أخبار محلية

كلمة الإمام الخامنئي في لقاء مع المبلغين وطلاب الحوزات العلمية

بسم الله الرحمن الرحيم،[1]

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا، أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيما بقية الله في الأرضين.

إنه أمر حلو وممتع للغاية بالنسبة إليّ أن أكون بين هذا الجمع المحترم والمعزز من الطلاب والفاضلين الأعزّاء. لطالما كانت إحدى أمنياتنا أن نتنفّس ونعيش في جمع الحوزة وطلاب الحوزات ومجموعة المسؤولين عن الدين المخلصين في الحوزات العلميّة. كنت ذات مرة في حضرة الإمام [الخميني] عندما كان يكلفني رئاسة الجمهورية للدورة الثانية، وقلت: سيدنا، بعد الدورة الأولى هذه أريد أن أذهب إلى قم وأبقى هناك. قال سماحته: وأنا أيضاً أتمنى أن أذهب إلى قم، لكن لا يمكن ذلك. هذه أمنيتنا: أن نكون بينكم وأن نكون ونعمل معكم. أيها الإخوة والأخوات الطلاب الأعزاء، أنتم ضمن أفضل الفئات الموثوقة التي يمكن للمرء أن يعمل ويسعى معها مرتاح البال.

طبعاً، المواضيع التي تحدث عنها الشيخ أعرافي كانت جيدة للغاية. قبل المجيء إلى هنا، وداخل هذا الممر، كانوا قد نظّموا ما يشبه المعرض وذكروا فيه بعض الأنشطة والأعمال، كانت أموراً سارة جداً لي. ما قيل هنا تحت عنوان «مهمات الحوزات العلمية» وجرى تصويره في ذاك المعرض هو موضع تأييد مئة بالمئة من هذا [العبد] الذليل.

يمكن الحديث كثيراً عن الحوزة والحوزويين، ويمكن التحدّث عن أبعاد مختلفة. تلك النقطة التي اخترتها لأتحدث عنها اليوم هي قضية التبليغ. إثر المعلومات التي تصلني من جهات مختلفة، أشعر بالقلق حيال التبليغ حقاً! نعم، هذه الأنشطة كلها التي جرى ذكرها وشرحها وقُدّمت تقارير عنها واقعية وصحيحة، ونعلمها، ورغم ذلك، فإن حاجتنا أكثر من هذا الحدّ! إنّ فرص التبليغ في هذا البلد هائلة ومتراكمة وشاسعة لدرجة أنه حتى لو عملنا أضعاف المقدار الذي نعمله، فلا أعتقد أن هذه الفُرص ستُلبّى. إننا بحاجة إلى كل من التبليغ والوعظ والبحث أيضاً. إذا لم يكن تبليغنا مبنياً على البحث، فسيكون بلا مفعول وأبتر، وسوف أذكر موضوعاً في ختام حديثي. لذا، أعددت اليوم بعض المواضيع حول التبليغ وسوف أحدّثكم عنها، أيها الأعزاء.

وفقاً للنظرة السائدة اليوم في الحوزات العلمية فإنّ التبليغ يقع في المرتبة الثانية، بينما المرتبة الأولى هي لأمور أخرى، من قبيل المقامات العلمية ونحوها. التبليغ في المرتبة الثانية، لذا علينا أن نتخطى هذه النظرة، فالتبليغ في المرتبة الأولى. هذا ما أروم قوله. لماذا نقول هذا؟ فما الذي نراه هدفاً للدين؟ ماذا جاء دين الله ليفعل لنا نحن البشرَ؟ حسناً، لدينا هدف نهائي هو أن يجعلنا نرتقي ونسمو في مسار خليفة الله ومسار الإنسان الكامل – وفقاً للقابليّات التي نملكها طبعاً – وهذا هو الهدف النهائي للدين. ثمة أهداف متوسطة وأوليّة أيضاً؛ مثلاً إقامة القسط: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد، 25)، أو إرساء النظام الإسلامي: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (النساء، 64). مركز الطاعة هو الدين. وهذا يعني إرساء النظام الإسلامي. إنه ضمن أهداف الدين، وهو هدف متوسط. أو افترضوا إقامة المعروف، وإشاعة المعروف، وإزالة المنكر، وترويج الكَلِم الطيب والعمل الصالح: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (فاطر، 10). إذن، هذه هي أهداف الدين. عندما تنظرون إلى أيّ واحدة منها، تجدون أن وسيلة تحقيقها هي التبليغ، ولا يمكن ذلك دون التبليغ. نعم، تارة وعلى نحو استثنائي يدخل نورٌ في قلب شخص ما بإشارة إلهية، فهذا نقاش آخر وأمر استثنائي، لكن دين الله بهذه الأهداف وأمثال هذه الأهداف للناس، لن يتحقق إلّا بالتبليغ. إذن، التبليغ صار في المرتبة والدرجة الأولى. لذلك تلاحظون في القرآن [A1] تأكيد مسألة التبليغ.

لقد رجعت إلى فهارس [المصطلحات] القرآنية من أجل حديثي هذا. وردت كلمة «بلاغ» أو «بلاغ مبين» في القرآن نحو اثنتي عشرة مرة أو ثلاث عشرة. «بلاغ مبين» هو ذلك الإفهام الذي لا يترك مجالاً للشبهة: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (يس، 17)؛ ينبغي ألّا يترك مجالاً للشبهة. البلاغ [يعني] الإفهام، إفهام الأسماع والقلوب الرسالة ، وقد تكرّر في القرآن مراراً. تكرر في اثني عشر موضعاً أو ثلاثة عشر. لقد تكرر نقلاً عن لسان الأنبياء: {مَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}. لقد تكرر في خطاب الله المتعالي إلى النبي (ص): {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} (آل عمران، 20). [يوجد] من عنصر البلاغ نفسه: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} (الأحزاب، 39) – الآية التي تلاها [القارئ المحترم] – وآيات كثيرة أخرى أيضاً في هذا الصدد: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي} (الأعراف، 62)، {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} (المائدة، 67).

في القرآن أيضاً تعابير موازية ومرادفة لـ«بلاغ» إلى ما شاء الله. كم تكرر تبليغ «الدعوة» في القرآن! {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل، 125)، {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (الأنفال، 24)، وكذلك كثير من الآيات الأخرى مع تعبير يحمل عنوان «الدعوة». آيات متعددة وكثيرة تحمل عنوان «الإنذار والتبشير». طبعاً، هي كلها دعوة وتبليغ. إذا نظرتم إلى النطاق العريض لـالقرآن الكريم، فسترون أن التركيز على التبليغ. أساساً، يرى القرآن الكريم أن الأنبياء هم المسؤولون عن التبليغ. وماذا عن ورثة الأنبياء؟ «إن العلماء ورثة الأنبياء»[2]. وأنتم الذين تعدّون ورثة الأنبياء أسّ مهمتكم وأساسها هو التبليغ. يجب أن تبلّغوا. يجب أن توصلوا رسالة الدين والله إلى القلوب والأسماع. قلوب وأسماع من؟ البشر جميعاً. طبعاً هناك أولويات أيضاً. بطبيعة الحال، يكون لمجتمعكم أولوية كبرى، وبعض الأماكن لها الأولوية، وبعض الأماكن لها أولوية أقل، ولكن يجب أن تصل إلى الجميع. إننا ننظر إلى أهمية التبليغ على هذا النحو.

لهذا، ترون أن سنة التبليغ موجودة في الحوزات العلمية منذ البداية، أي منذ ألف عام. بالطبع، لم تتح لي الفرصة للتحقق والمراجعة بمقدار أكثر – لم أجد وقتاً للمراجعة – وهذا هو المقدار الذي كان في ذهني الآن. لنفترض مثلاً زمن الشيخ الصدوق، فهذه الكتب المتعددة للشيخ الصدوق (رض) كلها تبليغ: الأمالي تبليغ، والخصال تبليغ، وعيون أخبار الرضا تبليغ؛ كلها تبليغ. وهي ليست تبليغاً للمذهب فقط؛ إنها تبليغ الأخلاق، وتبليغ الدين، وتبليغ التوحيد… هذه الأمور نفسها التي يتعين علينا فعلها. إن عدداً من رسائل الشيخ المفيد (رض) في الجواب عن أسئلة مختلف البلدان – نُشرت قبل بضع سنوات في مؤتمر الشيخ المفيد[3] – هو تبليغ. الشيخ الطوسي – إضافة إلى ذاك الفقه العميق العريق الرائع – لديه الأمالي أيضاً، فأمالي الشيخ [الطوسي] تبليغ، وأمالي الشريف المرتضى تبليغ. لقد قلت: لم يسنح لي المجال الآن لأراجع وأرى – أنتم لديكم وقت وجَلَد أكثر – كيف كان التبليغ في الحوزات العلمية في القرون اللاحقة [لهم]. لكن على سبيل المثال، وفي القرون الأخيرة، المجلسي (رض) – المجلسي إنسان عظيم، وينبغي ألّا يُستهان بالمجلسي، فهو إنسان عظيم جداً – بالإضافة إلى كتاب البحار وعدد من الكتب لديه حول مسألة الحديث، وتبيين الحديث، وشرح الحديث، ونحو ذلك، ما الغرض مثلاً من كتابي حق اليقين وحياة القلوب، وهما من الكتب الفارسية؟ التبليغ طبعاً. المرحوم النراقي [أيضاً] له كتاب فارسي، وبعد ذلك كانت هناك كتب أيضاً وبعضها حاضر في بالي الآن. مثلاً تفسير منهج الصادقين[4] وأمثاله بالفارسية. بالفارسية لِمَن؟ الفارسية ليست للعلماء والفضلاء وما إلى ذلك؛ إنها تبليغ لآحاد الناس. هذا يعني أن العلماء كانوا يولون أهمية لسنّة التبليغ. طبعاً، لم يسنح لي المجال [لأرى] ممن جاء المنبر والشكل التبليغي للمنبر؛ كنت أود أن أراجع لو كان في إمكاني، ولكن على سبيل المثال هذا الملا حسين كاشفي السبزواري في القرنين التاسع والعاشر، أو مثلاً واعظ القزويني في القرن العاشر – هو شاعر عظيم أيضاً – وما يحضر في بالي أن هؤلاء كانوا من أهل المنبر ويذهبون ويتحدثون، وكانت سنّة المنبر هذه منذ تلك الأزمنة. الملا حسين كاشفي هو صاحب روضة الشهداء والعزاء الذين نقرؤه في الحقيقة مأخوذ من كتاب ذلك الجليل. وكذلك لاحقاً علماء عظماء مثل الشيخ جعفر الشوشتري [كانوا من أهل المنبر]. الشيخ جعفر الشوشتري معروفٌ بالوعظ. إنه مُلّا وفقيه عظيم وبالطّبع كان من أهل المنبر. طبعاً، لا ينبغي الخلط بينه وبين الشيخ جعفر كاشف الغطاء. أو المرحوم الشيخ (محمد) رضا الهمداني الواعظ والمُلّا العظيم – مرة أخرى لا ينبغي الخلط بينه وبين الشيخ آقا رضا الهمداني صاحب مصباح الفقيه فهو شخص آخر – وصاحب هدية النملة إلى رئيس الملة كان واعظاً. في زماننا، كان المرحوم آميرزا ​​أبو الحسن القزويني، الفيلسوف الذي درسَ الإمامُ [الخميني] في شبابه مقداراً من الفلسفة عنده، مُلّاً عظيماً. لقد رأيت سماحته بنفسي. كان يصلي في صحن بمسجد طهران هذا، وكان يرتقي المنبر والناس يجلسون ويستمعون لمنبره. قبل سماحته، كان المرحوم الشاه آبادي[5]، أستاذ الإمام – ونحن لم ندركه على أيّ حال – يرتقي المنبر في ذاك المسجد نفسه. هؤلاء لم يكونوا يرون ارتقاء المنبر منقصة للشأن. في مدينة مشهد نفسها، كان المرحوم الحاج الميرزا ​​حسين السبزواري، والمرحوم السيد حسن القمي[6]، يرتقيان المنبر، أيْ كانت سنّة التبليغ، سواء أكانت على شكل كتابة، أم ارتقاء للمنبر، أم نظم للشعر، موجودة في الحوزات العلمية، وهذا يدلّ على أهميتها.

حسناً، ذكرنا أن التبليغ أولوية الحوزات العلمية. لقد كان الأمر كذلك في العصور كافّة ولكن هذه الأهميّة مضاعفة خاصّة في عصرنا، لأن حدثاً وقع في عصرنا لم يحدث منذ أكثر من ألف عام منذ صدر الإسلام، وهو حاكميّة الإسلام. إن تأسيس النظام السياسي لإدارة البلاد بمحتوى إسلامي ليس له سابقة. عندما يحدث مثل هذا الأمر يزداد العداء للإسلام بطبيعة الحال وأنتم تعلمون ذلك وتشاهدونه وترونه. لقد ازدادت هذه العداوات كثيراً لدرجة أننا اعتدناها جميعاً، ولم نعد نلاحظ أنواع العداء من العدوّ وأشكالها إلى حدّ كبير. إذاً، للتبليغ أهميّة مضاعفة في عصرنا [أولاً] لأنّ الناس هم الركيزة الأساسية في النظام الإسلامي وقوامه، أي إيمان الناس، وإذا لم يمتلك الناس الإيمان، فلن يكون هناك نظام. قال: «حفظ النظام من أوجب الواجبات»[7]. أحياناً يرى الإنسان أنّه أوجب الواجبات، ولذلك يغدو حفظ إيمان الناس واجباً، فتتضاعف أهميّة التبليغ من هذه الناحية. ثانياً لأنّ المرحلة مرحلة التطور العلمي. توجد اليوم شتّى الطرق لنشر الرسائل [الإعلامية] التي لم يجرِ حتى التفكير فيها في الماضي، بدءاً من التلفزيون والأقمار الاصطناعية وليس انتهاءً بالإنترنت و«ما بعد الإنترنت». هذه الأشياء الجديدة التي ظهرت، الذكاء الاصطناعي وأمثال ذلك، كما أنّ هناك أشياء أخرى في الطريق أيضاً.

إذن، في مثل هذه الظروف، ومع وجود مثل هذه الحال، حيث سيوف العدوّ المستلّة والحادّة والسافكة للدماء حاضرة، ما الذي علينا فعله؟ يكتسب التبليغ هنا أهميّة مضاعفة. واليوم شهدت المعدّات المخالفة والمعارضة والمعاندة تطوّراً وأشرتُ إليه، وكذلك في ما يرتبط بالبرمجيّات، إذْ روّجوا أساليب جعل الرسالة [الإعلامية] مُقنعة – الأمور التي لم يكن يتقنها أحدٌ في السابق – بمساندة علميّة من علم النفس وأمثال هذه الأمور. هذه هي الأدوات البرمجيّة وهي مهمّة جدّاً. إنهم يتحدثون ويُنتجون الأفلام ويُصنّعون المشهد ويجعلون العنوان في الصحيفة على نحو لا يشكّ في صحّته كلّ من يراه لكنه خطأ مئة بالمئة. نحن على مواجهة مع هؤلاء اليوم. وإذا غفلنا عن هذه الأمور، وإذا غفلت الحوزة العلميّة عن أهميّة التبليغ وحساسيّته وكون مسؤوليّة التبليغ اليوم مُضاعفة، فإنّنا سنُصاب بعارضٍ لا يُمكن تعويضه بسهولة، ولا أقول إنّه محال. [إنها] الاستحالة الثقافيّة. ستُصيبنا الاستحالة الثقافيّة، وهذه الاستحالة لو وقعت – لا سمح الله – فلن يكون إصلاحها وتعويضها أمراً بسيطاً. كان الإمام [الخميني] يقول مراراً في مواضع عدة إنه لو حدث مثل هذا الأمر، فسوف يتلقّى الإسلام صفعة سيبقى أثرها سنين طويلة.[8] الأمر كذلك. سيحدث هذا لو غفلنا. وإذا غفلنا، فسيُسلب القُبحُ من الذنوب والذنوب الكبيرة والكبائر وستغدو عاديّة. تلاحظون أن هذا قد حدث في الغرب. في الغرب، يتقدّمون خطوة بخطوة في هذا الإطار. لا يرغب المرء في تكرار تعابير هؤلاء الرائجة، أي حقّاً إنّ شأنَ تحدّثِ الإنسان ولسانه أرقى من أن يكرّر هذه [التعابير] لكنّها موجودة على أيّ حال. إذا استخففنا بالتبليغ، فإنّ هذه الأمور ستطاول مجتمعنا.

حسناً، كانت هذه مواضيع عرضتها، وهذه الأفكار التي جرى عرضها هي من المسلّمات ولا مجال للشكّ فيها. لكن ولكي نجعل النقاش الآن عمليّاً على نحو أكبر بعض الشيء، فإنّني دوّنت بعض النقاط لكي أتحدّث عنها.

النقطة الأولى في التبليغ هي معرفة المخاطب. لا بدّ أن نعرف من نخاطب إذا أردنا أن نبلّغ على نحو صحيح. وأقول من باب المثال إنّه لا يمكن اليوم مقارنة مستوى الوعي العام لدى الشباب وغيرهم بالماضي، ولا يمكن فعل ذلك حقّاً. لقد انقضى تقريباً كلّ عمري التبليغي – ستين سنة أو أكثر – مع الشباب، وقد كانت لي منذ الشباب جلسات في مشهد كان يحضرها الشباب، وكان الجامعيّون والطلاب الجامعيّون وتلامذة الثانويّة [يأتون]. آنذاك أيضاً كانت أفكار الشباب جيّدة، وكان الشباب أصحاب فكر حسن، لكن لا يمكن مقارنته باليوم، فقد ارتقى مستوى الفكر. إذا لم يراعِ التبليغ هذه الأمور، فسوف يبطل أثره، فلنعلم في أيّ مستوى فكري يقع الطرف المقابل لنا حتى نجهّز المحتوى والمادّة والشكل والهيئة بما يتناسب مع احتياجه، فلا فائدة دون فعل هذا الأمر. إضافة إلى ارتقاء المستوى الفكري لدى الشاب واليافع والمخاطب لدينا هناك آفة أيضاً هي أنه وسط هذا السوق المضطرب للأصوات كافة في الفضاء المجازي والترويج الإعلامي ثمة صوتٌ واحدٌ في العزلة هو نقل المعارف الأسريّة والتي بين الأجيال. كان الآباء والأمّهات يعلّمون أبناءهم كثيراً من الأشياء، وقد يتسنّى القول إنّ كثيرين من أناسنا هؤلاء – لعلّه يمكن القول غالبيّتهم – انتقلت المعلومات والمعارف الدينيّة إليهم على لسان آبائهم وأمّهاتهم وبسلوكاتهم، وهذا الصّوت قد ضَعُفَ اليوم. لقد ضعُفَ هذا الصّوت وسط بلبلة الترويج الإعلامي هذه. وهذه نقطة، فمخاطبنا أيضاً هو مخاطبٌ لكثير من هذا الكلام، كما أنّ أشكال المواضيع وأنواعها ترتد إلى ذهنه، فيواجه مشكلة من هذه الناحية.

كنّا في السابق ننصح الشباب ونحذّرهم من رفيق السوء وصاحب السوء، وقد بات صاحب السوء الآن داخل جيبه، والصفحة السيئة المصاحبة باتت أمام عينه وفيها كلّ شيء. اعرفوا هذا المخاطب. وإذا لم تكن موادنا التبليغيّة وأسلوب تبليغنا متناسبين مع [معرفة] حالة المخاطب، فإنّنا سنفشل. هذا في ما يرتبط بالنقطة الأولى. فمن المحتمل أن تكون هذه الآية الشريفة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} (إبراهيم، 4) من المصاديق أو المعاني لهذا. وإنّ ضرورة أن يكون الرسول متحدّثاً باللغة التركيّة لو بُعث لأناسٍ يتحدّثون التركيّة مثلاً أمرٌ بديهي، ولا معنى ألّا يكون الأمر كذلك، إذ أحتمل أن {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} تعني أن يتحدّث ويُبيّن انطلاقاً من التركيبة الفكريّة والذهنيّة نفسها لقومه. حسناً، هذا في ما يرتبط بالنقطة الأولى. إذاً، النقطة الأولى هي معرفة المخاطب.

النقطة الثانية أنّ التبليغ ليس مجرّد الردّ على شبهة واتخاذ وضعيّة دفاعيّة. ليس الأمر كما لو أننا نفكر أن نجلس ونبحث عن الشبهة فنمنع رواجها أو نردّ عليها. طبعاً، هذا العمل واجب لكنّ الأمر لا يتوقّف عند هذا الحد. لدى الطرف المقابل أسس فكريّة لا بدّ من مهاجمتها. لدى الطرف المقابل كلامٌ، وأسس هذا المنطق أسس مخطئة، فعلينا أن نعرف هذه الأمور. من الضروري اتخاذ وضعيّة الهجوم في التبليغ. وإذا تقرّر أن تتحقّق هذه الوضعيّة الهجوميّة بالمعنى الحقيقيّ للكلمة فإنّ لازمة ذلك معرفةُ المشهد، أي يجب أن تعلموا مَن الطرف المقابل عندما تواجهون كماً هائلاً من الشبهات في أذهان الشباب. مَن نواجه؟ افترضوا أن كاتب الافتتاحية أو كاتب عمود في صحيفة ما أو المغرّد الفلاني في الشبكة الفلانيّة مثلاً أثارَ شيئاً ما، فنحن على مواجهة مع مَن؟ مَن هو؟ هل هو نفسه من يفعل ذلك؟ هناك احتمال قوي أن الأمر ليس كذلك، هناك احتمالٌ قويّ ألا يكون الأمر على هذا النحو، وهناك احتمال قوي أن يكون هناك شيء ما في الكواليس. من الجالس في الكواليس؟ لا بدّ من معرفته.

لاحظوا! يوماً ما في هذه البلاد – أنتم في تلك الأيام {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} (الإنسان، 1)[9] – والكلام يدور حول ما قبل خمسين عاماً أو ستين، حين كان عناصر حزب «توده» ينشطون ويمارسون النشاط التبليغي وغيره من الأمور، كان ظاهر الأمر أنّ هذا شابٌ من «توده»، وقد وصل إليّ – أنا عالمَ الدين الشاب أو غير الشاب – ويرغب على سبيل المثال في فرض منطقه على ذهني. كان هذا ظاهر الأمر لكنّ باطنه لم يكن كذلك. باطن الأمر أنّ «توده» كان مرتكزاً في الأساس إلى جهاز فكري وسياسي واسع يُسمّى «الاتحاد السوفياتي». كان عناصر «توده» يستفيدون من ذاك المكان ويتغذّون ويرتزقون منه على المستويين المادي والفكري، فأنتم تواجهون المصدر الماركسي. لذلك، لم يلجأ علماؤنا الفطنون في ذلك اليوم، كالمرحوم العلّامة الطباطبائي، إلى أن يردّوا على هؤلاء، بل ردّوا على الماركسيّة، فهذا «المنهج الواقعي»[10] ردٌّ على الأسس الفكريّة الماركسيّة، أيْ أنْ يعثروا على الأساس الفكري للنقطة المقابلة ويجعلوها هدفاً. كثيرٌ من أعمال المرحوم الشهيد مطهّري هي من هذا القبيل. [علينا] أنْ نعرف المشهد ومَن يواجهنا.

طبعاً حين ننظر اليوم لا نجد أثراً للماركسيّة، لكن تواجهنا ساحة أخرى وخصم آخر. فهذا الصراع قائمٌ اليوم، ويدور بين جبهتين، وإذا عرفنا كلتا الجبهتين على نحو صحيح، فسنحدد بعدها هل تلك الظاهرة التي تواجهنا هي مستقلّة أو تابعة للجبهة المقابلة. من هما هاتان الجبهتان؟ إحداهما جبهة «النظام الإسلامي» – سأتحدّث عنها بعد قول كلمة مختصرة – والأخرى هي الجبهة الكاذبة التي تطلق على نفسها اسم الديمقراطية الليبرالية، في حين أنها ليست ليبرالية ولا ديمقراطية. هي تدّعي كذباً أنها ديمقراطيّة ليبراليّة. لماذا استعمرتم لو كنتم ليبراليّين؟ الاستعمار التقليديّ القديم والاستعمار الحديث والاستعمار ما بعد الحديث! أيّ ليبراليّين ومطالبين بالحريّة وذوي أفكار حرّة أنتم إذ تستعمرون شعباً بالملايين في الهند على مدى سنوات طويلة ولأكثر من مئة عام وتُبقونه خاضعاً لسيطرتكم وتنهبون مقدّراته كافّة وتحوّلونه إلى شعب فقير؟ هذا كلام نهرو. يكتب نهرو – هو من المناضلين في الهند وصار في ما بعد رئيس وزرائها – ويشرح ما كانت عليه الهند قبل مجيء البريطانيّين ودخولهم، وما صارت عليه بعد قدومهم. هل أنتم ليبراليّون؟ هل هذه الليبراليّة؟

أو الفرنسيّون الذين ارتكبوا الجرائم في الجزائر أكثر من مئة عام وقتلوا الناس! طبعاً، ذكروا عدد الأشخاص ودوّنوه [لكن] لست أذكره الآن. هؤلاء قتلوا في غضون بضع سنوات الآلاف – ربّما عشرات الآلاف – في الجزائر، وخاصّة في تونس وكذلك في مناطق أخرى من شمالي أفريقيا. هم ليسوا ديمقراطيّين أيضاً؛ إنّهم يكذبون. هم ليسوا ديمقراطيّين لأنّهم يفرضون حكومات على بعض الأماكن. وهم ليسوا مناصرين للديمقراطيّة كذلك الأمر. إنهم يعارضون مئة بالمئة تلك الديمقراطيّة التي لا تُسخّر لخدمتهم. هذه جبهة. لاحظوا! لا يقولنّ أحدٌ إنّ هذه الأمور مضت. نعم، مرّت مئة عام على قضيّة الهند، ومرّت ستّون سنة أو سبعون على قضيّة الجزائر، لكن ماهيّة ذاك الذي ارتكب تلك الممارسات في الهند والجزائر اليوم هي ماهيّته نفسها في ذلك اليوم. هؤلاء مستعدّون اليوم أيضاً لوضع شعب مثل شعب أوكرانيا البائس المسكين في المقدمة من أجل ملء الجيوب لشركات تصنيع الأسلحة الأمريكية؛ هذه الحال وهذا هو جوهر الأمر في أوكرانيا: شعبها يُقاتِل ويُقتل من أجل أن تُباع الأسلحة وتمتلئ جيوب شركات السلاح! لكي يُجبر الأوروبيّين على شراء الأسلحة وتصنيعها وتقديمها وتمتلئ جيوب شركات السلاح. هؤلاء هم أنفسهم. إنهم مستعدّون لسرقة نفط سوريا وهم يسرقونه. تصوّر الإنسان بشأن السارق أنّه إنسانٌ صغيرٌ وحقير ودنيء على سبيل المثال. إنّ حكومةً كأمريكا تنهب نفط سوريا بكلّ سهولة وعلى مرأى من الجميع. هؤلاء هم أولئك الأشخاص أنفسهم ولم يختلفوا. حسناً، هذه جبهة.

مقابلها أيضاً يوجد نظامٌ يعارض الاستكبار والاستعمار والتدخّل في مصالح مختلف الشعوب مع الارتكاز إلى الإسلام والاستلهام منه. هذه المعارضة قائمة. حسناً، هاتان الجبهتان تقفان في وجه بعضهما بعضاً. تلاحظون أحياناً أنّ دعايات تنتشر ضدّ النظام الإسلامي وتشكّك في أُسس هذا النظام. من يقف خلف هذه [الدعايات]؟ طبعاً حين نبحث ونتابع – نحن نملك الأداة اللازمة لمتابعتها، بحمد الله – ندرك أين يقع المنشأ، لكن ذاك الذي لا يملك هذه الأداة أيضاً لا بدّ أن يدرك الأمر حين ينظر. الطرف [المقابل] ليس كاتب المقالات الفلاني المعادي للثورة الإسلاميّة اللاجئ إلى الخارج أو الموجود في الداخل أحياناً على سبيل المثال – هم قلّة طبعاً – إنما هو جهازٌ حكومي. الصراع صراعٌ حضاريٌّ وعالمي. هذه هي ماهيّة الصراع. طبعاً، ليست هذه القضيّة بأكملها، فهم يُقْدمون على جُملة من الخطوات الأخرى في خضمّ هذا الصراع الدولي كي يقلّصوا أضراره إذ يوجد أشخاصٌ مكلّفون أعمالاً دبلوماسيّة وأمثال هذه الأمور. لا ضير في هذا أيضاً شرط الحفاظ على المبادئ. لا بدّ أن يتمّ ذلك، لكن فلنعرف من نواجه ومن الطرف المقابل، إذا لا يؤدّى التبليغ بالأسلوب السليم دون هذا الأمر.

طبعاً إنّ الغرب – لحُسن الحظّ – أكثر هشاشة من أيّ زمن مضى. لقد «شرّف» الإمام [الخميني] – رضوان الله تعالى عليه – أمريكا بلقب «الشيطان الأكبر»[11]؛ هذه حقيقة الأمر أيضاً. هناك مجموعة من الصفات الشيطانيّة والشرور لدى الأمريكيّين يُمكن أن تُشنّ عليها هجمات إعلاميّة. هذا أحد النماذج على مطالبتي بتجنب البقاء في وضعيّة الدفاع. تبرز الشرور والصفات الشيطانيّة للأمريكيّين اليوم في السياسة والتعاطي مع الشعوب وعند التعاطي مع شعبهم، وفي العنصريّة، وفي الشرخ الطبقي، وفي الأخلاق الجنسيّة، وفي انعدام الرحمة. هذه كلّها نقاط ضعف. أينما خاضوا، يتصرّفون بلا رحمة. قبل 21 سنة أو 22 حين دخل الأمريكيّون العراق وكان المرء يرى أحياناً عبر التلفاز بعض المشاهد، عاملوا الناس على نحو يرتعد قلب الإنسان حين يتصوّره. هكذا عاملوا الشعب العراقي. لم يكن صدّام هو القضية، فقد عاملوهم بلا رحمة. إذاً، كانت النقطة الأولى معرفة المخاطب، والثانية ألّا نبقى عالقين في وضعيّة الدفاع ومحصورين فيها. طبعاً الدفاع ضروريّ وواجب، لكن فليكن الموقف هجوميّاً. هذه الأمور كلّها يُمكن أن تكون عُرضة لهجماتكم الإعلاميّة. طبعاً شرط ذلك أن تعرفوا التيارات العالميّة وأوضاع السياسات العالميّة والاصطفافات، ثمّ تبادروا إلى الفضح. فلتنظروا بأسلوب صحيح ولترووا كذلك. هذا في ما يرتبط بالنقطة الثانية.

الإخوة الأعزاء، الأخوات العزيزات، النقطة الثالثة أن الروحية الجهادية ضرورية في التبليغ. إذا كانت الروحية الجهادية حاضرة في الأعمال كافة، فإن العمل يتقدم على نحوٍ مضاعف، لكن هنا لا يمتلك التبليغ دون الروحية الجهادية الروحَ اللازمة. إذا لم تكن الروحية الجهادية، فأوّلاً يخطئ الإنسان المشهد ويراه خطأً، وثانياً يتصرف أحياناً خطأً في السلوك. حينما يكون الوضع جهاديّاً، فلا. إنه غالباً ما يرى صحيحاً، ودائماً يعمل ويتقدّم جيداً. بالطبع الروحية الجهادية التي نقولها ليس معناها أن لا ضرورة للقدرات المعرفية والأخلاقية وما شابه. بلى، هذه واجبة في محلها، غير أن الروحية الجهادية ضرورية هي الأخرى. إن هذه الروحية نظراً إلى هذه الآية الشريفة: {وَلَا یَطَؤُنَ مَوْطِئًا یَغِیظُ الکُفَّارَ وَلَا یَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَیلًا إِلَّا کُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} (التوبة، 120) – ذاك العمل الذي يثير غيظ الكفار – هي عمل صالح. «یَنالونَ مِنه» بمعنى توجيه ضربة. «نالَ» يُستعمل بمعنيين لكن حينما يكون مع «مِن»، «لَا یَنالونَ مِنْ عَدُوٍّ نَیلًا»، معناه لا يُوجهون إليه ضربة، «إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ». إذن، من الطبيعي أن هذا أفضل جهاد. ينبغي أن يحضر الحوزويون وسط الميدان، ويجب ألا ييأسوا؛ هذه ميزة العمل الجهادي. الجلوس على الهامش، ومثلاً التنبيه إلى أمر ما أحياناً، وتقديم نصيحة ما، أو توجيه رسالة ما، على غرار رجال الكهنوت المسيحي، ليس كافياً. إن رجال الكهنوت المسيحي هم بالطبع على أصناف عدة، فبعضهم كانوا محبوسين في الكنائس، أي حبسوا أنفسهم، وبعضهم بالعكس، صاروا طلائع الاستعمار. في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وما شابه، وقبل أن يطأ المستعمرون بأقدامهم وتتقدم القوات العسكرية، ذهب القساوسة وأعدوا الناس كي يأتي هؤلاء ويجعلوا حياتهم جحيماً، فبعضهم دخلوا أيضاً [الميدان] بهذه الطريقة. لكن، على كل حال، يجب أن يكون علماء الإسلام وسط ميدان الجهاد لله وبالله وفي الله، وكذلك ألّا ييأسوا. حينما يترافق عنصر الجهاد هذا مع النظرة العلمية والعمل العلمي، يكون أثر التبليغ مضموناً حتماً. هذه أيضاً نقطة.

النقطة التالية هي الاهتمام الخاص بجيل الشباب واليافعين، فهؤلاء هم من يصنعون غد البلاد. بالطبع، يجب ألَّا يُغفل عن الفئات الأخرى: فئة أهل الفكر، أصحاب الفكر، الخبراء، الفضلاء، العلماء، الفنانين، الكتّاب، الشعراء. يجب أن يمتلك الإنسان غذاءً فكريّاً لكلِّ هؤلاء وأن يكون على استعداد. قبل بضعة أعوام من الآن، جاء إلى هنا عدد كبير، ربما خمسون شخصاً أو ستون أو أكثر من سينمائيي البلاد. كان لهم لقاء معي في الطابق العلوي من هذه الحسينية[12]، وكانوا يقولون كلاماً ولديهم شكاوى. فوصلت إلى هذه النتيجة، وهي أن لدينا أحياناً توقعاً كبيراً من هؤلاء، فمتى وضعنا بين أيديهم المعارف الضرورية حتى نعتب الآن أنْ لماذا لم تصنعوا فيلماً بناءً على هذه المعارف؟ ينبغي لنا أن نقدم المحتوى، فهذا أحد الأعمال. هذه الأمور صحيحة، أي بناء على الأقسام المختلفة، فيجب أن يكون ثمة تعاطٍ تبليغي متناسب مع أهل الفكر والفن والقلم والكلمة، لكن الأهم من الجميع فئة الشباب واليافعين، فغد البلاد متعلق بهم، وهو بين أيديهم؛ يجب أن يكون إيمانهم قويّاً، وأن تكون أذهانهم خالية من الشبهة.

إنّ أدوات ترغيب الشباب في الالتزام العملي بالدين مهمة للغاية. نحن أحياناً لدينا شاب تقوده الملحمة والحب والحماسة الحسينية إلى طريق صحيح مثلاً، وإلى سبيل الجهاد، غير أن أعماله العبادية ضعيفة. لا شكّ أن للأعمال العبادية أهمية بالغة، فالمعلوم أن الصلاة خير العمل، وهي أسمى من الأعمال كلها، فهي الفلاح وهي خير العمل. افترضوا مثلاً أنه يغفل أحياناً عن الصلاة. لدينا مثل هذه الحالات. كي يتمكن شيء ما من تشجيع هذا الشاب على الأعمال العبادية واجتناب المعاصي، ثمة عوامل وجاذبيات، والمسجد من هذه الجاذبيات، والهيئة منها. هذه الأمور مهمة. إعمار المساجد، والإبقاء على المساجد حيّة، من الأعمال الواجبة. بالطبع، لدينا مساجد قليلة على مستوى البلاد نسبة إلى عدد السكان، لكن حتى هذه التي لدينا بعضها أو ربما كثير منها غير معمورة وغير عامرة. الحد الأقصى أنهم يفتحون عند وقت الصلاة، فتُقام الصلاة هناك، ثم يُغلق باب المسجد! لا يصح كذلك. يجب أن يكون المسجد محل تردُّد الناس الدائم. طبعاً الهيئة جيدة، فهي أيضاً من الأشياء التي تشجّع الشباب.

لا يُغفلنّ كذلك عن الموعظة وقد قلت هذا بدايةً. كلنا بحاجة إلى الموعظة: الكل، والكل من دون استثناء! إنّنا جميعاً بحاجة إلى الموعظة. صحیح أنّنا نعلم أموراً أحياناً لكن في استماعنا لها أثرٌ غير موجود في معرفتها، فعلينا أن نستمع إلى الموعظة، الموعظةَ الحسنةَ. حسناً، كانت هذه الآن نقاطاً ذكرناها بصفتها نقاطاً عملية.

النقطة الأخيرة – في رأيي إنّ هذه النقطة الأخيرة تُعدّ أهم النقاط من جوانب ما – أنه كيف يمكن أن نجعل هذه المطالب عملية. حسناً، لقد تحدثنا عنها الآن، وأنتم أنفسكم ربما كنتم تعلمون هذه الأمور التي ذكرتها وتعلمون ضعفها أيضاً. إذن، كيف تصير عمليةً؟ هذا هو المهم في الأمر. أرى أنه يوجد تبليغ جيد، سواء المكتوب، أو البيان والمنبر وأمثال هذه. ثمة تبليغ جيد، وهو بالطبع قليل جداً بالنسبة إلى ما يجب أن يكون. نحن متأخرون للغاية من ناحية الكميّة. إذا أردنا أن يكون لدينا عناصر تبليغية بهذه الخصائص وفق السعة والإمكانيّات اللازمة أو قريباً منها، فنحن بحاجة إلى المراكز الحوزوية الكبيرة. ينبغي أن تتشكل مراكز في الحوزة من أجل هذا فحسب: من أجل إعداد المبلّغ الذي يتمتع بركيزة فكرية وبحثية وعلمية. نحن نركز على التبليغ، فلا يغدو ذريعة ليقول بعضهم: إذن، لن نقرأ بعدها «الكفاية»[13]، ولن نذهب إلى درس الخارج. لا، هذه الركائز العلمية ضرورية، وغاية الأمر أن الاهتمام بهذا الجانب من المسألة ضروري للغاية، فنحن بحاجة إلى مركز أساسي. والمركز كذلك هو في الدرجة الأولى حوزة قم العلمية، وحينما يتحقق هذا الأمر في قم، ويصير تجربة، يمكن عندئذ أن تتكرر هذه العملية أيضاً في الحوزات الكبرى لأنحاء البلاد كافة، أي تأسيس مركز بمهمة «إعداد مادة تبليغية مواكبة للعصر». ثمة أشياء من المناسب أن تُقال اليوم من على المنبر، وقد تفقد أثرها غداً، وتكون دون جدوى. فلو كنا قلناها العام الماضي، لكانت مناسبة، وهذا العام لا. فالعالم يمضي على هذا النحو، وتقع الأحداث كذلك بالتعاقب. فلتُنتج المواد التبليغية الضرورية المُحَدَثة. في هذا المجال، إنّ مصادر الكتاب والسنّة هي من العمق وغنى المضمون بمكان إلى حد أنها لن تنفد مطلقاً. يمكنكم الاستقاء من القرآن وأن تحصلوا على موضوعات جديدة وحديثة وكلام جديد ومرتكز على القرآن والحديث إلى درجة أنه سيُشبع هذه الساحة كلها. إذن، إحدى المهمات لهذا المركز الكبير هي إعداد المواد.

المهمة الثانية تنظيم أساليب التبليغ المؤثرة. فعلى أيّ حال، أساليبنا التبليغية محدودة. ربما توجد أساليب مؤثرة أفضل وأكثر. يجب أن تنظّم هذه الأساليب وتُعدّ في ذاك المركز. الغربيون متقدمون علينا في هذه المسألة، فلديهم أساليب جديدة باستمرار، وأساليب مؤثرة من أجل إيصال الرسائل [الإعلامية]. نحن متأخرون في هذه المجالات. علينا ولا بد أن نُعدّ ونُنتج أساليب، وأن نعلِّم فن الكلام بالمعنى الحقيقي للكلمة. هذه المهمة الثانية.

ثم أيضاً إعداد المبلِّغ. فليُعدّ المبلِّغ بالمعنى الحقيقي للكلمة في هذا المركز. فكما نعد مجتهداً، فلنعد مبلّغاً. إنّ السادة المسؤولين المحترمين – الحمد لله – بدؤوا في قم حركة فقهية جديدة، فهم يجرون أبحاثاً في الفقه المعاصر، وهم يعملون على المسائل الموجودة اليوم من الناحية الفقهية، وهذا قيّم للغاية، ويجب كذلك أن يتواصل، وعلى غرار هذا، يجب أن نعدّ المبلّغ والمبلغين الذين يمكنهم أن يكونوا مؤثرين، ويمكنهم أن ينتشروا في كل مكان، وأن يحققوا الكفاية من الناحية الكمية. إن المرء على علم بأماكن ومراكز – إنني على علم – هي محرومة من وجود حوزوي ينشط بين الناس، وما هي بمكان أو مكانين أيضاً. هي كثيرة للغاية. مثلاً في مركز البلاد، وعلى سبيل المثال لدينا في طهران نفسها حالات من هذا القبيل. يجب تعويض شح المعلم والمبلغ وحامل الرسالة الحوزوي عبر هذا المركز. بناء عليه، فما يجب ولا بد متابعته، وهو من الأمور الأساسية، وإن بدأتم اليوم، فيمكن أن يعطي نتيجة بعد خمسة أعوام أو أكثر، هو أن يُبصر النور مثل هذا المركز ببضع المهمات هذه التي ذُكِرت. سعيدون للغاية لأنّنا التقيناكم. السلام على الشهداء وروح الإمام المطهَّرة.

والسلام عليكم ورحمة الله.[1] في بداية هذا اللقاء، تحدث بكلمة مدير الحوزات العلمية في أنحاء البلاد كافة، آية الله الشيخ علي رضا أعرافي.[2] الأمالي، الشيخ الصدوق، ص. 60.[3] المؤتمر العالمي «ألفية الشيخ المفيد» بمناسبة الذكرى 1000 لوفاة الشيخ المفيد، 17/4/1993.[4] من تأليف الملا فتح الله الكاشاني (المتوفّى سنة 998 هـ. ق.).[5] آية الله الميرزا محمد علي بيد آبادي المعروف بـ«الشاه آبادي» (1292-1369 هـ. ق.).[6] آية الله العظمى السيد حسن الطباطبائي القمي (1329-1428 هـ. ق.).[7] من جملتها رسالة الإمام الخميني في ذكرى انتصار الثورة الإسلامية، 11/02/1985.[8] كلمة الإمام الخميني مع جمع من مسؤولي نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، 21/3/1983.[9] ضحك الحضور.[10] في إشارة إلى كتاب أصول الفلسفة والمنهج الواقعي من تأليف العلامة الطباطبائي.[11] نداء الإمام الخميني إلى الشعب الإيراني في الذكرى السنويّة لتأسيس نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، 1/4/1982.[12] كلمته في لقاء جمع من مخرجي السينما والتلفزيون، 13/6/2006.[13] كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني.

المصدر: khamenei.ir

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى