–الألمانية: بالإضافة إلى معاناة فرنسا وألمانيا داخلياً، فإن العلاقة الثنائية بين ماكرون وشولتز لا تبدو على ما يرام؛ حيث يَعتبر المطلعون عليها أن كلاً منهما يتعامل مع الآخر تعاملاً سيئاً. ويعود ذلك إلى أن شخصياتهما مختلفة تماماً، ووجهات نظرهما غير قابلة للتوافق؛ حيث يفضل ماكرون المزيد من الإنفاق على المستوى الأوروبي، والمزيد من الاستقلال عن حلف شمال الأطلسي (الناتو) وعن الولايات المتحدة الأمريكية، فيما يرى شولتز أنه يجب الاهتمام بالاقتصاد الألماني أولاً والاعتماد أمنياً على واشنطن.
  2. التأثيرات المعاكسة لصعود اليمين المتطرف: شهدت العديد من الدول الأوروبية خلال السنوات الماضية صعوداً ملحوظاً لتيار اليمين المتطرف، وهو التيار الذي بات يروج لخطابات أكثر انعزاليةً، وصولاً إلى دعوات أكثر تطرفاً متعلقة بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ناهيك عن تأثير بعض القادة، مثل فيكتور أوربان في المجر، على عملية اتخاذ القرار داخل أوروبا، مستغلاً في ذلك آليات صنع القرار في الاتحاد الأوروبي، وهي الدعوات التي ساعدت في تفاقم معضلة القيادة داخل أوروبا.

سيناريوهات المستقبل
تلوح عدة سيناريوهات لتطور أزمة القيادة في الاتحاد الأوروبي، من أهمها:

  1. تحول الاتحاد إلى كيان بلا قيادة: يفترض هذا السيناريو أن يؤدي تحالف قوى اليمين الشعبوي الحاكمة في الدول الأوروبية بعضها مع بعض، إلى استفحال أزمة القيادة داخل الاتحاد الأوروبي؛ حيث لن يترك مثل هذا التحالف – الذي قد يضم جورجيا ميلوني التي تقود إيطاليا، وخيرت فيلدرز الذي من المحتمل أن يحكم هولندا، مع آخرين – مجالاً إلا للمزيد من انتشار النقاشات الفوضوية داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، خصوصاً مع توقع تحقيق الشعبويين المزيد من المكاسب في انتخابات البرلمان الأوروبي القادمة؛ ما قد يضعف أفكاراً أساسيةً قام عليها المشروع الأوروبي الموحد، كسيادة القانون والقيم الديمقراطية.
  2. إعادة تفعيل طموحات الريادة الفرنسية: يروج المقربون من الرئيس الفرنسي ماكرون لخلاصة مفادها أن الأفكار التي كان يدعو لها ماكرون، كالاستقلالية الاستراتيجية والجيش الأوروبي، أثبتت صوابها في عدة محطات؛ لذلك فإنه يجب على أوروبا أن تسير في درب تحقيق اكتفائها الذاتي على جميع الأصعدة، سواء الأمنية أو الاقتصادية أو الصحية. وقد يدفع تصاعد التوتر بين أمريكا والصين من جديد، مع تزايد احتمالات فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية لعام 2025، الزعماء الأوروبيين الآخرين الى الاستماع إلى أفكار ماكرون والسير عليها.

ويروج ماكرون لفكرة مفادها أن أوروبا كانت ساذجة في تعاملاتها مع بقية العالم؛ حيث أبقت أسواقها مفتوحةً، في حين لم يفعل ذلك شركاؤها التجاريون؛ لذلك فإنه يجب بلورة سياسة صناعية موحدة لأوروبا. ويرى مراقبون أن حلفاء سابقين للمملكة المتحدة، كالدنمارك أو هولندا، قد يعملون على إعاقة تقدُّم الأفكار الفرنسية. وصحيح أن الفراغ الألماني يمثل مكسباً للطموحات الفرنسية، لكن في الأغلب ستحتاج إلى برلين؛ لأنه لا يمكن إطلاق الرؤى الفرنسية داخل القارة الأوروبية، إلا إذا تم تبنيها وتطبقيها من قبل برلين.

  1. تقدم محور دول أوروبا الشرقية والوسطى: تَعتبر أوساط بعض المراقبين أن تأثير محور دول أوروبا الوسطى والشرقية – وهو محور مؤلف من 11 دولة أوروبية؛ هي: ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا وبولندا والتشيك وسلوفاكيا ورومانيا والمجر وبلغاريا وسلوفينيا وكرواتيا – ظهر من خلال تحوُّلَين رئيسيَّين في السياسة الأوروبية مؤخراً: الأول هو تغطية الاتحاد الأوروبي ثمن الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا، وهي خطوة أولى نحو الإنفاق الدفاعي.

والثاني هو توسيع الاتحاد الأوروبي، الذي كان خارج جدول الأعمال في السابق؛ حيث لم تنضم أي دولة منذ كرواتيا في عام 2013. والآن يجري التفاوض على انضمام 9 مرشحين جدد؛ من أبرزهم أوكرانيا التي اتفق قادة الاتحاد الأوروبي في 14 ديسمبر 2023 على بدء محادثات انضمامها الرسمي إلى الاتحاد الأوروبي. وإذا توسعت الكتلة إلى 36 دولة فسوف يتحول مركز الثقل بشكل حاسم نحو الشرق. ويرى صناع القرار السياسي، ضمن هذا المحور، أن الضمانات الأمنية التي يقدمها حلف شمال الأطلسي، وبالتبعية الولايات المتحدة، أكثر إقناعاً وفاعليةً إلى حد كبير من الدعوات الفرنسية إلى إقامة الاستقلال الاستراتيجي وشراء معدات عسكرية أوروبية (أي فرنسية غالباً).

  1. استمرار مركزية الدور الألماني– الفرنسي: وترى قراءات أنه على الرغم من كل النفوذ الذي يتمتع به محور دول أوروبا الشرقية والوسطى عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا، فإن صوتها نادراً ما يُسمَع عندما يتعلق الأمر بأجزاء أخرى من صنع السياسات الأوروبية. أما بالنسبة إلى مستقبل مشروع القيادة البولندية على أوروبا فإن هذه القراءات تعتبر أنه يفتقد للمشروعية، خصوصاً من ناحية العلاقة مع القيم الديمقراطية والرغبة في تطبيقها في الداخل البولندي؛ حيث لا يمكن للاتحاد أن يقبل مثل هذه القيادة المخالفة لفكرة سيادة القانون التي يؤمن بها.

كما أن الثنائي الألماني–الفرنسي ما زال يتمتع بسلطة كبيرة على الرغم من اضطرابه حالياً، ولكنه يبقى من دون أي بديل حقيقي ذي مصداقية؛ حيث تمثل الدولتان معاً 15% من سكان الاتحاد الأوروبي، ويساهمان بنسبة 44% من ميزانية الاتحاد الأوروبي، ويصل إنفاقهما على البحث والتطوير العسكري إلى 80% من إنفاق الاتحاد الأوروبي، وهما – قبل كل شيء – القوتان الاقتصاديتان الرائدتان بـ47% من إجمالي الناتج المحلي لمنطقة اليورو.

وترى هذه الآراء أنه ليس لدى المملكة المتحدة أي فرصة لاستعادة القوة التي كانت تتمتع بها ذات يوم فيما يتعلق بالبناء الأوروبي؛ حيث إن من الممكن لها تحسين صورتها الدولية، لكن سيبقى الأوروبيون يميلون أكثر إلى تفضيل التعامل مع الولايات المتحدة في الثنائي الأنجلو– أمريكي؛ لأنها الأقوى والأكثر موثوقيةً بالنسبة إليهم.

5.مكاسب رئاسة المفوضية الأوروبية: وتعتبر وجهات نظر أخرى أنه على الرغم من تعطل المحرك الفرنسي الألماني الذي كان يدير أوروبا، فإن بعض الآليات المساعدة لا تزال تعمل، وهي الآليات التي تُعتبَر إحداها هي رئيسة المفوضية الأوروبية “أورسولا فون دير لاين” بما لديها من صلاحيات. وهي تستحق إعادة تعيينها في الخريف القادم لولاية ثانية، وتَذكُر هذه الآراء إنجازاتها التي تتلخص في إنشاء صندوق للتعافي من فيروس كورونا بقيمة 875 مليار دولار، وإشرافها على شراء اللقاحات للكتلة الأوروبية بأكملها، وكذلك خطتها لخفض انبعاثات الكربون إلى الصفر بحلول عام 2050.

كما أنها استخدمت صلاحياتها لحرمان المجر وبولندا من المال الأوروبي؛ بسبب عرقلتهما حكم القانون؛ حيث كان فيكتور أوربان في المجر يطالب بنحو 30 مليار يورو من أموال الاتحاد الأوروبي المعلقة، كما أقام دونالد تاسك حملته الانتخابية في بولندا في خريف 2023، على أساس قدرته على استرداد أموال الاتحاد الأوروبي التي تم حظرها بسبب سياسات سلفه.

ختاماً، لا زالت قيادة المشروع الأوروبي تتأثر بمدى التناغم في التطلعات والأهداف بين الثنائي الألماني– الفرنسي الذي يُعَد بمنزلة المحرك الأساسي لهذا المشروع. ولكن بالإضافة إلى ذلك، ظهر مركز جيوسياسي جديد تتزعمه بولندا يحاول عدم إغفال هواجسه وتطلعاته. ولعل التحول السياسي الأخير في بولندا، مع فوز التحالف المدعوم من دونالد تاسك في الانتخابات، سيُخفِّف من وطأة أزمة القيادة التي عانت منها أوروبا منذ بدء الحرب على أوكرانيا؛ حيث من الممكن أن يصبح للمشروع الأوروبي محرك من ثلاثة مكونات، وأن يدفع نحو الاتجاه نفسه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى