بوتين على عتبة بركان
بوتين على عتبة بركان جيوسياسي: أيكون بريجينيف أم دوستويفسكي؟
سميح صعب
سواء إندلعت الحرب في أوكرانيا أم نجحت الديبلوماسية في تفاديها قبل ساعة الصفر، فإن العالم يقف على عتبة بركان جيوسياسي كبير لا يقل في تأثيراته عن ذاك الذي هز العالم قبل ثلاثين عاماً بزوال الإتحاد السوفياتي وتربع الولايات المتحدة على عرش الأحادية العالمية.
تجاوزت اللعبة الكبرى، أوكرانيا إلى قواعد التوازن العالمي الجديد.
رهان فلاديمير بوتين هو أن هذه هي اللحظة المواتية لكسر هيمنة القطب الواحد.
فأميركا أنهكتها حربا أفغانستان والعراق وهي منقسمة على نفسها في الداخل، وتواجه صعوبات جمة في إحتواء الصين، العملاق الآسيوي الذي عبّد طريق الحرير بتريليون دولار.
أما بالنسبة لأميركا، وأمام التحدي الروسي الأخطر منذ 30 عاماً، لم تعد أوكرانيا بلداً مهماً بحد ذاته، بقدر ما تحولت رمزاً لردع روسيا والحفاظ على النظام الأمني الأوروبي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
ومن الناحية الإستراتيجية، تتعاطى أميركا اليوم مع أوكرانيا وكأنها الفخ الذي نصبته لبوتين كي يقع فيه وتبرر لنفسها فرض عقوبات “مدمرة” تشل الإقتصاد الروسي وعصبه الغاز.
وبعيداً عن كل الدعم العسكري الأميركي والغربي المُقدَّم لأوكرانيا، يجد الرئيس الأميركي جو بايدن أن هذه فرصته لإثبات ما يقوله مسؤولون ومعلقون كثيرون على سبيل الإستخفاف، بأنها لا تعدو كونها محطة وقود مجهزة بأسلحة نووية، وأن قوتها الإقتصادية التي لا تتجاوز إقتصاد دولة مثل هولندا مثلاً، لا تؤهلها كي تستعيد المكانة والنفوذ العالميين، اللذين كان يتمتع بهما الإتحاد السوفياتي.
سلوك بوتين يوحي بأنه من دون تحقيق جزء من المطالب التي قدّمها إلى الغرب، لن يتراجع خطوة واحدة إلى الوراء.
إنها معركة التوازن الدولي الجديد. وهو مدرك سلفاً أن كلفة العقوبات التي تنتظره قد تكون مدمرة لبلاده.. لكن روسيا ليست وحدها التي ستتضرر، إذ أن دول الإتحاد الأوروبي قد تدفع أيضاً ثمناً مساوياً لما ستدفعه روسيا
منذ أن تسلم بوتين السلطة في روسيا عام 2000، وصولاً إلى الحشد العسكري على أبواب أوكرانيا في تشرين الأول/أكتوبر 2021، وجلّ همه ينصب على محو هذه الفكرة من أذهان الغرب، وأن يبرهن أن روسيا لا تزال برغم “أكبر كارثة جيوسياسية” في القرن العشرين تمثلت في إنهيار الإتحاد السوفياتي، قوة عظمى قادرة على النهوض ومنافسة الولايات المتحدة.
وقد نجح بوتين واقعياً في الأعوام الأخيرة في إستعادة الكثير من “روسيا الخارجية” وقلب معادلات وتثبيت موازين قوى داخلية وإقليمية ودولية.
سحق تمردين في الشيشان وداغستان عام 1999، وكان بعد رئيساً للوزراء، وتدخل عسكرياً في جورجيا عام 2008 وفي سوريا عام 2015، وفرض “سلاماً روسياً” في القوقاز وآسيا الوسطى، وفي الماضي غير البعيد، منع تغيير النظامين في بيلاروسيا وكازاخستان. وعاد إلى ليبيا وأقام موطىء قدم في مالي ودول الساحل الإفريقي، وكان سبباً مباشراً في الإنسحاب الفرنسي والأوروبي من غرب أفريقيا.
ويقيم أفضل العلاقات مع دول الخليج العربي وهو من مؤسسي منظمة “أوبيك-بلاس” التي تتحكم بأسواق النفط العالمية، وموسكو هي المزود الرئيسي للعراق بالسلاح، وكذلك بالنسبة إلى مصر والجزائر وتركيا والهند، وهي العصب الرئيسي في مجموعة “بريكس” التي تضمها إلى الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.
من هذا الموقع، تقدم فلاديمير بوتين بمطالبه الأمنية إلى الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي: آن الأوان لوقف زحف الحلف شرقاً (ومن ضمنه عدم قبول طلب إنضمام أوكرانيا إلى الحلف)، كما أنه يتعين على أميركا أن تسحب قواتها والصواريخ التي نشرتها في دول أوروبا الشرقية سابقاً التي إنضوت تحت لواء حلف شمال الأطلسي منذ عام 1997.
ولم تخطىء وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك عندما وصفت المطالب الروسية، بأنها تذكير بحقبة الحرب الباردة، أي قبل تكريس الأحادية الغربية.
وإذا كان بوتين أراد أول الأمر عبر الحشد العسكري، جر الغرب وتحديداً الولايات المتحدة إلى المفاوضات حول المطالب الروسية، فإن الرد الأميركي الرافض بالمطلق لهذه المطالب، جعل بوتين يخطو خطوتين إلى الأمام، من خلال المناورات في البر والبحر والجو وحتى المناورات الإستراتيجية وأن يُلوّح بورقة الإعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الإنفصاليتين المعلنتين من جانب واحد في منطقة الدونباس بشرق أوكرانيا، من دون أن ينسى التذكير في رده على الرد الأميركي بحق روسيا في إتخاذ خطوات “عسكرية تقنية” للدفاع عن حقوقها. وهذا يحمل تفسيراً مطاطاً قد يصل إلى حد الذهاب إلى ما ذهب إليه الرئيس السوفياتي الراحل ليونيد بريجينيف (يتحدر من أوكرانيا) في سحق “ربيع براغ” عام 1968.
سلوك بوتين يوحي بأنه من دون تحقيق جزء من المطالب التي قدّمها إلى الغرب، لن يتراجع خطوة واحدة إلى الوراء.
إنها معركة التوازن الدولي الجديد. وهو مدرك سلفاً أن كلفة العقوبات التي تنتظره قد تكون مدمرة لبلاده.. لكن روسيا ليست وحدها التي ستتضرر، إذ أن دول الإتحاد الأوروبي قد تدفع أيضاً ثمناً مساوياً لما ستدفعه روسيا. فعملية تعويض الغاز الروسي لأوروبا وخصوصاً لألمانيا، لن تكون بالعملية السهلة وربما تستغرق سنوات، وستهلك في طريقها إقتصادات دول آسيوية مثل اليابان وكوريا الجنوبية، التي تعتمد على الغاز المتدفق من دول الخليج والذي سيُحوّل إلى أوروبا لسد النقص في الغاز الروسي.
أما الصين التي قد تتأثر أيضاً، فإن الغاز الروسي والإيراني يمكن أن يعوّضها ما تستورده من دول الخليج.
أكثر من ذلك، من الممكن أن تكون معرفة أميركا التامة بالحاجة الأوروبية الماسة إلى الغاز سبباً في تسهيل التوصل إلى إحياء الإتفاق النووي مع إيران، لأن الغاز الإيراني سيكون عندها متاحاً وصوله إلى أوروبا من دون أن يتعرض لسيف العقوبات الأميركية.
وعندك مثلاً تلك الرغبة الجامحة المستجدة لدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الإنفتاح على إسرائيل وإبداء الإستعداد للتعاون معها في مد خط أنابيب تحت مياه المتوسط وصولاً إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، وهي فكرة تلقى حماسة أميركية.
حتى الآن أثبت بوتين أنه أخذ عن لينين مبدأ “خطوتان إلى الأمام خطوة إلى الوراء”، وأخذ عن بريجينف مبدأ التدخل العسكري حيثما يجد أن المصالح الحيوية لروسيا مهددة، وفي الوقت نفسه، أخذ عن فيودور دوستويفسكي الحكمة التي يقول فيها “إن الأمر يتطلب أكثر من الذكاء للتصرف بذكاء”
وتعيش الولايات المتحدة أجواء الحرب الفعلية وتضرب مواعيد للغزو المحتمل. وعرض وزير الخارجية أنطوني بلينكن أمام جلسة مجلس الأمن يوم الخميس الماضي “سيناريو” الحرب، في تذكير للدلائل التي عرضها سلفه كولن باول أمام جلسة مجلس الأمن التي سبقت الغزو الأميركي للعراق عام 2003 وتبين بعد سنوات أنها كانت مجرد أدلة مزيفة.
ويُصوّر بعض المسؤولين الأميركيين الرئيس الروسي على أنه مدمن غزوات خلال الألعاب الأولمبية، في إشارة إلى أنه سيغزو أوكرانيا قبل إنتهاء الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين في 20 شباط/ فبراير الجاري، بعدما كان تدخل في جورجيا خلال الألعاب الأولمبية الصيفية في بكين أيضاً عام 2008!
إن مسارعة أميركا إلى مد أوكرانيا بالأسلحة ونقل سفارتها من كييف إلى مدينة لفيف الأوكرانية قرب الحدود البولندية، إلى إرسال أكثر من 15 ألف جندي لتعزيز الجبهة الشرقية لحلف شمال الأطلسي، إلى بقاء بايدن في البيت الأبيض لمتابعة التطورات المتسارعة في أوكرانيا، كل ذلك يدل على أن واشنطن متأكدة من حصول الغزو الروسي، وانها دخلت في مرحلة الرد.
هل من فرصة للديبلوماسية بعد كل هذا الإستنفار العالمي؟
في اللحظة الأخيرة تمكن نيكيتا خروتشيف وجون كينيدي من تفادي حرب أميركية – روسية مباشرة بسبب أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. فهل يتكرر السيناريو نفسه؟