كيسنجر: هكذا ستنتهي حرب أوكرانيا.. والعالم يتجه نحو حرب باردة أشد خطورة
ما يزال وزير الخارجية الأمريكي الأسبق وعالم السياسة الشهير “هنري كيسنجر” مثيرا للجدل بتصريحاته، كما لم يفقد حدة التفكير والرؤية الجيوسياسية التي تميزه رغم بلوغه 99 عامًا، وهو ما تجلى في مقابلته مع صحيفة “صنداي تايمز” البريطانية؛ حيث تناول فيها تصوراته عن العلاقة بين أمريكا والصين، والتي يرى أنها تتجه نحو حرب باردة ثانية أخطر من تلك التي كانت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
كما تحدث “كيسنجر” عن تصوراته لكيفية إنهاء الحرب في أوكرانيا، وضرورة أخذ المصالح الروسية في الحسبان حتى لا تكتسب بكين نفوذا أكبر في موسكو، بالإضافة إلى اعتقاده بأن القضايا الحقيقية ستتمحور حول علاقات دول الشرق الأوسط وآسيا بأوروبا وأمريكا.
“كيسنجر” ما زال مثيرًا للجدل
تجلت قدرة “كيسنجر” على إغضاب كل من اليسار واليمين بعد الجدل الذي أثاره خطابه القصير في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في 23 مايو/أيار الماضي.
ونشرت صحيفة “تليجراف” البريطانية في مانشيت رئيسي: “هنري كيسنجر: على أوكرانيا أن تعطي لروسيا بعضا من أراضيها”؛ مما أغضب تيارات مختلفة داخل المعسكر الغربي.
وكان الشيء الأكثر غرابة في هذا الغضب هو أن “كيسنجر” لم يقل شيئًا من هذا القبيل، فقد أشار إلى ضرورة التفاوض على نوع من السلام في نهاية المطاف، مشيرا إلى أن هذا لن يتحقق إلا “بالعودة إلى وضع ما قبل الحرب”، بمعنى الوضع قبل 24 فبراير/شباط، عندما كان الانفصاليون المؤيدون لموسكو يسيطرون على أجزاء من دونيتسك ولوهانسك وكانت شبه جزيرة القرم جزءًا من روسيا.
وهذا ما قاله “زيلنسكي” نفسه في أكثر من مناسبة، بالرغم أن بعض المعلقين الأوكرانيين جادلوا بضرورة العودة إلى ما قبل حدود 2014، أي قبل الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم.
ولطالما تعرضت تصريحات “كيسنجر” لتفسيرات خاطئة. فعندما كان نائب الرئيس الأمريكي آنذاك “جو بايدن” يحاول إقناع “باراك أوباما” بالانسحاب من أفغانستان، قال له الدبلوماسي المخضرم وممثل “أوباما” الخاص في أفغانستان وباكستان “ريتشارد هولبروك”: “اعتقد أن لدينا التزامًا معينًا تجاه الذين وثقوا بنا”، فرد “بايدن”: “لا داعي للقلق بشأن ذلك. فعلنا ذلك في فيتنام. وساعدنا في ذلك نيكسون و كيسنجر بهذا الأمر”.
لكن الحقيقة أن “نيكسون” و”كيسنجر” رفضا التخلي عن فيتنام الجنوبية، ودعما نهجا مشابها للنهج الأمريكي في أوكرانيا اليوم: التزويد بالأسلحة حتى تتمكن البلاد من القتال لدعم استقلالها، بدلاً من الاعتماد على القوات الأمريكية على الأرض.
الدفاع عن “نيكسون”
وفي هذا السياق، دافع “كيسنجر” عن “نيكسون”، قائلًا رنه أراد إنهاء حرب فيتنام بشروط مشرفة، وأراد إعطاء حلف الناتو توجهًا استراتيجيًا جديدًا، بالإضافة إلى تجنب صراع نووي مع الاتحاد السوفيتي عبر سياسة السيطرة على الأسلحة.
وأضاف أن “نيكسون” أراد التطرق أيضًا للغز الصين، وأعلن أنه يريد الانفتاح على الصين منذ يومه الأول، مع إدراكه الفرصة الاستراتيجية الكامنة في الصراع بين خصمين للولايات المتحدة (الصين والاتحاد السوفيتي).
وبحلول نهاية رئاسة “نيكسون” تحقق هدفه في فيتنام، وتمت إعادة صياغة سياسة الشرق الأوسط؛ حيث جرى طرد الاتحاد السوفيتي من المنطقة، وتم ترسيخ دور أمريكا كوسيط للسلام بين العرب وإسرائيل.
كما انفتحت الولايات المتحدة على الصين وتفاوضت مع روسيا على الحد من الأسلحة الاستراتيجية. لكن لسوء الحظ في رأي “كيسنجر”، تفتت الدعم الداخلي لإدارة “نيكسون”، بدلا من استغلال هذه الفرص.
وفي رأي “كيسنجر” فإن “نيكسون” استراتيجي عظيم مرّ بمأساة، وأدى تدمير رئاسته إلى تدمير جنوب فيتنام أيضًا، حتى إن “كيسنجر” يرى أن الهزيمة في فيتنام هي التي وضعت الولايات المتحدة على منحدر الاستقطاب السياسي، مضيفًا أن الولايات المتحدة اليوم أكثر انقسامًا عما كانت عليه وقت فيتنام.
التنبؤ بحرب أوكرانيا
تطرق “كيسنجر” للرئيس الأوكراني قائلا إنه أدى “مهمة تاريخية” بلا شك، وأضاف: “إنه يأتي من خلفية لم تظهر أبدا في القيادة الأوكرانية في أي فترة في التاريخ”، في إشارة إلى كون “زيلنسكي” يهوديا مثله.
وأردف: “لقد كان رئيسا مفاجئا بسبب إحباط الأوكرانيين من الطبقة السياسية”. وأضاف: “نجح زيلينسكي في حشد بلاده والرأي العام العالمي خلف أوكرانيا بطريقة تاريخية”.
وتناول “كيسنجر” بعدها الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، الذي التقاه في مناسبات عديدة، قائلا إن مشكلته هي “إنه رئيس لدولة متراجعة” مضيفا: “فقد بوتين إحساسه السياسي في هذه الأزمة. لا يوجد عذر لما فعله هذا العام”.
وتنبأ “كيسنجر” في مقال كتبه في 2014 بحدوث الحرب الروسية الأوكرانية، وكان ذلك وقت الضم الروسي لشبه جزيرة القرم، ورفض وقتها فكرة انضمام أوكرانيا إلى الناتو، واقترح بدلا من ذلك وضعا محايدا مثل وضع فنلندا، وحذر من أن مواصلة الحديث عن عضوية أوكرانيا في الناتو تخاطر بإشعال حرب.
مواجهة نفوذ الصين
وتعليقا على طلب فنلندا والسويد الانضمام إلى الناتو، قال “كيسنجر”: “كان الناتو التحالف الصحيح لمواجهة روسيا العدوانية عندما كانت التهديد الرئيسي للسلام العالمي”، لكن الوضع حاليا ليس كذلك، بالرغم من التهديدات التي لاحت أمام قادة العالم الغربي، والتي دفعتهم لحالة توحد فريدة.
ويرى “كيسنجر” أن إنهاء الحرب يقتضي “إيجاد مكان لأوكرانيا ومكان لروسيا إذا كنا لا نريد أن تصبح روسيا موقعا أماميا للصين في أوروبا”.
ويرى “كيسنجر” أننا بصدد حرب باردة ثانية، لكن الصين هي التي تلعب الآن دور الاتحاد السوفيتي أمام الولايات المتحدة، وستكون أخطر من الحرب الباردة الأولى؛ لأن كلا القوتين العظميين لديهما الآن موارد اقتصادية مماثلة (لم تكن موجودة أبدا في الحرب الباردة الأولى) مع تقنيات دمار أكثر رعبا، خاصة مع ظهور الذكاء الاصطناعي.
وليس لدى “كيسنجر” شك في أن الصين وأمريكا خصوم الآن، مضيفا أن “انتظار الصين لكي تصبح غربية” لم تعد استراتيجية معقولة.
وأردف: “لا أعتقد أن الهيمنة العالمية مفهوم صيني، لكن بكين تسعى لأن تكون قوية للغاية. وهذا ليس في مصلحتنا”.
لكنه يستدرك قائلا إن القوى العظمى “لديها الحد الأدنى من الالتزام المشترك بمنع حدوث تصادم كارثي”.
أما ما يقلق “كيسنجر” بشدة بشأن المستقبل، فهو سعي الدول الأخرى لاستغلال هذا التنافس دون فهم جوانبه، وذلك للحصول على مساعدة اقتصادية وعسكرية من قوة عظمى أو أخرى.
وأضاف: “لذلك نحن نتجه إلى فترة صعبة للغاية”.
المصدر | نيال فورجسون/ صنداي تايمز