أخبار محلية

حزب الله: الوعي العربي عند مفترق الطرق

المستقبل ليس صهيونياً بالتأكيد، ولا ينحاز إلى الذين رهنوا قرارهم بإرادة الآخرين، بل هو لمن آمن بذاته واستقلال قراره، وتحدى في سبيل ذلك القوى الاستعمارية، وراهن على انتصار مساعيه.

يمثل حزب الله، باعتباره دُرّة تاج محور المقاومة في الميدان العربي، دوماً الجواب السليم عن كل الأسئلة المفتوحة التي يطرحها المواطن العربي عندما يحمى وطيس الحرب حوله، فتتهاوى اللغة الطائفية، ويتوارى الخطاب التحريضي، ويبقى الحُكم للميدان وحده.

في كل معركة خاضها العرب ضد العدو الإسرائيلي خلال العقود الأخيرة، كانت المقاومة اللبنانية حاضرة ومكافئة وقادرة على تحقيق النصر. كل ذلك جعل العقل العربي يتجه أوتوماتيكياً إلى الضاحية الجنوبية ببيروت كلما اشتعلت نار الصدام المسلح داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة.

هذا بدوره أثار جنون خصوم محور المقاومة الذين بذلوا جهوداً مضنية لتغيير بوصلة الشارع العربي ووضعه في خانة العداء مع المعسكر الممتد من طهران إلى صنعاء مروراً ببيروت ودمشق. وقد تمركزت تلك الجهود على عاملين؛ الأول: التحريض المذهبي والادعاءات الباطلة في هذا السياق، والآخر: عباءة العروبة المخاتلة التي تطعن ما تبقى من فكر قومي ووحدوي حيث تدّعي نصرته.

لسنواتٍ عديدة، أنفقت العواصم الخليجية أموال النفط على رجال دين متعصبين ومتثاقفين دجّالين أطلّوا عبر الفضائيات كافة، في محاولة لفك الروابط النفسية الإيجابية التي انعقدت بين الشارع العربي والمقاومة اللبنانية بعد تحرير جنوب لبنان في 25 أيار/مايو 2000. لم يحصل هذا الأمر بإرادة خليجية خالصة بطبيعة الحال، بل كان تكليفاً أميركياً التزمت به تلك الأنظمة.

بحسب التقارير التي يتم الإفراج عنها بواسطة المخابرات الأميركية كل فترة، يتبين حجم القلق الذي يصيب البيت الأبيض بسبب انتشار صور السيد حسن نصر الله في كل التجمعات السياسية، من بغداد إلى نواكشوط، خلال فترة ما قبل الربيع العربي، حتى يمكن القول إنَّ الأحداث التي “طفحت” خلال العقد الماضي من شيوع للتعصّب المذهبي ورواج للأفكار التفكيكيّة لم تكن موجهة ضد الدولة الوطنية العربية بقدر ما كانت تستهدف البيئة الشعبية الحاضنة للمقاومة في محاولة لصرف الناس عنها.

أراد الأميركي وفي ذيله الإسرائيلي تحويل حزب الله من كيان للمقاومة يهتف الناس باسمه في الميادين العربية كلما هتفوا لفلسطين إلى منصة رماية يتبادل قاذفو السهام التصويب عليها، إلى درجة أن مؤيدي الحزب صاروا في حرج من إعلان تأييدهم له في فترة ما، ثم جاء طوفان الأقصى ليكنس كل ما سبق ويمحوه كأنه لم يكن.

طوفان الأقصى وحزب الله

ثمة جانبٌ مهم في الظواهر التي ترتبت على عملية السابع من أكتوبر البطولية التي نفذتها المقاومة الغزيّة، ولم ينتبه له كثيرون، وهو عودة القضية الفلسطينية لتحتل الصدارة كما كانت طوال النصف القرن الأخير، وتحديداً حتى مجريات الربيع العربي التي أحدثت حالة غير مسبوقة من التشوّش والانقسام في الرأي العام الشعبي والنخبوي.

عندما كنتَ تتابع آراء قطاعات واسعة في الشارع المصري على سبيل المثال خلال السنوات الأولى للحرب في سوريا، كنتَ تلمسُ بسهولة تأثيرات آلات الإعلام الغربية والخليجية التي لم تكن تتوقف لحظة عن التحريض على الجيش العربي السوري وكامل المحور الحليف له. حينها، توارى التأييد للمقاومة، وبرز انقسام حول القضية الفلسطينية أيضاً.

هنا، يبرز عامل مهم يتعلق بالتلازم بين الولاء أو الانحياز إلى جانب محور المقاومة والعداء للصهيونية والإيمان بضرورة وإمكانية تحرير فلسطين. ببساطة، هناك طرف يموّل فصائل المقاومة الفلسطينية ويسلّحها ويدرّبها. وعندما تخوض معاركها فإنه يبادر إلى إسنادها وتوسيع مساحة الحرب لتخفيف الضغط عليها، ولا يمكن لكائنٍ من كان الزعم بمناصرة المقاومة في قطاع غزة أو الضفة الغربية من دون أن يكون موالياً للطرف الذي يحتضنها ويحميها ويُعوّمها كلما تآمر الجميع لإغراقها.

يقول جوناس كابلان، أستاذ الأبحاث المساعد في علم النفس في جامعة جنوب كاليفورنيا، إن “المعتقدات السياسية مهمة لهوية الناس ولإحساسهم بذواتهم”. أما “التعصّب، فينشأ بحكم أن الدماغ البشري عندما يعتقد أن شيئاً جزء منه، سواء كان جسماً أو معتقداً، فإنه يحميه بالطريقة نفسها”.

في لحظة ما بعد عام 2011، أحسّ الجميع برغبتهم في الانتماء إلى شيء أكبر منهم؛ قضية ما أو موقف عام. المشكلة أن البيئة السياسية لم تكن ناضجة كافية لتوظيف هذا الشره السياسي وتعبئة الخواء الموجود في العقول بالمواد الصالحة. وهنا كانت الفرصة سانحة أمام الجهات الموالية للغرب والكارهة لذاتها الشرقيّة لتأخذ العقل الجمعي بعيداً عن مصلحته وبيئته و”مقاومته”.. ومن هنا كانت الدوّامة التي جرّت معها الشارع العربي نحو عقد كامل.

المفارقة في هذا السياق أن الآراء النخبويّة التي حرّضت العوام من الناس ضد المقاومة، باسم “الديمقراطية” تارة، وباسم “التمذهب” تارة أخرى، اعتمدت على الادعاءات الكاذبة والمتاجرة بالعواطف، من دون تقديم أي أساس مادي أو عقلاني لهذا التوجه. في الجانب الآخر، كان أنصار المقاومة وخصوم المؤامرة واقعيين تماماً، وكانوا يؤسسون حجتهم الدفاعيّة على أساس مصلحة البلد والشعب والناس في التخلص من الهيمنة الاستعمارية والاحتلال الإسرائيلي. هكذا ببساطة.

لا يعرف أحد كيف عاد الهتاف باسم الأمين العام لحزب الله إلى شوارع القاهرة وعمّان وتونس، وخصوصاً أنه لا يوجد حزب أو حركة عابرة للحدود تتمترس في الشارع العربي وتتبنى هذا الخيار، لكن المؤكد أنه بمجرد إحساس المواطن العربي بالكبرياء عقب عملية “طوفان الأقصى”، ثم بالخطر الداهم بعد الرد الإسرائيلي العنيف، توجهت عيناه تلقائياً نحو قلب المقاومة النابض في جنوب لبنان، وكان هذا منطقياً تماماً وعاقلاً بالكليّة.

تصاعدت شعبية حزب الله بصورة مفاجئة طوال الأسابيع الماضية، لأن رهان الشارع العربي على الحزب لم يخِب، فهو يقدّم الشهداء تباعاً، كما أنه شريك من اليوم الأول بالمعركة مع عز الدين القسام وسرايا القدس. والحزب هنا يمثل الخيار الشعبي الأول؛ الخيار الذي لا يساوم ولا يتردد، في الوقت نفسه يدير معركته بعقلانية تامة تجعل منه الطرف الفاعل وتضع خصمه في موقع الرد الفعل.

الخشبة التي في عيونكم ولا تفطنون لها

الإعلام العربي المُموّل خليجياً والغربي الناطق بالعربية حاول الترويج لسرديّة على مدار الأشهر الثلاثة الماضية، مفادها أن “محور المقاومة لم يقم بما لا يلزم من الأعمال المسلحة” أو “أن مشاركته غير مجدية”، لكنّ المهم هنا هو انصراف المواطن العربي ببساطة عن هذا النوع من الخطاب المُلفَق، لا لشيء إلا أنه كان يُبصر ميدان الحرب بعينيه، ويشاهد التضحيات التي يتم تقديمها من مضيق باب المندب إلى جنوب لبنان، وحتى العراق وسوريا.

كان لسان حال المواطنين العرب هو استحالة المساواة بين الرياض بموسمها الترفيهي وأبو ظبي بتطبيعها والقاهرة بتخبطها المعهود، ومحور كامل يحمل السلاح ويطارد الإسرائيلي في البحر الأحمر ليعطّل تجارته ويقصفه من الجنوب، حيث “إيلات” إلى الشمال على الحدود مع لبنان، ولا يدخر وسعاً لاستهداف الأميركي ذاته في قواعده المغروسة على الأراضي العربية في العراق وسوريا.

العدو الإسرائيلي الغارق حتى أذنيه في قطاع غزة، ويوشك أن يرفع الراية البيضاء، سيكتب نهاية عصر ليبدأ عصر جديد هو زمن المقاومة بكل تأكيد. ومن لا يلمس المساحة التي صارت المقاومة تحتلها في الشارع العربي، فهو غافل عن رصد الواقع بما فيه الكفاية، كما أنه لا يقرأ خريطة المتغيرات الدولية بالقدر السليم، والتي صارت مُمهدة بدرجة كبيراً لظهور قوة شرق أوسطية ناضجة تناطح الاستعمار الغربي بوضوح.

التقارير الأخيرة لمراكز الدراسات الغربية صارت تركز مؤخراً على “مركزية فلسطين بالنسبة إلى إيران ومحورها”، وتتهم زعماء العواصم الأوروبية بالجهل بآلية تفكير زعماء محور المقاومة، عندما تعاملوا مع فلسطين باستخفاف، وتصوّروا أن عمود خيمة الأحداث في طهران، فيما الواقع أنه في فلسطين، وبالتالي فإن كل انتصار يتم إحرازه في الأراضي المحتلة هو انتصار لكامل المحور، وليس على الصهيوني وحده، بل على قوى الاستكبار الغربي التي تدعمه أيضاً.

لا شكَّ في أن المقاومة الإسلامية في لبنان وحركة حماس هما الطرفان العربيان الوحيدان اللذان وقفا في وجه “إسرائيل” وأجبراها على القيام بأمور مثل المفاوضة على تبادل الأسرى أو الانسحاب من أراضي محتلة، وهذا ما يدفع المراهقين والشباب والشيوخ في الأقطار العربية إلى الالتفاف حولهما، وهذه هي لحظة استعادة الوعي الذي ربما كان مفقوداً خلال الفترة الماضية.

المستقبل لمن؟

ليس بفضل العولمة وحدها صار العالم مترابطاً، بل منذ فجر التاريخ،  تتأثر كل بقعة في الكرة الأرضية بما يحدث حولها، ولا يمكن لشعبٍ ما أن يدّعي بناء حضارة أو تحقيق منجز باستقلالية تامة عن كل المتغيرات التي تمورُ حوله، فتقترض منه وتُقرضه، وهذه إحدى الأبجديات البشرية على مر العصور.

المهم أن العالم اليوم يبدّل جلده بشكل حقيقي، فهناك نمو مستمر للصين كقوة اقتصادية تغزو أسواق العالم، حتى أوروبا ذاتها وشمال أميركا. أما روسيا، فتواصل صعودها كقطب سياسي قادر على جذب دول العالم الثالث بالاتكاء على القوة العسكرية والثروات الطبيعية. هذه الأمور لها مردودها بطبيعة الحال على منطقة الشرق الأوسط، وإن كان المردود متوسط الحال اليوم، فسيكون أقوى لاحقاً.

القوات المسلحة اليمنية التي وجدت في موسكو نصيراً لها في المؤسسات الدولية لإدانة “تحالف الازدهار” الذي أسسته واشنطن هو علامة على ذلك، ودمشق التي تخرج من كبوتها الاقتصادية على مهل بالاتكاء على طهران وبكين علامة أخرى. أما فلسطين، فعادت إلى سابق عهدها وجلبت الأنصار من مختلف دول العالم، حتى في دول الشمال ذاتها.

المستقبل ليس صهيونياً بالتأكيد، ولا ينحاز إلى الذين رهنوا قرارهم بإرادة الآخرين، بل هو لمن آمن بذاته واستقلال قراره، وتحدى في سبيل ذلك القوى الاستعمارية، وراهن على انتصار مساعيه مؤمناً باقتراب أوان تحقيق غاياته النبيلة.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى