الهندسة الاجتماعية والجيل
الجديد من الذباب الالكتروني
أنس حسن
بعد سنوات من الربيع العربي، وسنوات أخرى من الثورات المضادة، وأزمات الخليج وغيرها، تحول نشاط “الذباب الالكتروني” من مرحلة “الشغب الالكتروني” إلى مرحلة أكثر تعقيدا وهي مرحلة “التلاعب الثقافي والاجتماعي”..
أصبحت ألحظ أن أجيال الذباب الالكتروني القديمة والتي تكون وظيفتها الشتم ورفع التريندات فقط والتخوين تضاءلت مع تراجع الأزمات الحادة بين الدول، وكذلك بسبب نشاط المنصات الاجتماعية لكشف الشبكات واغلاقها، وحاليا نشهد جيل جديد..
من خلال جلوسي مع خبراء مختصين في تحليل هذه الشبكات، اطلعت على تحليل دقيق رقمي وبرمجي لهذه الشبكات، ولم أكن مهتم أبدا بتتبعها “الالكتروني” بمعنى أنني لم أكن أهتم بما تقوله البرمجيات عن علاقات هذه الشبكات، أو تفاعلاتها، بقدر ما كان يهمني -كصحفي- أن أفهم “تحليل مضمون الخطاب” داخل تلك الحسابات.. وكنت أطرح أما التفاعلات عدة أسئلة:
- ما المضمون الثقافي والسياسي الذي تريد تمريره؟
- ما هو أسلوب الخطاب المستخدم؟
- ما هي المعارك التي يقررون دخولها وما هي المعارك التي يتركونها؟
-ما هو أثر القضايا التي يعززون فيها النقاشات العامة، وما علاقتها بالمجريات السياسية؟ - هل لهم علاقة بتدعيم مقولات ثقافية أو تيارات بعينها؟
- ما هي دورة حياة “الذبابة الجديدة” بدءا من التفاعل الآلي، وصولا للاحتراف والوصول لكونه حساب أقرب للحقيقي؟
واتضح معي الآتي:
- الجيوش الالكترونية التابعة لدول إقليمية بما فيها “اسرائيل” لم تعد مجرد حسابات تجييش رقمي فقط، بل أصبحت تعمل وفق منظومة تخضع لمفاهيم الهندسة الاجتماعية
- ما هي الهندسة الاجتماعية؟ تخصص في العلوم الاجتماعية يدرس الجهود المبذولة للتأثير على الموقف الشعبي والسلوك الاجتماعي على نطاق واسع، سواء من قبل الحكومة أومجموعات خاصة.
- إدارة عمل هذه الفرق أصبحت خاضعة لأجندة تحريرية محكمة بمعنى أنها تحدد بذكاء خطاباتها، ومشاريعها الاجتماعية وأولويات الخطاب
- لا تأخذ هذه الحسابات خط العداء الواضح ضد من تستهدفهم، بل تندمج في خطاباتهم، تحمل نفس صورهم الرمزية، وولاءاتهم الأساسية (دين – عقيدة – مذهب – قيادات – دول)
- تنحاز في المجمل للاتجاهات الثقافية العامة، ليست شيء شاذ ومنبوذ من الأساس، ولا تستخدم أساليب لفظية قبيحة، وإنما تمارس دورة حياة تفاعل يومية تقليدية
- تتوزع أدوار الذباب الجديد، بأن كل مجموعة لها قائد “مايسترو” متعلم ويفهم ما يفعل، ويراقب مؤشرات التفاعل ويوجه باستمرار حسب المعطيات
- حين تتحرك هذه الشبكة لا تبادر بالتغريد في القضايا، فأغلب تغريداتها اجتماعية، وإعادة نشر لمحتوى عام، ولكن يتركز تفاعليها في الردود والنقاشات في حسابات الآخرين
- حين تتحرك مجموعة من تلك الشبكات في قضية محددة، ينقسمون إلى فريقين “مؤيد / معارض” لتوزيع الآراء وفرزها، واتاحة الفرصة للجدل والانقسام
- تميل أغلب هذه الشبكات إلى اختراق الضحية، أو الطرف المهاجم، بآلاف الحسابات الموالية للضحية، تتكلم بنفس منطقه، وبنفس محدداته الرئيسية، ولكنها دوما تجنح للإرباك وقت احتداد النقاشات
- يتم اختيار قضايا محددة لاشعال النقاش وحرق الضحية، مثلا لو لديك دولة “ضحية” ستهاجم هذه الحسابات بعض مشاريع التنمية، مثلا، ولو كنت جماعة دينية، ستفتعل هذه الحسابات معارك دائمة مع خصومك بشكل وقح، ولو كنت مجتمع سيسعون لإبراز أسوأ الظواهر الاجتماعية بغرض تعميم الفحش أو إبراز الهوامش داخل المجتمعات على أنها رئيسية.
- هناك نشاط تجاري أصبح موجود خلف تلك الحسابات، ف بخلاف الحسابات التي تعمل تحت مظلة أجهزة استخبارات أو دول، هناك شبكات تجارية تعزز نجاح مسلسل، أو تناقش ظهور فنان، أو تحاول إسقاط منافس في انتخابات نادي أو مجلس ادارة شركة مثلا..
- لكن أخطر تلك الشبكات هي التي تعمل على أجندة ثقافية، ففي دول معينة، تحاول بعض الشبكات تصعيد أجندة أخلاقية معينة، وتضخيم حسابات بعينها، وظواهر اجتماعية، بهدف خلخلة البُنى الثقافية للمجتمعات والتيارات المستهدفة
- ترتبط بتلك الشبكات أنشطة تجارية وثيقة، بمعنى هناك حسابات بيع على انستغرام لمنتجات نادرة أو مميزة، وخلال عمليات البيع “اونلاين” يتم اختراق أجهزة، أو الوصول لمعلومات حساسة، تحت غطاء النشاط التجاري الذي يستهدف بإعلانته فئة اجتماعية أو وظيفية معينة.
- هذه الشبكات تعمل وفق أجندة سياسية دقيقة، بمعنى أنها لم تعد تحرق نفسها في مواجهات كبيرة وضخمة، بل مثلا في “الكويت” تعمل اللجان على تفتيت وإفشال “التجربة البرلمانية” تماما، عبر إشعال نقاشات مجتمعية على كل استجواب أو كل تصريح، وتسريب نقاشات من كل جهة، وهكذا
- في نقاشات المتدينين، والقضايا الاجتماعية، يأخذون فيها صيغة متطرفة لدى الطرفين، بحيث أن إشعال أي نقاش هو في النهاية يخدم تفكيك المستقر اجتماعيا.
- هناك مشاهير أو شخصيات كبيرة أو منصات ثقافية، يدعمونها بكثرة ويخضمون تفاعلاتها بهدف تعزيز اختراقها للنقاش العام في الدول
- هذا النشاط بالمناسبة تستخدمه “اسرائيل” بكثرة، بجانب الدول التي تحوم في فلكها، وأصبحت لهم مراكز عمل مشتركة في دول إقليمية وأوروبية
- هذا النشاط تم فضح أسلوب مشابه له تماما في تقارير اختراق الاستخبارات الروسية للنقاش العام الأمريكي في الانتخابات وكذلك في موجة أزمة الكونغرس وهناك أبحاث منشورة فيما يتعلق بهذا الأمر
- هنا تأتي الخاتمة.. أن صراعاتنا الثقافية الفترة القادمة لم تعد بريئة، وأن الذباب ستجده رفيقك في معركتك أحيانا ويدعمك بالأدلة الثقافية أو الشرعية، وكذلك سيعزز خطاباتك أحيانا ليخرجها عن نطاقها نحو نطاق احتراب ثقافي هو يريده.
- أن المعرفة المتعلقة بفهم وتحليل تلك الأنماط والشبكات أصبح مهم لكل جهة أو شخص مهتم بدخول المجال العام ويحمل فكر اجتماعي أو سياسي.