أخبار محلية

♦️الباحث عن العلم، المعنى، الله: في ذكرى رحيل العلّامة النابلسي

رأي
صادق النابلسي

في سيرة العلامة الشيخ عفيف النابلسي، المليئة بالمخاطرات والمغامرات، الكثير الكثير من الأحداث والقصص والمواقف التي تستحق أن تُروى، لا لأنّ الماضي التاريخي يعيش في أعماقنا فحسب، بل لأنّ الماضي لا يموت فعلاً عندما يولد الحاضر، أو لأنّ كل تلك الأشياء تتلاءم مع النسيج التاريخي الجديد وتحيا فيه معنى وقيمة وغاية.لا نصادف في حياة النابلسي أحداثاً مألوفة وعادية. شِعره، بالمناسبة، الذي جُمع أكثره في أواخر حياته في ديوان كبير، شاهدٌ على أعماله التي لم تستقرّ على شكل واحد، بل كانت تبحث دائماً عن إيقاعات متعددة خارج أي تقييد أو تقليد.
حياته العلمية والروحية مليئة بالغرائب واللطائف والأسرار، وسفراته إلى بلدان العالم، وتنقلاته الاختيارية والاضطرارية من منطقة إلى أخرى في لبنان، كان فيها الكثير من الجدّة والاجتهاد.
في هذه المقالة القصيرة، التي لا يمكن أن تصنّف كترجمة لحياته، وفي الذكرى السنوية الأولى لرحيله، أحببت أن أقف على عناوين ثلاثة، تُلخّص، من وجهة نظري القاصرة، رحلته في هذه الحياة التي أعرف عنها شيئاً قليلاً، وغابت عنّي أشياء كثيرة: «البحث عن العلم. البحث عن المعنى. البحث عن الله» – وتوجزها الآية القرآنية المباركة «يا أيّها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه». مع التنويه إلى أنّ هذه العناوين لا تسير بشكل مقطعي – تتابعي – طولي، وإنما هي ملتحمة زمنياً بعضها ببعض تمحيصاً وسعياً وشغفاً، بمعنى أنّ البحث عن العلم هو بحث عن المعنى وبحث عن الله، والبحث عن المعنى، بحث عن العلم والله، والبحث عن الله بحث عن العلم والمعنى.

أولاً: البحث عن العلم
بدأ طريق العلم في سنٍّ مبكرة عندما أسلمه أبوه إلى كتّاب القرية الشيخ محمود خليل، فقرأ عليه القرآن والحساب. القرآن، الذي ترك في نفسه رواسب ودوافع لا تُمحى، جعله يفطن إلى أهمية العلم نظرياً وعملياً في الرقيّ الإنساني، كما عمّق لديه النزعة الدينية والروحية. والحساب، الذي ساهم بتشكيل اتجاهه العقلي في الاجتماع والسياسة. في صباه، وإلى جانب عمله مع والده، نشط معلماً للأطفال وعريفاً في الحفلات وقارئاً نهماً لكتب كان يستعيرها من أصدقاء ومشايخ منطقته الذين تلقى على أيديهم مبادئ العلوم الدينية وكان لهم أثر غير قليل في توجيهه في هذا الطريق.
عند مجيء الإمام موسى الصدر إلى لبنان، صمّم على مغادرة قريته والانتظام في معهد الدراسات الإسلامية في صور. تعهّده الإمام الصدر وفتح عقله على علوم اللغة والفقه والتفسير والأصول والاقتصاد والسياسة. لم ينتدبه الإمام كما انتدب بعض زملائه إلى أفريقيا (أرض الفتوحات التبليغية آنذاك)، ولا إلى الخليج (أرض الرفاهية الاجتماعية)، وإنما إلى النجف الأشرف كي يُعدّ لسلك المجتهدين، وهذا ما وافق ميله وشغفه بالعلم وما جُبلت عليه نفسه. في النجف الأشرف، التي وصلها بتوصية من الإمام، استقبله المرجع السيد محمد باقر الصدر (شيخ الفلاسفة الغرّ) بلهفته الإنسانية المعهودة، ومواهبه الأخلاقية السامية التي طالما أشار إليها بكتبه وكلماته. في محضره تذوّقَ روائع الفلسفة والأصول والفقه والاقتصاد والأخلاق، وفي محفله العلمي كان يسجّل كل فكرة وكل تجربة ويطّلع على أسرار وجوه الاستنباط الفقهي يستخلصها ويجمعها ويعرضها على أستاذه مستوفاة مبيّنة. وفي النجف صاحبَ الشيخ محمد جواد مغنية مصاحبةً علمية وأخوية، وكان سعيداً عندما يتحدث عن عمقها ونضجها وتأثيرها على ثروته العلمية التي استمدّها أيضاً من كل مصدر اتّسعت له النجف التي ظلّت بالنسبة إليه النعيم العلمي وساحة التفكير والأفكار والاجتهاد والعلماء والأدباء، بل أخصب فترات حياته العلمية وأكثرها نشاطاً وحماسةً.
لقد كان العلم متعته الرئيسية وقوام نظامه اليومي وعمله الأساسي طوال حياته، يتقلّب بين هذا العلم وذاك، جادّاً في درس كل ما تصل يد القدرة عليه. جدّيته هذه جعلته ينفق بياض أيامه وسواد لياليه في الدراسة والتعليم والتأليف، على الرغم من ضروب المشقات التي واجهها والظروف السياسية والأمنية والاجتماعية التي رافقته معظم فترات حياته. وكانت نشوته التي تنسيه متاعبه واعتلال صحته حين صدور مصنّف جديد له، كان يراه جزءاً لا يتجزأ من نفسه المنهومة بالعلم.
معظم أوقاته، وخصوصاً في السنوات الأخيرة من عمره، قضاها في مكتبته التي كانت تقيم فيه. لا يفتر عن المطالعة ولا يني عن التأليف الذي بلغ المطبوع منها ما يزيد على الخمسين مصنفاً في مختلف فروع المعرفة. لا أذكر أنّي دخلتُ عليه مرة لا يحمل فيها كتاباً أو قلماً، ولطالما كان يذكّرني بأنّ المجد كل المجد في العلم.

ثانياً: البحث عن المعنى
المعنى بالنسبة إلى العلّامة النابلسي هو بناء الخير، وقول الحق، وحرية التعبير عن الأفكار، وجعل الإنسان هو المحور الذي تدور حوله الأشياء، والتفاعل المستمر بين العقل والواقع في مجرى التجارب بما ينظّم تكوين الرغبات تجاه الأشياء أو الأشخاص في أحضان الأخلاق والقيم السماوية، والسير في طريق التحديات بمنهج بصير ويقين ثابت وقدرة على تجاوز الصعاب. المعنى، هو الحب والرحمة والعطف على الضعفاء ومساعدتهم وجلب السعادة والسلام للبشرية. والنابلسي وجد في الإسلام وجوده كله. به يتعلّق المعنى الأتمّ والمميز لإنسانيته ودوره ومهمته في هذه الحياة. وقد أخذ من أستاذَيه محمد باقر الصدر وموسى الصدر في طريقتهما في فهم الإسلام وتطبيقه المعنى الحقيقي المحسوس والملموس لوجوده الشخصي، وقبسَ منهما الإيجابية والفاعلية والحافزية والحكمة والقيام بالمسؤوليات الجسام بمنتهى الأمانة والصدق والإتقان.
كانت الظروف الشخصية الأليمة التي قاساها، والاختبارات الصعبة التي عاينها، والمحن السياسية المبهظة التي عايشها، كانت كلها روافد متدفّقة في مجرى ينحو صوب التألّق والسموّ.
لم تكن الساحات التي عمل بها ساحات سهلة طيّعة. أحد أبعاد فرادته وتميّزه وعظمته الداخلية أنه قَبِل العمل في هذه الساحات التي خاف غيره العمل بها أو تجنّبها لقلّة مردودها وإنتاجيّتها أو لمخاطرها الشخصية والسياسية. العمل في «الساحات الصعبة» يمثّل إنجازاً ذاتياً قبل أي شيء، وهي التي جعلت حياته غنية بالتجارب والحوادث والمتاعب. وهو في توجّهه نحوها لم يكن يسألها ما الذي سوف تعطيه له، بل يسأل نفسه ما الذي سيعطيه لها، ولم يكن في واقع الأمر يركّز على ما هو متوقع منها، بل على ما تتوقعه هي منه.
في مدينة الحرية في العراق، عندما انتُدب وكيلاً عاماً للشهيد الصدر، لم يكن عمله مقتصراً على التبليغ الديني، على أهميّته آنذاك، فحسب، وإنما كان عمله، الذي أتقن سبله، تولّياً لمسؤولية رسولية رساليّة، وكان طريقة في الرؤية، منفتحاً على شبكة من العلاقات الإنسانية يمثّل بنفسه مركزها. كانت حركته في ملعب النظام البعثي، وتدريسه لكتب الشهيد الصدر (فلسفتنا – اقتصادنا) ونشر أفكار الصدر ونظريته في القيادة والاجتماع، والتفاف المثقفين حوله جزءاً من عملية التنوير ومن عملية التثوير معاً. فهذه الحركة في جوهرها كانت ثورة ناعمة على النظام وفكره العلماني الاختزالي، حيث لم يسلم في معتركها من المراقبة والتضييق والترهيب.
في مدينة الحرية خاض غمار المشكلات كافة، واستطاع أن يحلّق بعيداً في أسلوبه وحركته، وأن يكتشف آفاقاً فكرية واجتماعية وسياسية واسعة، وأن يبلغ درجة من الإجادة والتفاعل مع محيطه. بعد سجنه ثم نفيه من قبل النظام إلى لبنان، أقام في قريته أقلّ من سنتين لم يظفر بالاطمئنان والرضى فيها، وكانت نفسه دائماً تحدّثه بالعودة إلى العراق. في هذه الفترة، تردّد على حارة صيدا التي كانت ساحة مرغّبة ومنفّرة بما كان فيها من تنوع الأهواء والأحزاب، ولكنه استطاع أن ينقل ناسها من حالة إلى أخرى، وأن يرفع من مستوى إيمانهم ووعيهم، وكانت صلاة الجمعة التي أقامها تعجّ بالمصلّين وتوقد مشعلاً آخر للوعي والقوة والمقاومة.
بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان واغتيال الشيخ راغب حرب، أسّس مع مجموعة من علماء الدين «هيئة علماء جبل عامل» وقاد معهم أكبر عملية مواجهة ثقافية ودينية وسياسية وإعلامية وعسكرية. بعد الانسحاب الإسرائيلي الأول عام 1985، خاض الميادين مع السيد عباس الموسوي وكانا مركز الحركة والتوجيه، ثم وجد فرصة زمنية وجغرافية حطّ بها الرحال في مسجد الإمام المهدي في الغازية، حيث كان يُعدّ المسجد الأول في الجنوب الذي يرتاده المقاومون والقياديون من حزب الله ويعتبرونه منطلقاً لتحركاتهم. من هذا المسجد، أسّس حركة موجيّة ضخمة تمدّدت في أرجاء المنطقة مثلما تؤدي الحرارة إلى تمدد الحديد، واستنفرت حسّاداً وأعداءً، لكنّه ظلّ محتفظاً بلياقته الأخلاقية لا يحب الدخول في المعارك الصغيرة حتى لا تستنفد طاقته في ما لا يفيد. بيد أنّ المشكلة الكبرى التي أرّقته كان الخلاف الذي انفجر بين حركة أمل وحزب الله وانعكس سلباً على ساحته الجديدة التي لأفرادها ولاءات متعددة ومصالح عائلية وحزبية متناقضة ازدادت اتساعاً مع مرور الأيام.
لم يكن حل الخلاف بين أمل وحزب الله في البداية متبلوراً وواضحاً، لكنه كان كامناً يتحرك جزء منه حسب قوانين الجاذبية النفسية والسياسية. فطرح مفهوم التفاعل بدل التدافع، ثم سعى كل سعيه لعقد صلح كريم بين الطرفين يضمن للمقاومة حركيتها واستمراريتها، ويدفع عن بني مذهبه بلاء الصراع. على الرغم من الملابسات الخطيرة التي رافقت هذه الفترة، بقي النابلسي على رحابته في استيعاب كل خطأ، ومعالجة كل خلل في العلاقة، ومضى يرمّم هنا ويطفئ هناك، وجولاته بين طهران ودمشق كانت شاهدة على جهده النبيل وحرصه الشديد على حقن الدماء وتوجيه البندقية حصراً إلى صدر العدو الإسرائيلي. هنا، يسجل للنابلسي دور كبير في استمرارية حزب الله وحمايته من الهزات والأزمات والمراجعات التي حصلت في أروقة أصحاب القرار آنذاك، والأمين العام سماحة السيد حسن نصر الله شاهد على تفاصيلها وكذلك آخرون على قيد الحياة، ولكنّي لن أدخل فيها الآن، لأنّ فيها أسراراً وأغواراً، إلا أنها، بحقّ، تستحقّ أن تُروى في يوم من الأيام لأهميتها في التجربة التاريخية للحركة الإسلامية الشيعية، وأهمية الوقوف على منطقها الداخلي وما عايشته من تجاذبات خارجية.
في صيدا، كانت النقلة الأخيرة والأطول. نقلة يمكن وضعها في إطار مبدأ المبادرة التي كانت تحكم وعيه واستشرافه للمستقبل والانفتاح على أفق جديد. في صيدا، كان عليه أن يوظّف وعيه العميق بطبيعة التحالفات الصيداوية والتوازنات السياسية، وقد نجح في نسج علاقات مستقرة مع معظم المكوّنات الدينية والاجتماعية والسياسية وأن يؤسّس مركزاً كان نموذجاً للتسامح والتفاعل الإنساني.
في صيدا، حمل راية فلسطين بقوة بعد تراجع حملَتِها. جمع الفلسطينيين على اختلاف تناقضاتهم وحثّهم على مواصلة الطريق ونبذ دهاليز السياسة الغربية التي تهجم على الحق الفلسطيني والذاكرة الفلسطينية بلا هوادة. وفي صيدا، بنى أكبر سفينة للمقاومة كان بنفسه ملّاحها، يتقدّم بها نحو الأعماق ويرى بعينه الاستجابة الخلّاقة للناس فيغمره فرح التأييد والنصر لها، ويتّسع الحلم أكثر، عندما يجد الناس يعودون إلى الله، يتعبّدون في محرابه الذي أقامه للصلاة والحبّ والأخوّة الإسلامية والإنسانية.
كل الفترة التي عاشها متنقّلاً بين صور والنجف وبغداد حتى صيدا، ورحلاته إلى الخارج مطّلعاً على ألوان الثقافات والحضارات والشعوب كانت عابرة لحجب المكان والزمان، حافلة بالمبادرات وبرؤية علمية وعملانية شجاعة. لم ينتمِ النابلسي في حياته إلى مركزية وظيفية ضاغطة. كان يسمو فوق القطبيات الحادة، يخاطب الناس بفطرتهم ويكلّمهم بإنسانيتهم، متعالياً فوق ما يدور على الأرض من تحيّزات وتصنيفات جرّت الويل والخراب والكراهية. وكان في كل سلوكه أكثر إحساساً بحقائق الإسلام وأقلّ تعبداً بالفكرة الواحدة وأبعد ما يكون عن المذهبية العمياء.
إذا كان هناك من يعيش أزمة معنى في حياته، فالنابلسي لم يكن في حياته الصعبة مأزوماً ومحبطاً. يتحرك بتفاؤل شديد إلى الأمام، وإن بدت، في أعوام مرضه، معالم الحزن تظهر عليه بصورة أوسع. ولكن الأمل كان يسطع على الرغم من العقبات التي كانت تطرأ من هنا وهناك، عبر إصراره القوي على متابعة السير ولو حبواً على الثلج.

ثالثاً: البحث عن الله
وعى باكراً على حقيقة العبادة وأدرك جوهرها بيقين يجاوز حدود الأدلّة العقلية. هو الذي شرب من نبع القرآن ونهج البلاغة ولم يزل دون العاشرة من عمره. سلّم قلبه لله كي يكون عبداً، حبيباً ومحبوباً. رمى نفسه في وادي العشق واقفاً على أسرار الخلق والحق. وهاجر كما يهاجر الأولياء الصالحون إلى غاية الآمال ومنتهى الرغبات مسحوراً بالله، مجذوباً لله، محترقاً بحرارة عشقه.
أمتع أوقاته كانت في العبادة. يأنس بالليل الذي يصرفه عن كل المعاني الحسية ليلامس بروحه الرقيقة الواردات الإلهية والمتنزّلات الروحية التي لا تليق إلا بالنفوس الأبيّة والهمم العالية. في شهر رمضان كان يختم القرآن الكريم مرة كل يوم، ويصلّي الصلاة تلو الصلاة مجذوباً بجذبة الهوى. وفي الدعاء، كنا نسمع أنينه ونرى دموعه الغزيرة. يطبّق على نفسه أصعب الفرائض ليحترق وحده بنار الحب ولينشغل بمشاهدة أنوار معشوقه. أشعاره العرفانية وكتبه تكشف عن تأثره بالعرفاء وقصصهم وسيرهم وسلوكهم ومنازلهم ومكاشفاتهم، وكان يتتبّع أثرهم ويطيّع نفسه ليكون من زمرتهم، ولطالما ذكر في كلامه سلوك أستاذَيه: الإمام موسى الصدر والإمام محمد باقر الصدر اللذين كان لهما تأثير غير قليل في توجيهه في طريق الفتوحات الأنفسيّة وليس الثورية فحسب. وقد حصل له ما لا يقال، ووقف مواقف لا تُرى، كان يحدّثنا عن بعض ما يأتيه من إشارات وإلهامات ويخفي أكثرها، وفي بعض أيام السنة، وخصوصاً أيام عاشوراء، كنا نجد تجلّيات ذلك على وجهه وأحواله بارزة فيزيدنا هيبة له واحتراماً.

خاتمة
في سنواته الأخيرة، وحتى قبل مرضه، كثر صمته وكأنّه كان يبحث عن هدوء القلب. لم أعهده يكره إطلاقاً، ولكنّه كان يتأبّى الجلوس مع بعض الأشخاص وينفر من آخرين. لم يكن من الذين تستهويهم الخصومات، بل كان دائم البحث عن أصدقاء. خلافه مثلاً مع الشيخ محمد مهدي شمس الدين أوائل الثمانينيات حول مفهوم «المقاومة المدنية الشاملة» لم يقلّل من احترامه وتقديره له أبداً. عندما توفّي طلب منّا تعطيل الدروس في الحوزة الدينية. وعندما سألناه عن سبب ذلك، أجاب: بأنّ وفاته حدث كبير، وهو زعيم الطائفة، ويجب أن نتعامل مع الأمر بوعي سياسي وأخلاق دينية عالية.
كانت مادة عمله نقية صافية. تقديره للعلماء ولأهل العلم كبير، وتواضعه للناس لافت، ومساعدته لكل قاصد كانت دائماً مجبولة بالمحبة والرحمة والعطف. وقد روى لي مطران صيدا ودير القمر مارون العمار كيف كانت محبّة النابلسي للمسيحيين مؤثّرة، وينقل أنّ النابلسي توجّه إلى قرية الحجة في شرقيّ صيدا لحماية أهلها في فترات الفتنة، وطلب منهم أن لا يغادروا القرية وهم سيكونون بمأمن من أيّ اعتداء وسيكون إلى جانبهم في أيّ محنة يدفع عنهم كلّ أذى ويردّ عنهم كلّ شر. هذه المحبة هي التي ستدفعه لاحقاً لتصنيف مؤلَّف باسم «النبي محمّد (ص) حاضن أهل الكتاب وحاميهم».
يواسي نفسه بالصلاة والمطالعة كثيراً، فهما علاجه من الظروف الصعبة. بعض الأشخاص الذين خاب ظنّه بهم كان يحزن عليهم ويشفق عليهم ويترحّم عليهم إن فارقوا الحياة. لا يرغب بأن يذّكره أحد بشخص أساء إليه، ولا ببيئة يئس من إصلاحها وانقطع رجاؤه من صلاح أهلها.
كانت أحزانه السرّية كبيرة، وأسراره عن تجربته وعن الآخرين أكبر. ولكن في كل حياته المليئة بالغربة كان يتحرّك مطمئناً نحو الأعلى، نحو الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى