مفارقات الهيمنة وثقافة الجدران(من اختصار العالم إلى آخر المباكي)
سديف حمادة
إنّ المتّتبع للنصوص الدينيّة اليهوديّة، توراتيّةً كانت أم تلموديّةً، يستطيع أن يرسم لها مسارين كبيرين غير متلاقيين:
مسار التوسّع، ومسار الجدار، ولعلّه أغرب تناقضٍ في ما أثر عن الثقافات في العالم منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا…
ولأنّني رأيت ألّا أحوّل هذه المقالة إلى دراسةٍ تاريخيّةٍ فكريّةٍ، وفضّلت أن أصنّفها مقالةً تخطف لقطاتٍ من تاريخ الفكر اليهوديّ، كإشاراتٍ لما أرمي إليه، فضّلت أن أستشهد ببعض (أصحاح) ما ورد في النصوص الدينيّة (اليهوديّة)، كمفاتيحَ بحثيّةٍ لمن يرغب…
يصرّح التوراة، بما لا لبس فيه، بأفضليّة الشعب اليهوديّ على العالم، وبأنّ العالم بأسره قد خلق لخدمته، بدءًا بسفر التكوين وانتهاءً بسفر التثنية، من دون أن تغفل الأسفار الثلاثة بينهما، الخروج واللاويين والعدد، هذا الأمر، فاليهود ليسوا فقط نقطة ارتكاز العالم، وفق عقيدتهم الدينيّة، وإنّما هم أسياده، وسائر الناس (غوييم)، أيّ منزلة الخدم لهم، وعززوا ذلك أيضًا بنصوصهم التلموديّة التي يعدّونها تفسيرًا وشروحاتٍ وفروعًا للنصوص التوراتيّة المزعومة…
ولا يحتاج المتّتبع إلى أكثر من سفر التكوين في أصحاحه الثاني عشر والثالث عشر ليتبيّن ذلك الزعم التاريخيّ…
وإنّ من الخطأ الجسيم أن يقصر الباحثون السيطرة اليهوديّة على البلاد الممتدة بين النيل والفرات، كما هو رائجٌ ومشهورٌ، لأنّ نظرة اليهود للعالم هي أنّه خُلق كلّه من أجلهم، وأنّ الرب إلههم قد قضى أن يكون تحت سيطرتهم، وأنّهم هم نخبته على هذه الأرض.
لم تقتصر هذه النظرة على الموغلين في التاريخ من الداعين إلى الهيمنة اليهوديّة، بخلفيّة دينيّة، وإنّما استمرت حتّى القرون الماضية وصولًا إلى أيامنا هذه، فحمل راية هذه الفكرة عددٌ من اللاهوتيين (والمفكّرين) الغربيين، أبرزهم: توماس برايتمان وهنري فنش، وأليزنر كارترايت وأوليفر كرومويل وسواهم كثير. وسخّروا من أجل ذلك إمكاناتٍ اقتصاديّةً وسياسيّةً ودعائيّةً وحربيّةً بالاعتماد على نفوذهم في هذه المجالات…
في المقلب الآخر، راج في الفكر اليهوديّ، منذ توراتهم المزعوم، ونصوصهم التلموديّة، ولا سيما (المنشاه والجِمارا) عقليّة (الغيتو)، أيّ عقليّة الجدار، وتتأسّس على الفكرة ذاتها في السيطرة والهيمنة والإلغاء، غير أنّها في ظاهرها سلوكٌ نقيضٌ مقفلٌ انعزاليٌّ يقوم على أبعاد الهوس والهسترة والخوف من الآخر والتشكيك فيه، وتعزّزه تشريعاتهم الإلغائيّة الرافضة لكلّ ما سواهم:
” إيّاك قد اختار الرب إلهك، لتكون له شعبًا أخصّ من جميع الشعوب”
(سفر التثنية، الأصحاح ١٧، الآية ٦)
ويتواتر مثل ذلك وأكثر في الأصحاح ٨، ١٩، ٢٠، ٢٦، ٢٨،….
ويكفيك أن تتأمّل في طقوس عيد الفصح لدى اليهود، حتّى تعرف منزلة الأمم الأخرى بالنسبة إليهم، إذ تبدو مجالسهم حلقات دعاءٍ مقزّزٍ على كلّ من سواهم…
واقترنت هذه الرؤيا الدينيّة، عند اليهود، ببناء الجُدر والأسوار، لتكون مصداقًا (عملانيًا) على انعزالهم، وذلك قبل الميلاد بمئات السنين، استنادًا إلى نصوصهم الدينيّة أيضًا، ومنها سفر أخبار الأيام الثاني، في الأصحاح ١٤، وسفر المزامير، في المزمور الواحد والخمسين، وغير ذلك كثير ممّا ورد في تراثهم الدينيّ، الذي زعم أنّ جدرانًا وأسوارًا أقامها الأولون منهم في أورشليم، وغيرها…
ثمّ إنّ المتتبع لثقافة الجدران والأسوار في خيبر وقلاع يثرب والشق والسلالم والوضيح والنزار في الجزيرة العربيّة، يدرك أنّ ذلك بعض خط مسار الثقافة التوراتيّة منذ خُطَّ توراتهم بعد عدّة قرونٍ من زمن موسى النبي عليه السلام…
وتواصلت ثقافة الغيتو(الجدران) في أوروبا، تحت مسمّى تِحوم هموشاف، أيّ منطقة الاستيطان، وذلك لتجنّب الاختلاط بالغوييم( الأغراب) الذين بادلوهم الشعور ذاته بالرفض، وشهد نتاجهم الفكريّ والأدبيّ والفنّي على ذلك، فما “تاجر البندقية”لشكسبير، “وحكايات كانتنبري” للشاعر الإنكليزي جيفري تشوسر، ومسرحيّات توماس ديكر وبن جونسون وسواهم سوى وثائقَ تاريخيّةٍ على رفض المجتمع الأوروبيّ(للشعب المختار)
غير أنّ إقامة كيان(إسرائيل) الذي اغتصبت الحق الفلسطينيّ، وانهزام الواقعين العربيّ والإسلاميّ أمام المشروع الصهيونيّ قد أسالا لعاب الصهاينة في التوسّع والهيمنة، فارتفع شعار دولتهم الكبرى، وأعرضوا عن ثقافة الجدار الدينيّة التاريخيّة، وتركّز مشروعهم في المسار الآخر: ثقافة السيطرة غير المحدودة؛ وقد استمر ذلك منذ الهجرات اليهوديّة إلى فلسطين حتّى الخامس والعشرين من أيّار من العام ٢٠٠٠، حين اندحر الصهاينة من لبنان أذلاء، حتف أنوفهم، ليرصفوا، بعدها بعدّة أشهرٍ، على طاولات اجتماعهم في (الكنيست)، مشاريع قوانين بناء جدران أسمنتيّة وفولاذيّة، وليوافق أغلبية أعضاء (الكنيستات) المتلاحقة على صرف مبالغ مهولة لإقامتها، فباشروا في بناء الجُدُر على الحدود مع الضفة الغربيّة( بطول ٤٢٠ كلم)، وعند الحدود مع مصر، في العام ٢٠١٠( بطول٢٤٦)، وأقاموا جدارًا عظيمًا عند الحدود مع لبنان، وأعلنوا عن مشروع بناء جدار على الحدود مع غزة(١٠ كيلومترات)، فأنجزوه، ولم يستثنوا الأردن والجولان السوريّ من ذلك أيضًا…
نعم، لقد ألزم العام ٢٠٠٠، تحت ضغط النار، الكيان الغاصب بمسارٍ واحدٍ، بعد أن أسقط مسار التوسّع…
واليوم يضيق الخناق(الجدرانيّ) على الكيان، في العالم كلّه، لا في فلسطين وحدها، لينكفئوا إلى جدار مبكاهم الأسطوريّ المزعوم، ولكن، هذه المرّة، بدموعٍ لا تشبه دموع التماسيح، إذ لا أساس لمنشئه من الصحة، حتّى في توراتهم المزعوم،(سوى ما ورد في سفر التكوين، وذلك في آيةٍ يتيمةٍ، أنّهم جلسوا عند المبكى, وراحوا يبكون الإله تمّوز، وهو إله الكنعانيين في الأسطورة، مع العلم أنّ اليهود الغربيين لا يعرفون عنه شيئًا في موروثهم الدينيّ، وكذلك الشرقيّون الذين ما عرفوه سوى مع الهجرات اليهوديّة إلى فلسطين)، ما يعني أنّه طقسٌ طارئٌ مفتعلٌ، ينكفئون ليبكوا ما خلّفه الظلم التاريخيّ الذي مارسوه على العالم، وليدفعوا فاتورة( بارانوياهم) منذ أن أبوا أن يذبحوا بقرتهم، إلى آخر عهود جورهم، وقد تحوّلت جدران تراثهم الدينيّ وأسوارهم الأمنيّة إلى (مباكٍ)، ولكن بدموع ذلٍ وثكل….