أميركا وروسيا من “سياسة الاحتواء” إلى “احتواء السياسة” أحلام بيضون
أحلام بيضون
قام التحالف بين الاتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة زمن الحرب، بهدف تقويض ألمانيا الهتلرية. وانبثق عن الانتصار في الحرب العالمية الثانية قيام عالمَان رأسمالي واشتراكي، ورفع شعار نبذ العنف، والحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، واعتماد مبدأ التعاون الدولي، ومساعدة الدول والشعوب الأقل تطورا والأكثر ضعفا على التحرر والاستقلال والتنمية .غير أن هذه الوضعية سرعان ما تغيرت، وحلّ التوتر بين العملاقين السوفيتي والأميركي محلّ التفاهم. فأنظمة البلدين متناقضة، ولكل منهما مطامعه ومخاوفه. لكنّ لم يكن الوضع ليؤدي إلى حرب بين الطرفين لأسباب عدة، أهمها، أن آثار الحرب العالمية، والتي قاسى منها الاتحاد السوفيتي كثيرا، شأنه شأن الأوروبيين وبقية العالم، كانت لا تزال حاضرة؛ من جهة ثانية، كانت الجرائم التي ارتكبتها الولايات المتحدة، باستخدام السلاح النووي، كثمن لإنهاء الحرب، لا زالت حاضرة أيضا، بالإضافة إلى مسؤولية إعادة إعمار أوروبا.
نتيجة لما تقدم، نشأ بين العالمين الرأسمالي والاشتراكي، ما عرف بالحرب الباردة، أي نشوب صراعات في مختلف بقاع العالم، يغذيها كل من السوفيت والأميركيين، مع حرسهم بأن لا تتحول إلى حرب مباشرة بينهم. إن ما حصل يمكن تفسيره بمعطيات تتعلق بالطرفين السوفيتي والأميركي. فبالنسبة للسوفيت، هم يملكون بلدا مترامي الأطراف، لكنه مفتوح على مطامع القوى العظمى، ولهم في التاريخ دروس. لذلك، فهم يحرسون على الحفاظ على أمنهم، وإذا اعتبرنا أنه لا يعنيهم التوسع جغرافيا، فإنه يعنيهم إيجاد دول وقوى متحالفة معهم، يستحضرونها وقت تدعو الحاجة. وهذا يعني التوسع سياسيا، وذلك عن طريق التأثير في أنظمة الدول، وإقامة أنظمة مشابهة لنظامهم، إن لم تكن متطابقة تماما معه. الولايات المتحدة من جهتها، كان يعنيها أن لا ينسى العالم أنها من وضعت النقطة الأخيرة لإنهاء الحرب العالمية الثانية، ومعها إنهاء إلمانيا كقوة كبرى في ذلك الوقت، حيث تم توصيفها بأنها نظام عنصري، كان بقاؤه سيسبب الويلات للعالم، ولا ندري إن كانت تلك الويلات هي أكبر مما فعلته آلات التدمير للدول التي شاركت في الحرب العالمية الثانية، وقبلها الأولى، وخاصة المشاركة المميزة للولايات المتحدة، واستخدامها للسلاح النووي.
لم تتأخر الإدارة الأميركية في البحث عن خطط للوقوف في وجه الاتحاد السوفيتي، القطب المنافس الباقي. فظهرت إديولوجيا جديدة تسمى “سياسة الاحتواء” “”policy of containment (1)، وهي ترمي إلى “محاربة الشيوعية أينما وجدت”. وأول من استعمل هذا المصطلح هو جورج كنان الدبلوماسي الأمريكي، وكان آنذاك رئيساً لهيئة تخطيط السياسة في وزارة الخارجية الأمريكية. وقد جاء استخدامه للمصطلح، في مقالة كتبها ونشرت بتوقيع مغفل في المجلة الأمريكية الفصلية المعروفة باسم “الشؤون الخارجية، “Foreign Affairs ، في عددها الصادر في صيف 1947. وترمي “سياسة الاحتواء” إلى اعتماد استراتيجية دبلوماسية وعسكرية، تؤدي إلى إنشاء أجهزة للتخطيط والتصميم والتنفيذ، بما يشبه كيانا قائما بذاته. وقد شرح كنان أسباب نظريته، ناسبا ذلك إلى العداء الذي يكنه الاتحاد السوفيتي للغرب، وللولايات المتحدة على وجه الخصوص، ويعود إلى شعور الزعماء السوفيت بافتقاد الأمن بفقدان الحواجز الجغرافية، فلا يتمتعون بالأمن الذي تنعم به الولايات المتحدة حسب قوله. وإذ رأى بأنّ الشعور بانعدام الأمن قاد إلى عدم ثقة بالخارج، فإنه قاد في الداخل إلى اعتماد سياسة قمعية وتدابير قاسية للحفاظ على النظام الشيوعي وسط عالم رأسمالي؛ أما في الخارج، فقد تمثلت السياسة السوفيتية باستقطاب الثوريين عن طريق الحركة الشيوعية الدولية. وهو يرى أن الهدف غير المعلن للسياسة السوفيتية هو توسيع نفوذ الاتحاد خارج الحدود، وليس خلق مجتمع غير طبقي.
وقد رأى صاحب نظرية الاحتواء، بأنه يجب معالجة نزعة التوسع السوفيتية المستمرة بسياسة طويلة الأمد، وباعتماد قوة معاكسة في سلسلة من المواقع الجغرافيّة والمواطن السياسيّة، تتحول وتتنقل باستمرار تبعاً لتغيّرات السياسة السوفييتية ومناوراتها. وبعد تعديد الأسباب رأى كنان أن الاتحاد السوفيتي ليس بذلك العملاق الذي لا تمكن مجابهته، وأنه بمقدور سياسة احتواء ذكية أن تكبح جماحه. ولعلّ أهم ما قاله صاحب نظرية الاحتواء، أنه رغم استبعاد اندلاع الحرب بين العملاقين، فلا يعني ذلك عدم إمكانية التأثير في التطورات الداخلية في الاتحاد السوفيتي، وفي الحركة الشيوعية الدولية، ويفترض بالولايات المتحدة من أجل هذه الغاية، أن تظهر أمام العالم كقوة عظمى، قادرة على حلّ مشاكلها الداخلية، ومضطلعة خير اضطلاع في مسؤولياتها الخارجية. وهو يخلص إلى القول أن “سياسة الاحتواء” كفيلة بوقف امتداد القوة السوفيتية.
تعرضت نظرية كنان للانتقاد من قبل من لم يتعمق بها، خاصة بعد توصّل الاتحاد السوفيتي لتملك قنبلة نووية، وإثبات حالة توازن أكثر ثباتا مع العملاق الأميركي، وكان أشهر الانتقادات، تلك التي اعتبرت أن “سياسة الاحتواء” استبعدت كليا الحلول الدبلوماسيةن والمفاوضات بين القوتين الأميركية والسوفيتية.
ورغم ما يؤخذ على نظريّة الاحتواء، فقد ظلت في خطوطها الرئيسة هي الاستراتيجية التي طبقتها الإدارات الأمريكية المتتالية مع فروقات، فكانت سياسة “حافة الهاوية” مع جون فستردالس، وزير الخارجية في عهد الرئيس أيزنهاور، ثم سياسة “الرد المرن”، وسياسة “الردع النووي”، إلى أن تمّ اعتماد “المفاوضات” على يد وزير الخارجية هنري كيسنجر، في عهد إدارة الرئيس نيكسون، وأدى تطبيقها إلى عقد عدد من الاتفاقيات بين العملاقين حول الحدّ من السلاح النووي وغيره من أسلحة الدمار الشامل.
ورغم ذلك، فإن نظرية “سياسة الاحتواء” تعتبر مسؤولة إلى حد ما، عن الانقسام إلى معسكرين سواء على المستوى الأوروبي، أو على المستوى العالمي، وإلى نشوء الأحلاف المتخاصمة، وحلول الحرب الباردة محلّ التعاون، واتساع نطاق ما تورّطت فيه الولايات المتحدة على مستوى العالم، فقد كانت تقف ضد أي تحرك يتخذ منه الاتحاد السوفيتي موقفا إيجابا أو داعما. وبما أن طبيعة النظام السوفيتي كانت ثورية، أو لنقل شعبية، قائمة على سيادة البروليتارية أو الطبقات العاملة، فقد كانت أكثر قربا ومناصرة لحركات التحرر والاستقلال، ووقفت الولايات المتحدة في الجهة المعاكسة، فأعاقت حركات التحرر، وتميزت مواقفها بالوقوف إلى جانب قوى الاستعمار فيما يتعلق بحركات المقاومة وتقرير المصير، أو “الأنظمة القمعية” فيما يتعلق بحركات الحرية والمساواة والعدالة. لقد وقفت موقفا عدائيا من الثورات الشعبية وحركات مقاومة الاستعمار، معتبرة أنها تضرّ بمصالحها، بمجرد أنها تتلقى الدعم من الاتحاد السوفيتي. وهكذا، فبدل أن يتم التعاون للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، ومساعدة دول العالم الثالث على التنمية والتطور، فقد حلّ التوتر في العلاقات الدولية، وراحت تصرف الأموال على التسلح والحروب، بدل أن تصرف على التطور والتنمية.
لقد اعتقدت الولايات المتحدة أن سياسة الاحتواء قد آتت أُكُلها، وتمّ ما كانت تتمناه من تفكك الاتحاد السوفيتي، ومعه العالم الاشتراكي، ومعه والأهم، تأثيره على مستوى العالم، على الأنظمة داخل الدول، وعلى حركات المقاومة. لقد كان لتفكك الاتحاد السوفيتي أثرا سلبيا على المسارات التحررية، وعلى نفسية شعوب العالم الثالث، ووالأهم من كل ذلك، التأثير على مستوى القرارت الدولية داخل الأمم المتحدة، حيث تمّ القضاء على الفترة الذهبية، حين كانت تتخذ القرارت الدولية التي تصب في صالح دول العالم الثالث أو الدول النامية، نتيجة للتحالف بين تلك ودول عدم الانحياز، دول العالم الثالث، أو الدول النامية والدول الاشتراكية، وإعطاء أصواتها لصالح تلك القرارات، التي تشدد على حق الشعوب بتقرير المصير، وتشرّع حركات المقاومة ضد الاستعمار والاحتلال، وتدعو إلى التعاون الدولي، ومساعدة الدول النامية. وشهدت فترة الستينات حتى التسعينات أهم القرارات الدولية التي تصب في صالح الشعوب والسلم والتنمية الدولية، ممكن أن نذكر: القرار المتعلق بتوصيف العدوان، والقرار الذي أنشأ برنامج الأمم المتحدة للتنمية، والقرارات المتعلقة بحق الشعوب بالتنمية، وقانون البحار وما يتضمنه من تركيز على الحل السلمي للنزاعات البحرية، وقانون أعماق أعماق البحار، والإرث المشترك للبشرية، والقرارات التي توصّف الأنظمة العنصرية بأنها جرائم، والقرارات التي أنجزت استقلال العديد من الدول التي كانت لا تزال تحت الاستعمار وغيرها العشرات. لم يستعصِ على الحلّ سوى قضية الشعب الفلسطيني، والسبب الرئيسي والأساسي هو وقوف الولايات المتحدة بكل قوتها وراء الكيان الاستعماري العنصري الصهيوني، ونجاحها في استدراج الأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية إلى مشاريع حلول سلمية، لم تكن سوى مصيدة للحقوق الفلسطينية، وتعويلا على الوقت لدفن تلك الحقوق إلى الأبد.
لقد استفردت الولايات بالقرارات الدولية، وكانت فرصة لتلك الدولة كي تظهر للعالم أنها مثال لدولة العدالة والحق، بأن تقف إلى جانب الشعوب المستضعفة، لكن بدلا عن ذلك، راحت تنشأ تسلح وتمول الحركات الإرهابية، وتستعمل شعار الإرهاب لغزو الدول، كما راحت تفتعل الثورات داخل دول مستقرة، أو ضد تحرك شعوب راغبة بإصلاح أنظمتها الداخلية. لقد وقفت مع الأنظمة الظالمة مقابل أن تبقى مهيمنة على القرار فيها، بما يخدم ما تعتبره مصالحها العليا، والذي يتمثل غالبا بنهب موارد الشعوب، أو إقامة قواعد عسكرية فيها. لقد تبين للعالم حقيقة النظام القائم في الولايات المتحدة الأميركية، ومدى غطرسته واحتقاره للشعوب، فبالإضافة إلى تدمير العديد من البلدان ونهبها، راحت الإدارة الأميركية توزع العقوبات على الدول والحكومات وحتى الأفراد، معتمدة في ذلك على قوانين داخلية تسنها هي، بعدم اعتبار كلي لما يسمى سيادة الدول، لقد وصلت الغطرسة إلى فرض عقوبات على المنظمات الدولية (عهد ترامب ومنظمة الصحة الدولية). لقد مارست الولايات المتحدة ما سعت له منذ بدأ تدخلها في حروب أوروبا التي كانت تتحول إلى حروب عالمية، وهو قيادة العالم منفردة. حاولت ذلك بداية تحت غطاء المنظمات الدولية، ثم ما لبثت لاحقا أن نزعت ذلك الغطاء، ومارست هيمنتها عارية دون خجل من قانون أو شريعة أو أخلاق.
لم يكن يخطر على بال المسؤولين الأميركين أن يوما سيأتي وخصمهم اللدود الاتحاد السوفيتي السابق، الذي تقمص في الإتحاد الروسي، سيعود إلى النشاط من جديد، باحثا عن موقعه على مستوى العالم الذي أضاعه في غفلة من الزمن. لقد صحا العملاق الروسي، وبدأ يتلمس الطريق ليضع الحدود في نصابها، ويلجم التنين الأميركي، مستعينا ومتحالفا مع عملاق آخر هو الصين، ومع قوى أخرى كإيران وغيرها، يمكن أن نعتبر أنها حلّت محلّ تيار “عدم الانحياز”، أو أنها أتت لتنعشه هي الأخرى من جديد.
لقد بدأ الاتحاد الروسي يتلمس طريقه من جديد، حين تدخلَ ضد الحرب الإرهابية التي شكلت تحالفها الولايات المتحدة في سوريا. كما كانت عمليته في جورجيا، ثم استعادة القرم من أوكرانيا إشارات تمهيدية، لما أقدم عليه مؤخرا من غزو لإوكرانيا، تحت عنوان: “عملية عسكرية خاصة”، أهدافها المعلنة حماية الناطقين بالروسية في منطقة الدونتسك، ووضع حد للنازية الجديدة، والقضاء على الأسلحة البيولوجية، والنووية، ومنع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو، لمنع تهديد أمنه. ربما يكون كل ما ذكر صحيحا، لكن السبب غير المعلن هو البحث عن المركز الذي يليق بدولة بحجم ومقدرات وتاريخ روسيا، والسعي لوضع حد بالتالي للغطرسة الأميركية، وأشكال الإهانة والإذلال التي يتعرض لها الإتحاد الروسي كما غيره من دول، بفرض عقوبات بالاستناد إلى قانون أميركي داخلي، دون أدنى احترام لشخصية الدول واستقلالها وسيادتها، المفترض أنها متساوية في نظر القانون الدولي، دون أي تمييز بالنسبة لحجم أو قوة الدولة، فالدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة هي متساوية من حيث السيادة، وتتمتع بصوت واحد في أرجائها.
يمكن أن نعتبر أن روسيا قد استطاعت، أو هي في طريق احتواء سياسة الهيمنة الأميركية وغطرستها، ووضع حد لممارساتها التي أدت إلى حروب وكوارث لا تنتهي على امتداد العالم. ويكون بإمكان الاتحاد الروسي بالتالي، أن يرفع شعار “احتواء السياسة” اليوم، مقابل شعار “سياسة الاحتواء” التي انتهجتها الحكومات الأميركية المتعاقبة تجاه الاتحاد السوفيتي السابق، فكانت عاملا لوضع العوائق في وجه تحقيق الأمم المتحدة لأهدافها التي تضمّنها ميثاقُها، وعلقت عليها الشعوب آمالها.
……………….
(1) لمن يريد الاطلاع على المزيد حول نظرية “سياسة الاحتواء”، يمكنه مراجعة هذيه المرجعين على الأقل:
– JOHN LEWIS GADDIS, Containment (J. Foreign Affairs July 1970).
– WILLIAM APPLEMAN WILLIAMS, From Colony to Empire: Essays in the History of American Foreign Relations New York.
أحلام بيضون/ بيروت/26/3/2022