أخبار محلية

لأقصى والقيامةُ تحدي البقاءِ وصمودٌ في وجهِ الأعداءِ


بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
يتمنى الإسرائيليون أن تنشق الأرض وتبتلع المسجد الأقصى المبارك وكنيسة القيامة معاً، ومعهما كل المعالم الدينية الإسلامية والمسيحية في مدينة القدس، فلا يبقى منهما أثرٌ أو علامةٌ ولا شاهدٌ أو دليلٌ، أو أن يستيقظوا يوماً فيجدونهما قد تحولا إلى ركامٍ وبقايا بناءٍ، فلا صرح قائم ولا مسجد عامر، ولا محراب للصلاة ولا مذبح للطهارة، ولا مآذن شامخة ولا أجراس صادحة، ولا مسجد يحميه المرابطون، ولا كنيسة يحج إليها المؤمنون، ولا يعود في القدس آذانٌ يرعبهم صوته وتخيفهم مفرداته، ولا أجراس تؤزهم طرقاتها وتقلقهم أصواتها، ولا إسلام يهددهم ولا مسيحية تنافسهم، ولا من يتكلمون العربية لحماية مدينتهم، أو يعتمرون الكوفية لصبغة عاصمتهم.

لا يستهدف الاحتلال المسجد الأقصى وحده، وإن كان يصب عليه جام غضبه، ويركز عليه جهوده، ويكثف ضده مؤامراته، ويراه قائماً فوق هيكلهم ويخفي أساساته، ويحتل مقدسهم ويعطل عبادتهم، ويحول وجوده دون اكتمال عودتهم الآخرة، واستعادة تابوت موسى وعصاه، وهيكل سليمان واسطبلاته، ويمنع أهله تقديم قرابينهم وتأدية طقوسهم، ولهذا فهم يستعجلون الخطا ويضاعفون الجهود، ويقتحمون ويتسللون، ويخدعون ويحتالون، ويحاولون ويعتدون، علهم يحققون الأماني ويصلون إلى الغايات، وكل ظنهم أن الزمان قد أظلهم، والوعد قد آذنهم.

إلا أن الاحتلال يستهدف أيضاً كنيسة القيامة، والوجود المسيحي الفلسطيني في مدينة القدس، فالمسيحيون الفلسطينيون هم الشهود على عربية المدينة وأصالة انتمائها، وهم إليها ينتسبون وبها يفتخرون، وإلى الحضارة العربية العريقة ينتمون، وهم الذين سلموا الخليفة عمر بن الخطاب مفاتيحها، واستأمنوه فيها على حياتهم وممتلكاتهم، وعلى كنائسهم ومقدساتهم، وعاشوا قروناً طويلة مع شركائهم المسلمين، حافظوا معهم على هوية المدينة وصورتها، وأبقوا على لغتها وحضارتها، وأضفوا بوجودهم فيها على رونق التعايش الجميل، وشكل الحياة البهيج، والشراكة الرائعة، التي نعموا فيها معاً بالمحبة والتراحم، والمواطنة والإخاء، والعدل والمساواة.

صعَّدت سلطات الاحتلال الإسرائيلي هجماتها ضد المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، فاجتاحت قطعان المستوطنين ومجموعات المتشددين باحاته الشريفة، ومنعوا المسلمين من الصلاة والرباط فيه، واعتدى جنود الاحتلال على مسجد قبة الصخرة والمسجد القبلي، وعاثوا فساداً داخل المسجدين، واعتدوا على المصلين ضرباً مبرحاً واعتقالاً تعسفياً، وداسوا فراش المسجدين ودنسوه، وأطلقوا قنابل الغاز الخانق والمسيل للدموع في صحن المسجدين وباحات الأقصى، في الوقت الذي قام فيه الجيش وأفراد الشرطة بحماية المقتحمين اليهود وتأمينهم، إذ اعتقل المئات وطرد الآلاف، وحبس من تبقى منهم داخل المسجدين ومنعهم من الخروج منهما.

هذا هو حال سلطات الاحتلال الإسرائيلي مع الفلسطينيين في المسجد الأقصى المبارك، منذ احتلاله مع الشطر الشرقي من مدينة القدس في يونيو/حزيران من العام 1967 حتى أيامنا هذه، فهو لم يغير سياسته، ولم يبدل مخططاته، ولم يخفِ نواياه، وإن كان يطور في أساليبه ويعدد في وسائله، ويتوحش في إجراءاته، ليحقق بسرعةٍ أكبر أهدافه ويصل إلى مبتغاه، ما يعني أن عدوانه الأخير على المسجد الأقصى ليس جديداً ولا مفاجئاً، ولا صادماً أو مباغتاً، بل هو واحدٌ من سلسلة طويلةٍ من الاعتداءات التي لا تنتهي إلا برحيله، ولا تتوقف إلا بطرده من القدس بشطريها، ومن أرضنا الفلسطينية كلها.

لكنه توسع هذه المرة واشتط، عندما اعتدى على كنيسة القيامة، وحرم المؤمنين الفلسطينيين من الدخول إليها والصلاة فيها، وهو الذي سرق من قبل أوقاف المسيحيين، واعتدى على مقدساتهم، وأغلق كثيراً بوابات كنائسهم، فهو يراهم فلسطينيين يتمسكون بأرضهم، ويصرون على حقوقهم، ويحسنون التعبير عن قضيتهم، ويسمع العالم لشكواهم ويصدق روايتهم، ولهذا فهو يحاربهم ويضيق عليهم، ويقيد حريتهم ويتشدد في إجراءاته ضدهم، ويحول دون أدائهم لطقوسهم، رغم قلة عددهم، وعدم خطورة اجتماعهم، إلا أنه يراهم سنداً لإخوانهم المسلمين، وعوناً لهم، يدافعون عن المسجد الأقصى دفاعهم عن كنيسة القيامة.

هل يريد الاحتلال الإسرائيلي معاقبة الفلسطينيين المسيحيين على مواقفهم، ومحاسبتهم على رفضهم التقسيم المكاني والزماني للمسجد الأقصى، وحرمانهم من الاحتفال بأعيادهم الدينية ومناسباتهم الخاصة، بسبب احترامهم أعياد المسلمين وتهنئتهم بشهر الصيام وعيد الفطر، أم يريد محاسبتهم على فتحهم لكنائسهم وبيوت عبادتهم لإخوانهم الفلسطينيين المقاومين والمناضلين، أم أنه يضيق عليهم غضباً من تصريحاتهم المباشرة وأصواتهم العالية، بأن العدو الإسرائيلي يستهدف القدس كلها، ويضيق على كل سكانها، مسيحيين ومسلمين، ويريد “تطهيرها” منهم، وإخراجهم منها عنوةً وقسراً.

يقول الفلسطينيون، المسيحيون والمسلمون، بصوتٍ واحدٍ متينٍ، وبلسانٍ عربيٍ مبين، وبلغة الفعل الرادع قبل الكلام القاطع، أن القدس ستبقى مدينةً عربيةً، عاصمةً موحدةً للفلسطينيين، وسيبقى مسجدهم الأقصى حراً مطهراً، عزيزاً مقدساً، لا يقاسمهم فيه أحدٌ، ولا يحرمهم من الصلاة فيه غازٍ، وستبقى كنيسة القيامة شامخةً صامدةً، تغيظ العدو وتقتله كمداً، تعانق المسجد الأقصى وتشد على أيدي المرابطين فيه والمدافعين عنه، ولن يسكت في المسجد الأقصى أحدٌ آذاننا، ولن يطفيء في كنيسة القيامة عدوٌ نور سبتنا.

بيروت في 25/4/2022
moustafa.leddawi@gmail.com
WhatsApp: +96171261359

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى