مبادرة بلينكن وصفقة الثور الأبيض.
كتب. أ. هشام صفا
مما يكثر الحديث عنه – وكما في نهاية كل حرب – تلك المقترحات و أوراق المبادرات السياسية المقدمة من أطراف وجهات، عادة ما توصف بأنها من أصاحب النوايا حسنة، تهدف للمساهمة في تحديد نهايات المراحل الأخيرة من الحرب و تحويل مسار الواقع السياسي الصعب لآخر متوازن وقائم على اتفاق يرضي طموح كافة الأطراف القريبة والبعيد الداخلة في النزاع.
لكن، مما يجدر الكتابة والتحليل فيه، هو حول تلك المساعي التي لا يمكن وصفها إلا بالخبيثة، التي تحاول جاهدة انتزاع الذي لم تستطيع أنتزاعه بالحرب بواسطة السياسة، مرتدية في ذلك قناع الدبلوماسية، ومقدمة لنفسها بصفتها صاحبة تلك النوايا التي يتعين على أصحابها الدخول في الصلح وردم الهوة المتشكلة بين أطراف ذلك النزاع.
وثمة ما هو أخبث من ذلك، هو أن تقوم الجهة المتوسطة بتنفيذ ما يفترض أنها عملية سياسية ضرورية لأنها الحرب، بجعلها ضمن العمليات الأخرى التي يتم تنسيقها لأجل دعم الجهود العسكرية في إدارة النزاع المسلح والتحكم بمساره خدمة لاهداف تلك الحرب.
يطالعنا وزير خارجية الولايات المتحدة انطوني بلنكن بمبادراته الحالية لإحلال السلام بين “إسرائيل” وحماس، وذلك بعدما تم التمهيد لها جيدا منذ نهاية أيار مايو المنصرم، عندما طرح الرئيس الأمريكي جو بايدن في إحدى خطبه ما سماه بالمقترح الإسرائيلي لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وبعد أسبوع من عرض بايدن، تم تسريب الوثيقة الفعلية عبر بعض وسائل الإعلام بوصفها الورقة التي تشكل اساسا الصفقة التي تتفاوض إسرائيل والمقاومة في غزة بشأنها، وهي بمثابة الوثيقة الاصلية التي جاءت تحت اسم “المبادئ الأساسية للاتفاق على تبادل المحتجزين والأسرى وعودة الهدوء المستدام”٠
وبعيدا عن هذا السيناريو الذي يبدو تمريره ملعوبا بمهارة دبلوماسية البيت الأبيض المعهودة، لكننا ومع هذا ومن جهة أخرى، فإننا نريد قراءة المشهد من زاوية ثانية تشكك بالنوايا الأمريكية، وتلحظ المحاولة الأمريكية للخروج من الواقع السياسي والأمني الذي فرضته عليها جبهات محور المقاومة على امتداد الأشهر الثمانية الماضية.
ولكي يكون التوصيف دقيقا، فإنه ومنذ المرحلة الأولى التي أدارت فيها قيادة محور المقاومة الأزمة، حيث نجحت فيها من تحقيق هدف عزل العدو الإسرائيلي عن محوره الغربي، وانتهت تلك المرحلة بسحب جيوش الولايات المتحدة لأسلحتها الاستراتيجية المركبة من حاملات طائرات و بوارج وغواصات نووية قد تم استقدامها للمنطقة خوفا من نية المحور محو “إسرائيل” عن الخارطة والتعرض لأهم الخطوط الحمر الذي يثبت منظومة الأمن و المصالح الأمريكية والغربية في الشرق الاوسط والعالم، فمنذ ذلك الوقت، بدأت معالم التراجع العسكري الإسرائيلي بالظهور.
لقد أدرك الإسرائيلي ومعه الأمريكي في وقت متأخر انهما قد ابتلعا الطعم، وكنتيجة لقصور أو تقصير من قبل الولايات المتحدة في استمرارها بدعم الكيان المؤقت بشكل مباشر، لكنها في نهاية الأمر فإنها قد رمت بإسرائيل في أتون حرب كبرى انفردت فيها في مواجهة المحور، والذي قام بدوره في وضع فكرته للحرب، ووزع الأدوار بين كافة مكونات العسكرية، بينما بقيت “إسرائيل” مرمية في وجه هذا الكم الهائل من الأعداء وهي ترصد مسعى ومحاولات اصدقائها الأمريكيين في تمرير رغبتهم في “حل الدولتين” وإحلال السلام على كيان ذو تركيبه اجتماعية وسياسية عجيبة فريدة من نوعها، تتوزع فيها مكوناته بينما هو يمين وما هو يمين متطرف !!.
وكانتيجة أخرى اتت عن قصور أو تقصير امريكي، سببها إما الاستكبار والغرور أو الغباء في التقدير وتقييم الموقف العام، لم تتعاط السياسة الأمريكية مع حقيقة أنها قد ابتلعت الطعام، و أن الخروج من الأزمة بحل سياسي بعيدا عن الاعتراف بدور المحور في ذلك الحل قد بات ضربا من الخيال والكلام فيه نوعا من التخرص السياسي، و شكلا من أشكال الدبلوماسية الغبية والهشة.
لقد أدرك الأمريكي ومعه الإسرائيلي في مرحلة متأخرة، أن صياغة حلول سياسية هدفها صناعة ما هو أبعد من صورة ناصر في ظل واقع عسكرية فرضته المقاومة في مراحل لاحقة لمرحلة العزل الأولى، حيث نجحت في رسم صورة المشهد الاخير الذي بدت فيه إسرائيل محاصرة اقتصاديا لا غزة، وشمالها منطقة عازله لا اطراف القطاع، ومستوطنوها في غلاف غزة والشمال هم المهجرون لا أهل القطاع الذين رفضوا الخروج منه رغم الوحشية التي مورست ضدهم والتي لم يرى العالم لها مثيلا حتى اليوم.
و باختصار ولمن لم يفهم رسالة السيد حسن نصر الله في إحدى خطاباته حولك “غوشدان” وما يمكن أن ينتظرها، ولمن لم يحسن القراءة في تطورات المراحل المتعاقبة التي أدارت فيها المقاومة والمحور ملفهم في دعم صمود جبهة النضال الفلسطيني خاصة في هذا الاشتباك الحالي، وكيف تطورت مراحل الدعم إلى حدود صفد عاصمة الشمال، وحدود حيفا عاصمة الغرب وبئر السبع عاصمة الجنوب، وماذا يعني ذلك التصعيد التدريجي على مسرح الوسط في الضفة الغربية وحول مدينة القدس تحديدا، لمن لا يدرك معنى هذا في علم السياسة والاستراتيجية العسكرية نقول: إن العدو الآن قد بات يعلم أن محور المقاومة هو الآن على مشارف المرحلة الأخيرة التي ستحسم فيها الجبهة لصالحه بدون أدنى شك.
لكن، وفي محاولة أخيرة تبدو فاشلة منذ البداية، يحاول بايدن ووزير خارجيته تمرير خدعة هي أشبه ما تكون إلى خداع الصبي عن حليب أمه أول الفصال، فكرتها هي أكل الثور الأبيض أولا، الذي يجوب كما هي عادته المرعى الشمالي، وتأجيل موضوع الثور الأسود الذي يبدو أن التهامة مع وجود صديقه الأبيض متعذر للغاية.
ان ما تقوم به إدارة بايدن ويعاونها للأسف فيه بعض الأطراف العربية عن حسن نية في التوصل إلى حل يجنب أهل غزة ويلات الحرب، ما هو إلا خدعة موصوفة لا مكان فيها للإنسانية والسلام، بل لحسم المشاهد في غزة بإنهاء وجودها تماما بعد عزلها عن محورها الداعم لها، وتصحيح الخطأ الذي سلكت به الادارة الأمريكية منذ البداية سياساتها في إدارة الملف.
ان من يتأمل في بنود تلك “الصفقة” يرى بوضوح حجم المكر، ويرى مسعى الادارة الأمريكية المزيف ومن خلفها إسرائيل التي تبدو حيادية وملتزمة بالصمت حتى الآن، سيدرك أنه أمام مرحلة من مراحل الحرب ليس إلا، الغاية منها تصحيح المسار الخاطئ الذي سلكت به ادارة بايدن الحرب، وأن الغرض من تلك المبادرة ما هو سوى تمهيد لجبهة الشمال والحسم فيها بغية غزل غزة عن محورها قبل اللجوء لمحوها عن خارطة فلسطين.