الحدود البحرية أهميتها وترسيمها وفق قانون البحار
أحلام بيضون
الحدود you البحرية أهميتها وترسيمها وفق قانون البحار
أحلام بيضون
أثارت مسألة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل الكثdر من اللغط والمغالطات من قبل المسؤوليين في السلطة، رغم الدراسات القيمة والشروحات الواضحة من قبل اختصاصيين والخبراء، لبنانيين وغير لبنانيين. وكون هذا الموضوع يدخل ضمن مجال اختصاصنا، ورغم ما كتبناه سابقا (1)، وجدنا أنه لا بد من مشاركة المختصيين في إيضاح بعض الغموض الذي يمكن أن يخربط تفكير المسؤولين السياسيين، فيجعلهم يستسهلون الحلول الدبلوماسية في هذا الشأن.
سنحاول هنا إيراد بعض التعاريف التي لا بد منها لكي يمكن التمييز بين مختلف المجالات البحرية وحقوق الدول التي تمّ تحديدها في اتفاقية البحار لعام 1982م، والتي دخلت حيز التنفيذ في العام 1994م، والتي هي قائمة أصلا على تدوين العرف بشكل عام، مما يمنحها قوة تنفيذية استثنائية، لا تفسح في المجال أمام الدول غير المنضمّة إليها للتّنصل من التزام بها.
1- المياه البحرية الإقليمية
المياه البحرية الإقليمية أو البحر الإقليمي، هي مياه البحر التي تملك الدولة السيادة عليها انطلاقا من سواحلها أو إقليمها البري، تم تحديدها في اتفاقة البحار لعام 1982م، اتفاقية جمايكا، في المادة الثالثة، بامتداد 12 ميل بحري من خط الأساس. وعرّف خط الأساس العادي لقياس عرض البحر الإقليمي، بأنه حدُ أدنى الجزر على امتداد الساحل، وتبين ذلك الخرائط المعترف بها دوليا، مع وجود استثناءات. وفي حال وجود دولتين متقابلتين، يكون خط الوسط هو الذي يحدد الحدود البحرية بينهما، إلا إذا اتفقتا على غير ذلك (المادة 15). أما البلدان الساحلية المتجاورة أو المتلاصقة، فتتبع الحدود البحرية بينهما خط الحدود البرية. وتخضع المياه البحرية الإقليمية لسيادة الدولة المعنية.
ومياه البحر الإقليميية هي غير المياه الإقليمية التي تشمل عدا عن الأنهار والبحيرات الداخلية، مياه البحر المتغلغلة في إقليم الدولة، كالموانئ والأحواض البحرية والخلجان والبحار الداخلية، والتي تخضع للقانون البحري لدولة الأقليم.
2- المنطقة الاقتصادية الخالصة:
تمتد المنطقة الاقتصادية الخالصة إلى مئتي ميل بحري بحسب اتفاقية البحار لعام 1982م، حيث بإمكان الدول المتلاصقة ممارسة بعض النشاطات دون أن يكون لذلك تأثير على الوضعية القانونية لتلك المنطقة، على اعتبار أن المنطقة الاقتصادية الخالصة لا تخضع لسيادة الدولة الساحلية التي تتبع لها. وبإمكان الدولة المشاطئة إقامة جزر صناعية ومنشآت إلى جانب الاستفادة من خيرات تلك المياه، بشرط أن تعلن عن مشاريعها للدول الأخرى، وتسمح لها بممارسة حقها أيضا في الصيد والبحث العلمي، وحفظ الموارد الحية.
3- الجرف القاري
ويسمَّى أحياناً الرصيف أو الإفريز القاري أو العتبة القارية. وهو امتداد اليابسة المغمورة بالمياه باتجاه قاع البحر. ونظراً لما يحتويه الجرف القاري من ثروات طبيعية هائلة، بيولوجية ومعدنية وبترولية ونباتية وحيوانية، فقد جذب اهتمام الدول التي طالبت بممارسة اختصاصات سيادية على الجرف القاري الذي يشكّل امتداداً لسواحلها، بما يخدم مصالحها الحيوية وخاصة مع تطور الوسائل التقنية الحديثة.
لذلك، ومع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف الطبيعة الجيولوجية للجرف القاري بين منطقة وأخرى، فقد اعتمدت اتفاقية عام 1982م حول قانون البحار معايير أخرى لتحديد الجرف القاري تختلف تماماً عن تلك المنصوص عليها في اتفاقية جنيڤ لعام 1958م، وهذه المعايير تستند إلى المسافة التي يبلغها الجرف القاري ابتداءً من اليابسة والحد الخارجي للحافة القارية.
وقد نظمت اتفاقية جاميكا لقانون البحار لعام 1982م، والتي دخلت حيز التنفيذ عام 1994م، الجرف القاري، حيث نصّت في المادة 76: “يشمل الجرف القاري لأي دولة ساحلية قاع البحر، وباطن أرض المساحات المغمورة التي تمتد إلى ما وراء بحرها الإقليمي في جميع أنحاء الامتداد الطبيعي لإقليم تلك الدولة البري حتى الطرف الخارجي للحافة القارية، أو إلى مسافة 200 ميل بحري من خط الأساس، الذي يعتمد لقياس عرض البحر الإقليمي، إذا لم يكن الطرف الخارجي للحافة القارية يمتد إلى تلك المسافة”. أما إذا امتدت الحافة القاريّة إلى أكثر من 200 ميل بحري، فيمتد الجرف القاري عندها إلى مسافة 350 ميل بحري، وفقا لمعاهدة عام 1982م. وفي جميع الأحوال، لا يجب أن يمتد الجرف القاري إلى أبعد من مسافة/350/ ميلاً بحرياً من خط الأساس.
ويستنتج من ذلك أنه لا يوجد جرف بحري إلا خارج المياه الإقليمية، أو البحر الإقليمي، حيث تخضع المياه وقاع البحر وما تحت القاع، لمسافة لا تتجاوز 12 ميلا بحريا، حكما لسيادة الدولة.
أما تحديد امتداد الجرف القاري، فيتم بالاستناد إلى معيارين: معيار قياسي، أي بلوغ مستوى العمق مئتي متر تحت سطح الماء. أو معيار استثماري، وهو المدى الذي يسمح باستغلال موارد الجرف، حتى لو تجاوز ذلك مسافة مئتي متر عمقاً تحت سطح الماء.
وقد أثار هذا التحديد فيما بعد مشكلات عديدة، إذ عمدت بعض الدول، وخصوصاً الدول التي تسمح قدراتها التكنولوجية بذلك، إلى مد جرفها القاري لمسافات سحيقة بذريعة أن هذه المسافات تسمح لها باستغلال الموارد الطبيعية للجرف، وهذا ما أدى في أغلب الأحيان إلى نشوب نزاعات بين الدول المتقابلة أو المتجاورة. بالمقابل، هنالك حالات ينعدم فيها الجرف القاري بالمعنى الجيولوجي حينما يكون عمق المياه ضحلاً جداً، كما هي الحال في منطقة الخليج العربي. وهنالك دول أخرى ينحدر جرفها القاري بشكل حاد وشديد على مسافة قريبة من الساحل، كما هو الأمر بالنسبة للدول الواقعة على الساحل الغربي، في جنوبي القارة الأمريكية، مما لا يسمح بالاستغلال المثمر للثروات التي يحتويها الجرف.
ويُلاحظ أنه بالإمكان القول أن المنطقة الاقتصادية الخالصة قد تتطابق مع الجرف القاري، فهي تمتد إلى مسافة مئتي ميل بحري تستطيع احتواء الجرف القاري، وتتمتع الدولة الساحلية بحقوق متشابهة نوعاً ما على المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري، هذا إذا لم يتجاوز امتداد الجرف القاري مسافة مئتي ميل بحري، أما إذا ما تجاوز هذه المسافة بحيث لا يتعدى /350/ ميلاً بحرياً، فعندها يطبق النظام القانوني الخاص بالجرف القاري دون سطح المياه، مقابل إداء مساهمات مادية وعينية عن استغلال الموارد غير الحيّة للجرف ضمن المسافة الواقعة ما بين 200 و350 ميلاً بحرياً (المادة /82/ من اتفاقية عام 1982م حول قانون البحار).
ومن الجدير بالذكر أن الجرف القاري لا يخضع لسيادة الدولة الساحلية، وإنما تمارس عليه حقوقاً سيادية فقط لاستكشاف موارده الطبيعية واستغلالها. وهي حقوق ثابتة وشاملة ومانعة، بحيث تتضمن كل الحقوق المقررة للدولة الساحلية التي تستطيع أن تمنع الغير من المشاركة في ممارستها، بغض النظر عن وضع يدها فعلياً أو قانونياً على الجرف أو بإصدار إعلان صريح من قبلها. بمعنى آخر، إن هذه الحقوق هي طبيعية وأبدية، تتضمن، إضافة إلى استغلال الموارد الطبيعية للجرف، وضع الكابلات وخطوط الأنابيب المغمورة، وإقامة الجزر الاصطناعية، وغيرها من المنشآت والتركيبات وأعمال الحفر في الجرف القاري. ويمكن للدول الأخرى القيام بهذه الأعمال أيضاً، لكن بعد الحصول على موافقة الدولة الساحلية وفق قوانينها وأنظمتها الداخلية (المواد /79/ و/80/ و/81/ من اتفاقية عام 1982م حول قانون البحار).
فوفقا لاتفاقية جنيڤ لعام 1958م، وأيضا للمواد 76 و77 من اتفاقية عام 1982م حول قانون البحار:
1- تمارس الدولة الساحلية على الجرف القاري حقوقاً سيادية لأغراض استكشافه واستغلال موارده الطبيعية.
2- إن الحقوق السيادية التي تمارسها الدولة الساحلية على جرفها القاري هي حقوق خالصة، بمعنى أنه إذا لم تقم الدولة الساحلية باستكشاف الجرف القاري أو استغلال موارده الطبيعية، فلا يجوز لأحد أن يقوم بهذه الأنشطة دون موافقة صريحة من الدولة الساحلية.
3- لا تتوقف حقوق الدولة الساحلية على الجرف القاري على احتلال فعلي أو حكمي ولا على أي إعلان صريح.
4- لا تمس حقوق الدولة الساحلية على الجرف القاري النظام القانوني للمياه العلوية أو الحيز الجوي الذي يعلو هذه المياه.
5- لا يجب أن تتعدى ممارسة الدولة الساحلية لحقوقها على الجرف القاري على حرية الملاحة وغيرها من حقوق وحريات الدول الأخرى أو أن تسفر عن أي تدخل لا مبرر له في تلك الملاحة والحقوق والحريات.
أهمية التحديد
يتضح إذاً من النصوص الآنفة الذكر أن النظام القانوني للبحر الأقليمي يختلف عن النظام القانوني للمنطقة الاقتصادية الخالصة أو للجرف البحري، ففي حين تخضع المياه البحرية الإقليمية لسيادة الدولة المطلقة، لا تخضع المنطقة الاقتصادية الخالصة أو الجرف القاري لتلك السيادة إلا ضمن 12 ميل بحري التي تشكل عرض البحر الإقليمي.
من هنا تأتي أهمية تحديد الحدود البحرية، فالبحر الإقليمي يخضع لسيادة الدولة الكاملة، وهذا لا يقتصر على المياه البحرية بل يشمل الجو فوقها، كما يشمل باطن الأرض تحتها. حيث تمارس الدولة سيادة كاملة على بحرها الأقليمي، ويعتبر امتدادا لإقليمها البري، فلا يجوز مثلا للسفن الدخول إلى المياه الإقليمية للدولة إلا بموافقتها، علما أنه يسمح بالمرور الآمن لسفن جميع الدول الساحلية بالمرور دون الدخول أو التوقف. ويسمح بالتوقف في حالات استثنائية وبرضا الدولة المعنية. ومن حق الدولة عدم السماح بالمرور البحري، إذا كان ذلك يشكل تهديدا لسيادتها وسلامة أمنها أو مصالحها الاقتصادية. ومن الأمثلة على ذلك، الصيد البحري، أو القيام بأنشطة بحث أو مسح أو جمع معلومات، أو إجراء مناورة أو تدريب بأسلحة أي يكن نوعها، أو إطلاق طائرة أو إنزالها، أو التسبب بتلويث المياه.
وتمارس الدولة السيادة على بحرها الأقليمي من خلال الرقابة الأمنية، وتفرض قوانين المرور التي ترتئيها على السفن التجارية أثناء مرورها أو وجودها في مجالها البحري، وحق القضاء على السفن التجارية الأجنبية فيما يتعلق بأي عمل يتهدد أمنها وسلامتها، ونظامها العام. كما يحق للدولة أن تقصر حق الملاحة الشاطئية، والصيد في بحرها الأقليمي على رعاياها فقط، وأن تمنع أي خرق لقوانينها أو أنظمتها الجمركية والضريبية.
أما في حال المنطقة الاقتصادية الخالصة، أو الجرف البحري، فلا تتمتع الدولة المعنية بالسيادة عليه، بل بحقوق استثمار للموارد الطبيعية التي تقع ضمن مجالها البحري، بعد التوافق على تقاسم المساحات بين الدول المتجاورة سواء كانت متقابلة أو متلاصقة. وتبقى حرية الحركة مشتركة.
من هنا فإن تنازل دولة عن حقوقها التي يعترف لها بها القانون الدولي، يعتبر تنازل عن السيادة، على الأقل فيما يتعلق بمياهها الإقليمية، بالإضافة إلى إمكانية أن يشكل ذلك تنازلا عن حقوقها في الموارد الطبيعية التي تحتويها المنطقة الاقتصادية الخالصة أو الجرف البحري سواء في قاع البحر أو تحت القاع.
تسوية المنازعات حول الحدود البحرية:
تنشئ عادة النزاعات حول تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة أو الجرف القاري بين الدول التقابلة أو المتلاصقة، نظراً لأهمية هذه المساحات من النواحي الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية. لذلك فقد تضمنت اتفاقية جنيڤ لعام 1958م حول الجرف القاري، كما اتفاقية قانون البحار لعام 1982م نصوصا تبين أصول تعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة أو الجرف القاري بين دولتين أو أكثر، ذات سواحل متقابلة أو متلاصقة بواسطة خط الوسط، أو بتطبيق مبدأ الأبعاد المتساوية الذي تبعد كل نقطة فيه بعداً متساوياً عن أقرب النقاط على خطوط الأساس، التي ينطلق منها قياس عرض البحر الإقليمي لكلٍ من هذه الدول. هذا إذا لم تتوصل الأطراف المعنية إلى اتفاق منصف فيما بينها، أو إذا كانت هنالك ظروف خاصة تبرّر تحديدا آخرا كوجود الجزر، أو ظروف ملاحية لها علاقة بالصيد، أو باعتماد السكان على الجرف لتلبية حاجاتهم الغذائية وغير ذلك.
في حال لم تتفق الأطراف على تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القاري وفق قاعدة خط الوسط أو مبدأ الأبعاد المتساوية، يمكن عندئذٍ اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، أو تطبيق أي إجراء آخر لتسوية النزاع بين الدول المتنازعة (المادة /6/ من اتفاقية جنيڤ لعام 1958م حول الجرف القاري، والمادة /82/ من اتفاقية عام 1982م حول قانون البحار). وبالفعل، فقد خضعت العديد من قضايا النزاعات للتحكيم. كما تولّت محكمة العدل الدولية النظر في العديد من دعاوى، منها: الأحكام الصادرة في عام 1969م حول بحر الشمال، وعام 1982م في القضية الليبية/التونسية، وعام 1984م بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية، وفي عام 1985 بين ليبيا ومالطا. وقد تمّ اعتماد مبادىء العدالة والإنصاف، أو مبدأ الأبعاد المتساوية أو خط الوسط، كحلّ للنزاعات المطروحة.
في المسؤوليات:
ماذا لو تنازلت دولة ما عن حقوقها في مياهها البحرية الإقليمية ومنطقتها الاقتصادية الخالصة، أو حقوقها في الجرف القاري، أو فاوضت أو خضعت للابتزاز أو للإكراه فيما يتعلق بترسيم حدودها البحرية؟
تتحمل السلطات صاحبة الاختصاص المسؤولية تجاه أي خطئ أو تنازل عن حدودها البحرية، التي تستتبع تنازلا عن السيادة فيما يتعلق بمياهها البحرية الإقليمية، بالإضافة عن تنازلها عن موارد بحرية ممكن أن تحتويها المنطقة الاقتصادية الخالصة، أو الجرف البحري.
ففيما يتعلق بالمياه الإقليمية البحرية، من المعروف قانونا، أن الحدود البحرية تتبع الحدود البرية، وتكون السيادة ليس فقط فوق الماء بل في الجو فوق البحر الإقليمي، وأيضا في عمق المياه وقعر البحر وما تحته. إذا، في حال التنازل عن مساحات من المنطقة الداخلة ضمن الحدود القانونية والشرعية للبلد المعني، سيكون لذلك انعكاسات سلبية على الصعيد الأمني والاستراتيجي، كما على الصعيد الاقتصادي. حيث ستخسر الدولة المتنازلة عن حقوقها الطبيعية في الصيد، والمناطق السياحية، وغيرها، كما ستكون عرضة لانتهاك سيادتها في الجو فوق المنطقة المتنازل عنها، كذلك داخل المياه وفي قعرها وتحت القعر، ما يشكل تهديدا لأمنها وسلامة أراضيها وشعبها.
أما فيما يتعلق بالمنطقة الاقتصادية الخالصة، أو الجرف القاري، فرغم أن ذلك لا يشكل تنازلا عن السيادة، نظرا لعدم خضوع تلك المنطقة للسيادة الدولة المعنية، فإنها تكون قد تنازلت عن الثروات والموارد الطبيعية التي تعود لها حكما، والتي هي من حق أجيالها.
بناء على ما تقدم، فإن أي تنازل عن الحدود البحرية يحمل السلطة صاحبة الصلاحية في اتخاذ القرار في هذا الشأن مسؤولية فعلها، لدرجة أن هذا التنازل يمكن أن يشكل خيانة وطنية.
هل تفقد الدولة حقها في حدودها القانونية، أو في مواردها الطبيعية؟
السؤال الذي يجب أن يطرح أخيرا: هل أن الدولة، التي تمّ ترسيم حدودها بشكل مجحف بالنسبة لها، تفقد حقها في المساحات البحرية، سواء التابعة لمياهها البحرية الإقليمية، أو لمنطقتها الاقتصادية الخالصة، أو لجرفها القاري؟
الجواب على هذا السؤال يعتمد على طبيعة الفعل الصادر عن الدولة المعنية، والوضعية القانونية لمكن كان يمثلها من أشخاص، مسؤولين عن التفاوض أو التنازل عن الحقوق.
هذه المسألة لها شق دولي يتعلق في إثارة دعوى أمام الجهات المختصّة، وهي إما محكمة العدل الدولية أو اللجوء إلى محكمين دوليين. أي أننا نكون أمام حالة نزاع. واللجوء إلى محكمة العدل الدولية، أو مكاتب التحكيم يتطلب رضا وتوافق الطرفين، أي الدولتين المعنيتين بالنزاع الحدودي. وهنا ستكون المسألة صعبة ومعقدة أمام الدولة التي تنازلت عن حقوقها، أو أكرهت على ذلك. فمن جهة، لا بد لتلك الدولة ممثلة بالمسؤولين ذوي الصلاحية في ذلك، من أن يثبتوا أن التنازل حصل بالفعل تحت الإكراه أو الظروف القاهرة، أو الابتزاز. في غير تلك الحالة، يجب على ممثلي الدولة إثبات أن المسؤولين عن فعل التنازل، لم يكونوا متمتعين بالشرعية اللازمة للقيام بفعل التفاوض، أو أنهم كانوا فاقدي الصفة التمثيلية للشعب؛ أو أنهم لم يكونوا متمتعين بالأهلية العقلية والإدراكية للقيام بذلك.
ماذا عن لبنان؟
سنجيب باختصار هنا، لأن أشخاصا ذوي كفاءة عالية قد أسهبوا في التفصيل بما يخص المفاوضات حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والعدو الإسرائيلي، بإمكان من يريد الاطلاع على ما يخص الترسيم، سواء من الناحية القانونية أو التقنية أو السياسية العودة إليهم(2)
وباختصار يمكننا القول هنا، أن الحدود البحرية للبنان يجب أت تتبع خط الحدود البرية (3)، وهذا الخط رسم من قبل دول الانتداب في اتفاقية بوليه ونيوكمب لعام 1922، والتي دخلت حيز التنفيذ في العام 1923، والذي يعتمد رأس الناقورة كنقطة أساس في ترسيم الحدود، وهذا ما قامت على أساسه اتفاقية الهدنة لعام بين لبنان وإسرائيل لعام 1949م (3). والامتداد التقني والفني لهذه الحدود يتطابق مع الخط 29، وبالتالي فإن الخط 29، ليس خط تفاوض بل هو خط حدود. ولا يمكن الاستخفاف بذلك كما يحلو لبعض السياسين فعله. فليس صحيحا أن ذلك يصح عليه المثل القائل: “نريد أن نأكل عنب لا نقتل الناطور”. ومع محبتكم، أو اهتمامكم بذلك الناطور الذي هو هنا العدو الإسرائيلي، فلا يجوز ولا يحق لأحد التنازل عن حقوق الشعب اللبناني. أما القائلين بأن الخط 23 هو الخط المطلوب، فقد تمت الإجابة على ذلك من قبل من اشتغل على موضوع الترسيم، ومن قبل المطلعين على مراحل قضية الترسيم، وظروف إطلاق الخط 23. وأما فيما يتعلق بخط هوف، والذي من المحتمل أن يتمسك به العدو الإسرائيلي، أو المفاوض الأميركي، كونه يستند إلى منطلق قانوني، فإنه يبطل حين نقارن بين المساحة التي يخسرها لبنان ومساحة الجزيرة التي يستند إليها الخط. يبقى أن نقطة الأساس في الترسيم هي نقطة رأس الناقورة التي ينطلق منها الخط 29.
بناء على ما تقدم، فإن أي تساهل أو تنازل عن حدود لبنان البحرية، ستؤدئ إلى تنازل عن السيادة فيما يتعلق بالمساحة الواقعة داخل الخط 29 بعرض 12 ميل بحري، أي عرض البحر الإقليمي، وتعريض أمن البلد للخطر، بالإضافة إلى خسران موارد بحرية كبيرة تقع ضمن المساحة الواقعة داخل الخط 29 والخط الذي سيعتمد كحد ترسيم في التفاوض اللبناني-الإسرائيلي.
يتحمل المسؤولون اللبنانيون ذوو الصلاحية في مسألة التفاوض، المسؤولية الكاملة عن نتيجة التفاوض، وهم هنا الحكومة مجتمعة، ورئيس الجمهورية المسؤول عن توقيع الاتفاقيات، ومجلس النواب في حال تصديقه على ترسيم غير منصف للبنان. ولا يتحمّل الفريق المفاووض المسؤولية، نظرا لأن موقفه واضح حيال الدفاع عن حقوق لبنان، وتمسكه بالخط 29، وبتعديل المرسوم 6433، ووجوب إيداعه لدى الأمم المتحدة. وبالتالي، فإن مسؤولية التقصير، أو التنازل عن الحقوق، والتي يمكن توصيفها بالخيانة الوطنية تلقى على عاتق الجهات السياسية المذكورة آنفا، وهي المسؤولة في نهاية المطاف عن التفاوض، حيث أن الوفد اللبناني المفاوض، وقد تمّ الحرص على أن يكون تقنيا، يقوم بعمله بتفويض من السلطة السياسية المعنية، وهي رئيس الجمهورية والحكومة ممثلة برئيسها.
أخيرا، إن الجهات السياسية المختلفة، من أحزاب أو شخصيات معنوية لا يمكنها التنصّل من المسؤولية بالقول أنها لا تتدخل، وأنها تحترم قرار السلطة السياسية المعنية. إن في ذلك هروب من المسؤولية. الوضع الصحيح، أن تدافع كل الجهات سواء كانت سياسية أو مدنية عن حقوق الشعب اللبناني بحدوده القانونية ومياهه البحرية الإقليمية، ومنطقته الاقتصادية الخالصة، وجرفه القاري وما تحويها تلك المساحات من موارد طبيعية وثروات، بالإضافة إلى الحقوق السياجية على البحر الإقليمي ومن يشكله التنازل عنه من خطر على أمن الدولة اللبنانية.
………..
(1) د. أحلام بيضون، “مفاوضات الناقورة هل هي لترسيم حدود أم لحلّ نزاع”، بيروت، 1920، منشور في عدة مواقع الكترونية.
(2) سنكتفي هنا، بالإحالة على الشروحات التقنية والقانونية الهامّة التي أفاض بتقديمها أعضاء الوفد اللبناني المفاوض، وخاصة رئيسه بسام ياسين؛ كذلك لا بد أن نحيل إلى الدكتور عصام خليفة في كل ما كتبه وشرحه حول حدود لبنان البرية والبحرية وعدم جواز التنازل عن الموارد البحرية التي هي من حق الشعب اللبناني.
(3) حول ترسيم الحدود البرية للبنان، وقاعدة :possidetis » Uti ، أحلام بيضون، “إشكالية السيادة والدولة، نموذج لبنان”، القسم الأو، الفصل الأول. مطبعة بيضون، بيروت، 2008.
أحلام بيضون/ بيروت/ 22/2/2022