عام على عودة سوريا إلى الجامعة العربية: الرهانات المتناقضة…
أحمد الدرزي
يتعاطى السوريون مع القمة العربية المرتقبة في 16 مايو/أيار الحالي بلامبالاة واضحة بعد مرور عام على عودة بلدهم إلى الجامعة العربية، على العكس تماماً من تعاطيهم مع مؤتمر الرياض السابق، الذي بنوا عليه آمالاً كبيرة بقرب خروجهم من النفق المظلم منذ أكثر من 13 عاماً من بدء الحرب بمستوياتها الثلاثة -المحلية والإقليمية والدولية- وهم معذورون باللامبالاة المسيطرة بعدما تحطمت آمالهم على صخرة الاستقطاب الحاد للقوى المتعددة.
شكلت سوريا بما تبقى من جغرافيتها السياسية دوراً مهماً كدور إقليمي مهم في تحديد المسارات السياسية في منطقة غرب آسيا، رغم ما تم من اقتطاع واسع من جغرافيتها على مراحل متعددة ابتداءً من عام 1920 وحتى الآن.
ومع ذلك، فإنها أدت دوراً مهماً في الصراعات الإقليمية والدولية بشكل منفعِل أو فعَّال في مركز العالم القديم، حيث نشأت الحضارات والإمبراطوريات، وزادت أهمية جغرافيتها السياسية بعد اكتشافات النفط في المنطقة وبروز أهميتها كممر لحوامل الطاقة في الصراع الدولي المحتدم على مستقبل النظام الدولي.
مجموعة من العوامل دفعت سوريا إلى أن تكون ساحة للصراع الدولي، فإضافة إلى أهمية إطلالتها على شرق المتوسط وكونها مركزاً أساسياً لنجاح مرور أنابيب الغاز والنفط للدول الإقليمية المتناقضة باصطفافاتها بين الشرق والغرب، فإن جوارها للكيان الصهيوني يعتبر ذا أهمية كبرى لضمان بقاء النظام الغربي عبر استمرار هذا الكيان ضمن بيئة إقليمية آمنة محيطة به وإسقاط تهديدات قوى المقاومة للمشروع الغربي الممتدة من الهضبة الإيرانية إلى شرق المتوسط والبحر الأحمر والخليج. وقد تحولت ضمن هذا السياق إلى عقدة أساسية لاستكمال بناء نظام إقليمي متكامل ضمن استراتيجية النظام الغربي لإفشال مشاريع الدول الآسيوية الناهضة المتحالفة مع بعضها البعض، وخصوصاً روسيا والصين وإيران.
ضمن هذا السياق، أتى الانفتاح العربي على سوريا المفيدة وفقاً للمصطلح الغربي، في محاولة مواربة لاحتواء سوريا من جديد ضمن بنية النظام العربي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة وتمسك بالمفاصل الأساسية لدوله سياسياً واقتصادياً، على الرغم من تحطيم سوريا إلى 5 مناطق في الشمال الشرقي والشمال الغربي والسويداء وحوران، ولكن بقاء ما يُعتبر بسوريا المفيدة المطلة على شرق المتوسط وفلسطين المحتلة وتتصل بآسيا عبر العراق، يدل على أهمية ما تبقى من سوريا خارج السيطرة الغربية بأداء دور أساسي بإفشال بناء نظام إقليمي جديد.
ارتكزت عودة العلاقات السورية العربية على دوافع مختلفة لدى الطرفين، فالجانب العربي انطلق من دوافع ذاتية تتساوق مع الدوافع الغربية للنظام الغربي بشكل يخدم الطرفين، فنتائج عدم إغلاق ملف الحرب في سوريا تحمل تهديدات للمحيط العربي، وخصوصاً مفرزات الحرب بما تفرضه من توسع اقتصاد الظل بشكل واسع، وتحول سوريا من ممر للمخدرات تجاه الأردن ودول الخليج إلى مُنتج أساسي للمخدرات، كما تدعي الاتهامات الغربية والعربية، وهي مشكلة كبيرة لأمن المجتمعات المحيطة، عدا عن تدفق السلاح الذي مولته هذه الدول سابقاً بصورة ارتدادية، كما أن الجماعات المسلحة التي مولتها ودربتها من قبل أصبحت تهديداً ممكناً لهذه الدول، كما حصل في تجربة تنظيم القاعدة في أفغانستان عام 1979، وانقلاب هذه الجماعات على الدول التي جاءت منها بعد انسحاب القوات السوفياتية، والأهم من كل ذلك هو العمل على استقطاب سوريا من باب المغريات الاقتصادية واستغلال الكارثة الاقتصادية المتفاقمة كي تخرج الاصطفاف الجيوسياسي مع من يعتبرون تهديداً للبنى السياسية للدول العربية.
الاندفاع العربي لم يكن تلقائياً، بل كان منسجماً مع التوجهات الغربية لإحداث مسار جديد للتموضع الجيوسياسي السوري، بالعمل على عنصر الزمن المديد والقدرة على التحكم في مسارات الداخل السوري بما يمتلكه النظام الغربي من قدرة على استخدام النظام المالي العالمي لفرض عقوبات شديدة تمنع التعافي السوري، إضافة إلى تحكّمه وحمايته للجماعات المسلحة التي تشكل تهديداً أمنياً وعسكرياً مستمراً يحرم الحكومة السورية من الموارد الأساسية للتخلص من العقوبات الاقتصادية المُرهقة. وتستند الخطة الغربية إلى إحداث تغييرات جوهرية في البنية السياسية السورية الراهنة، اعتماداً على مغريات اقتصادية تتيح إدخال قوى سياسية معارضة مراهنة على الدول الإقليمية والغربية المتنوعة في بنية نظام سياسي جديد يحقق المصالح الاستراتيجية للنظام الغربي بسياسة خطوة مقابل خطوة، على أن تكون الخطوة الأولى من دمشق.
تدرك دمشق الدوافع العربية والغربية بالانفتاح الجزئي على سوريا، وهي في الوقت نفسه تحتاج إلى هذا الانفتاح لدوافع متعددة، فهي، على الرغم من علاقتها المميزة مع القوى الآسيوية الناهضة، تحتاج إلى إقرار النظام الغربي بواقع البنية السياسية الراهنة وضرورة استمرارها بإيجاد حالة من توازن العلاقات بين الشرق والغرب، وهذا ما تحتاجه أيضاً من العلاقة مع النظام العربي بالعودة إلى سياسة التوازن بين الأطراف الإقليمية الكبرى -إيران وتركيا والسعودية- استناداً إلى احتياج الجميع إلى أهمية الجغرافيا السياسية السورية وضرورة استعادة الدور الإقليمي المتوازن لحماية هشاشة جغرافيتها السياسية.
كان واضحاً عدم تقدم العلاقات العربية السورية أي خطوة نحو الأمام خلال الأشهر الخمسة الأولى قبل زلزال معركة “طوفان الأقصى” وتداعياته المستمرة حتى الآن، فالرهانات العربية في العلاقة مع سوريا تختلف عن الرهانات السورية في العلاقة مع النظام العربي، وهناك جملة من العوائق المانعة لتحقيق مكاسب حقيقية للطرفين، فالتغيير الجوهري في البنية السياسية والاقتصادية السورية مطلوب لمصلحة السوريين، وليس لمصلحة النظام الغربي، بما في ذلك الكيان الصهيوني، الذي يخوض صراعاً صفرياً مع القوى الآسيوية الناهضة في غزة وأوكرانيا وقبلها في سوريا، وهو صراع لا مكان فيه للحياد في المنطقة الأخطر من العالم القديم، وهذا النظام ما زال يمتلك الكثير من عوامل القوة الكابحة لمناهضيه رغم تراجع قوته، وهو ما زال الأقدر على التحكم في وضع قواعد الصراع الدولي رغم خساراته المتعددة في أكثر من ساحة دولية.
كما أن الدور الإقليمي الذي تطمح له السعودية لا ينسجم مع السياسات السورية التي تسعى كي تؤدي دور الوسيط الموازن الثقة مع إيران، كما أن المصالحة السعودية الإيرانية برعاية الصين فتحت المجال للتواصل المباشر بين الطرفين رغم عدم وجود ثمار لهذه المصالحة حتى الآن، وخصوصاً ما يتعلق بالملف اليمني الذي يشكل خطورة كبيرة على تطور السياسات السعودية الداخلية والإقليمية بعنوان “السعودية 2030″، وهو بالتالي ذو أولوية قصوى بالنسبة إليها، ولا يمكنها أن تفرط بالملف السوري المرتبط بملفات لبنان وفلسطين والعراق واليمن قبل أن يتم وضع قواعد لنظام إقليمي يدفع بها إلى صدارة الدور الإقليمي.
ما عزز هذا الواقع المتجمد في العلاقات العربية السورية هو اندلاع أطول حرب يخوضها الكيان الصهيوني، وهو يخوض حرباً وجودية منذ أكثر من 7 أشهر لم يحقق فيها أياً من أهدافه التي وضعها لنفسه حتى الآن، ومجمل المعطيات تؤكد فشله بإمكانية انتصاره حتى لو اجتاح مدينة رفح، وهناك خشية واضحة للنظام العربي من فشل الكيان بتحقيق انتصار ما يستطيع من خلاله إعادة منطقة غرب آسيا إلى ما قبل السابع من أوكتوبر/تشرين الأول، فهو في موقع المشارك غير المباشر والمترقب للنتائج النهائية لأطول حرب في فلسطين المحتلة، وهو مدرك بأن منطقة غرب آسيا قد تصبح أمام واقع جديد يطيح كل الرهانات السابقة، ويدفع إلى مستوى آخر ومختلف من الصراع لا يتيح علاقات طبيعية مع سوريا، ليستمر تناقض الرهانات الصفرية ما دام النظام الغربي مهيمناً على إدارة الصراع الدولي والإقليمي، ولم يصل إلى مرحلة الإقرار والاعتراف بقواعد جديدة لنظام دولي متعدد الأقطاب.