القضية الروسية-الأوكرانية أحلام بيضون
أسئلة كثيرة، وتوقعات أكثر تثيرها الحرب الروسية في أوكرانيا. وحتى لا نطيل الكلام، بعدما كثر في هذا الموضوع، ونكون مسؤولين عما نكتب، حين تذيّل الكتابة بعبارة “هذا المقال يعبر عن رأي صاحبه، ولا يُلزم الناشر”، فإننا سنحاول قدر المستطاع أن نكون موضوعيين، ونعتمد على وقائع موثّقة، ومعطيات قانونية وتاريخية، بالإضافة إلى قراءة واقع العلاقات الدولية القائم. انطلاقا من ذلك، نطرح الأسئلة أو العناوين التالية:
1- ما علاقة أوكرانيا بروسيا؟
لإوكرانيا تاريخ مشترك مع روسيا (1)، منذ عهد الأمبراطورية الروسية أو روسيا القيصرية، فدائما كانت تشكل قسما من أرض الأباطرة، تحديدا منذ القرن السابع عشر. حتى أن عاصمتها كييف كانت تسمى “كييف روس”، وكانت أوكرانيا تسمى روسيا الصغرى، وهي مهد العرق السلافي المنتشر أيضا في روسيا وبيلاروسيا. ونحو 17% من سكان أوكرانيا هم من الروس، وثلث السكان يتحدثون اللغة الروسية، وهي احدى الجمهوريات الرئيسية التي تأسس، بموجب اتفاق بينها، الإتحاد السوفييتي السابق. وهي أيضا إحدى الدول الثلاث (روسيا وأوكرانيا وبلاروسيا) التي بادرت بتوقيع وثيقة الخروج من الاتحاد السوفياتي. حيث استقلت أوكرانيا، كما استقلت غيرها من جمهوريات الاتحاد، ولم يحدث ذلك توترا بين الدول حديثة الاستقلال، وما أصبح يسمى الإتحاد الروسي(2).
تتمتع أوكرانيا بموقع جغرافي هام، يطل على البحر الأسود وبحر آزوف، لذلك فإن مدنها الساحلية، خاصة أوديسّا اكتسبت أهمية كبرى، حيث تعتبر من أهم الموانئ البحرية. أوكرانيا جارة رئيسية لروسيا، وتتمتع بثروات وإمكانيات عسكرية وصناعية وزراعية واسعة وضخمة، وأما ثقافيا واجتماعيا، فيرتبط البلدان بعلاقات كبيرة، وخاصة في المناطق الحدودية. تشكل أوكرانيا من حيث الجغرافيا حدا فاصلا بين روسيا و”معسكر القوى الغربية”. كل هذه الأمور جعلت من أوكرانيا “حديقة خلفية” بالنسبة لموسكو التي لا تسمح ببساطة بتَحوّلها إلى “وصاية الغرب”، وبالتالي إلى شوكة في خاصرتها الغربية.
ما الوضعية القانونية لإوكرانيا؟
فيما يتعلق بالوضعية القانونية لأوكرانيا، هي إحدى الجمهوريات الأساسية للاتحاد السوفيتي السابق، وإحدى مؤسسيه، وإحدى جمهوريات ثلاث اتفقت على حلّه في العام 1991، بعد أن تبين أن الأمر أصبح واقعا. ربما يكون كل ذلك معروفا للمحللين، وأصحاب الرأي، ولكن يمكن أن يغيب عن بالهم أن أوكرانيا بالإضافة إلى بلاروسيا، من بين جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، كانت تشكل دول كاملة العضوية في الأمم المتحدة، منذ العام 1945، كذلك الأمر بالنسبة لبلاروسيا. وهكذا كان الاتحاد السوفيتي السابق يتمتع بثلاثة أصوات في المنظمة بين العام 1945 و1991(3).
ماذا يعني ذلك؟ يعني أنه كان لأوكرانيا أهمية في القرار في الاتحاد السوفيتي السابق، وهو ما تبين حين تم الاتفاق على حلّه في العام 1991، وكانت أوكرانيا من بين الدول التي قررت ذلك بالإضافة إلى روسيا وبلاروسيا.
أوكرانيا هي من الجمهوريات الأخيرة التي انفصلت عن الاتحاد السوفياتي السابق أي في العام 1991. حصلت أوكرانيا في عام 1994، على التزام موقع من روسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تعهدت فيه الدول الثلاث بحماية سيادة الدولة المستقلة حديثًا تحت بند “اتفاقية لاحترام استقلال وسيادة أوكرانيا المستقلة”، بموجب اتفاقية بودابيست، والتي تعتبر بمثابة “تطمينات أمنية” مقابل تخلّيها عن ترسانتها النووية، وإرسالها إلى روسيا لتفكيكها مقابل ضمانات أمنية. من جهة ثانية، تمنع وثيقة الاستقلال لعام 1991 أوكرانيا من الإنضمام إلى الناتو، أساس الدولة الأوكرانية. جاء في قسم الأمن الخارجي والداخلي من وثيقة إعلان سيادة دولة أوكرانيا، المعتمدة في العام 1990: تعلن جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية رسميا عزمها على أن تصبح في المستقبل دولة محايدة بشكل دائم لا تشارك في الكتل العسكرية”. ومع اعتماد أول دستور لأوكرانيا في عام 1996، الذي أعلن استقلال البلاد، تم الحفاظ على الاستمرارية القانونية لهذه الجمهورية السوفيتية السابقة، بما فيها وضعية الحياد أو عدم الانحياز(4).
دخول أوكرانيا لعبة الصراع الغربي الشرقي
إن ما حصل في العام 1991، كان مهيَأ الظروف والخطط، لقد أنهى الاتحاد السوفيتي ومعه حلف وارسو كندٍّ للولايات المتحدة ومعها حلف الناتو، وأنهى سياسة القطبين، واستفردت الولايات المتحدة في الهيمنة على القرار الدولي، وبدأت تفرض إملاءات، وعند عدم الاستجابة، عقوبات حتى على الدول الكبرى من ضمنها الصين وروسيا الإتحادية التي عقبت الاتحاد السوفيتي. غير أن هذا الأمر كان سهلا في عهد بوريس يلتسن، لكنه ليس مقبولا في عصر بوتين، رجل المخابرات السوفيتية السابقة.
إن ما حصل في العام 1991، كان ذو وقع كبير على المستوى العالمي، فقد أنهى حقبة الحرب الباردة في السياسة الدولية، وأزال الثنائية القطبية في الهيمنة العالمية، وأحلّ محلها هيمنة القطب الواحد، اتلمتمثل في الولايات المتحدة الأميركية، الخصمة اللدودة للاتحاد السوفيتي السابق.
العام 1991، شهد قيام روسيا الاتحادية، التي اعتبرت الوريث المتبقي من الاتحاد السوفيتي السابق، بمساحة تقل بنسبة 24%، أي من 22,4 إلى 17 مليون كيلومتر مربع، كما خفّض عدد السكان بنسبة 49%، أي من 290 إلى 148 مليون نسمة. وبدأ تاريخ روسيا الحديث حيث أعلنت روسيا في هذا اليوم استقلالها كما هو حال جمهوريات سوفيتية الأخرى.
بالنسبة لبوتين يمكن أن نقول أنه أصبح رجل الاتحاد الروسي المطلق، بل قيصر روسيا منذ أن تولى منصب رئيس وزراء بلاده في عهد بوريس يلتسن، الكحولي والضعيف الشخصية، والذي شهد عهده تفسخ الاتحاد السوفيتي ومعه انهيار المعسكر الشرقي، أي حلف وارسو، حيث راحت دول أوروبا الشرقية تنضم تباعا إلى الاتحاد الأوروبي وتنضم أو تهدد بالانضمام لحلف الأطلسي. بوتين كان في الثلاثين من عمره يوم انهار بلده، وانتهى النظام الشيوعي. ولا يعني ان ما حصل قد أفرح الشعب الروسي بأكمله، كما لم يفرح على الأقل نصف سكان العالم، حيث أن الاتحاد السوفيتي السابق كان يحفظ نوعا من التوازن في العالم في مواجهة الولايات المتحدة وحلفها الغربي(5).
كان يمكن أن يستتب الأمر لو أن الولايات المتحدة الأميركية لم يصبها الجموح، وتشعر أنها أصبحت سيدة العالم دون منازع، وأصبح بإمكانها أن تملي سياستها على جميع البلدان صغيرها وكبيرها، وتعاملها كما يعامل السيد المستبد وغير العادل عبيده، فتصدر تعاليمها وأوامرها، وإلا فمصير الدول التي لا ينصاع زعماؤها، الغزو والدمار. في الفترة الأخيرة، وحين وجدت أن حروبها خارج حدودها هي مكلفة لها أيضا، ولا يمكنها أرضاخ الشعوب رغم ما تحدثه من جرائم ودمار، وهو ما سببته في العراق وأفغانستان وسوريا، لجأت إلى سياسة جديدة، وهي سياسة الحصار الاقتصادي والمالي، وبدأت توزع عقوباتها ليس على الدول الصغيرة فقط، بل أيضا على أقوى الدول والتي عَرفت تاريخا أمبراطوريا، مثل الصين وروسيا وإيران. ولكن، إذا كانت الدول الصغيرة ليس في يدها حيلة إلا المقاومة المحلية على أبعد تقدير، فإن الدول الكبرى تمتلك من القدرات ما يمكنها من أن تقف في وجه الهيمنة الأميركية، سواء على الصعيد الاقتصادي، أو المعاملة بالمثل، أو حتى تفجير الحروب والأزمات، إن لم تفعل ذلك مباشرة ضد الولايات المتحدة، فهي تفعل ذلك ضد الدول التي تدور في محورها.
الغرب الذي اشتغل جاهدا مخابراتيا لإيصال الاتحاد السوفيتي السابق إلى مرحلة التفسخ والانهيار، لم يكن ليفعل ذلك بعدوه السابق، لولا أهدافه المبيتة، وفق خطط مرسومة سابقة، وهي تتمثل في الحرص على إبقاء الاتحاد الروسي المتبقي من الاتحاد السوفيتي السابق وحلف وارسو، دولة عادية على أكبر تقدير، لا تشكل خطرا على الغرب ومصالحه وإيديولوجيته وخططه للهيمنة على العالم. وحين نقول الغرب، فالمقصود أولا الولايات المتحدة الأميركية، التي أصبحت القطب المسيطر الوحيد بعد انهيار المعسكر الشرقي، وما الاتحاد الأوروبي سوى قوة تدور في الفلك الأميركي، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، سواء تلك المنتصرة التي كانت تشكل الدول الحليفة، أو تلك التي كانت تشكل “دول المحور”، وعلى مستوى العالم (6).
محاولات الغرب التوسع شرقا، أي نحو روسيا وما بعدها، ليس جديدا، فقد قام نبليون بحملة ضد روسيا، كانت ثلوج ذلك البلد كفيلة بإعلان ليس فقط هزيمته بل نهايته. وبعده حاول هتلر التوسع شرقا، كما حاول التوسع غربا، وكانت هزيمته قاضية. روسيا دولة كبرى وهامة، وأهميتها ليست حديثة العهد، فالامبراطورية الروسية التي سبقت الثورة الشيوعية وقيام الاتحاد السوفيتي السابق، كانت تبلغ مساحتها 22600000 كلم مربع، ويمتد تاريخها إلى القرن السادس عشر، مع اختلاف التسميات التي حملتها.
شكل انضمام دول المعسكر الشرقي السابق إلى الاتحاد الأوروبي إن لم يكن قانونيا، فعلى الأقل سياسيا، توسعا للحلف الغربي على حساب الاتحاد الروسي. وتشكل أوكرانيا آخر أحجار الدومنو، أو لنقل ملك رقعة الشطرنج التي سيشكل انضمامها إلى الناتو انتصارا كبيرا للمحور الغربي، بينما سيشكل ذلك بالمقابل تهديدا أمنيا مباشرا للاتحاد الروسي، لذلك فإن مسألة تحقيق رغبة السلطة في أوكرانيا بالانضمام إلى حلف الأطلسي أمر لم ولن تقبل به روسيا مطلقا.
إن مسألة تطويق روسيا وتهديدها لا يعنيها هي فقط بل يعني العالم بأسره. حيث أن ذك سيؤدي إلى استمرار هيمنة المعسكر الغربي تحت قيادة الولايات المتحدة الأميركية على العالم، والاستبداد به، واستغلال ثرواته لصالحها.
بالمقابل، إن نجاح روسيا في منع الغرب من التوسع شرقا يمثل تصدي للمخططات الغربية التوسعية، وإخراج العالم من تحكم القطب الواحد، ومن ثم إدخاله في نظام جديد متعدد الأقطاب، يمكن أن تتمتع، في ظله، الدول بالسيادة على مواردها الطبيعية، وقراراتها الوطنية، بعيدا عن الابتزاز والعقوبات. إن الاتيان على ذكر الموارد الطبيعية يجعلنا لا نغفل مسألة خط أنابيب الغاز تحت بحر البلطيق، والذي يسمى نورد ستريم 2 أو خط الشمال، والذي يرى فيه البعض سببا أساسيا لعدوانية الغرب، وأن العقبات التي توضع في وجه تشغيله، تشكل أحد ألأسباب التي جعلت روسيا تشن الحرب على أوكرانيا، المتضرر الأول من نشوئه، كونها تستفيد من مرور أنابيب الغاز القديمة ضمن أراضيها، وتشكل الرسوم موردا هاما من مواردها.
مراحل التوتر والذرائع الروسية للتدخل
منذ استقلال أوكرانيا عام 1991، شهدت العلاقات الأوكرانية الروسية كثيرا من أحداث وفترات التوتر، لكنها لم تبلغ حد العداء إلا في نهاية عام 2004، عندما اشتعلت في أوكرانيا ثورة برتقالية ميّالة نحو الغرب. عندها، دخل الغرب بقوة على خط العلاقات، داعما للثورة، لكن الحكم عاد بقوة إلى الموالين لروسيا في 2010.
وباندلاع احتجاجات “الميدان الأوروبي” في نهاية 2013، أخذ المشهد الأوكراني بُعدا آخرا، تعاظم فيه التوجه الغربي والدور القومي، على حساب انحسار أدوار وتأثير “الموالين لروسيا”.
لكن في العام 2014، وبحجة حماية الرعايا الروس، ضمت روسيا أراضي شبه جزيرة القرم، ودعمت حراكا انفصاليا عسكريا في إقليم دونباس شرق البلاد، وإن كانت تنفي ذلك الدعم جملة وتفصيلا.
ويرى كثيرون أن سبب “الضم والحرب” يعود إلى حقيقة أن روسيا لم تعد (بعد 2014) قادرة على إبقاء أوكرانيا في صفها سياسيا، وشعورها أن جنوح أوكرانيا المتعاظم نحو الغرب بات يشكل خطرا عليها، وخاصة أن كييف تخلت عن صفة عدم الانحياز التي تعهدت بها في وثيقة الاستقلال، وتسعى علنا إلى عضوية الناتو.
أوراق القوة والضعف في مسألة الصراع في أوكرانيا
كون أوكرانيا كانت تشكل أحدى الجمهوريات السوفياتية السابقة، ذات التاريخ القديم والتأسيسي في ذلك البلد، فإن روسيا التي تعتبر الدولة الحاضنة لتراث وتاريخ الاتحاد السوفيتي السابق، تمسك أوراق هامة فيما يتعلق بأوكرانية:
- فمن الناحية النفسية والعاطفية، لا شك أن علاقة أبوية تربط الشعب الأوكرني بروسيا، خاصة فيما يتعلق بالمكونات الناطقة باللغة الروسية، والملاصقة للأرض الروسية، والراغبة في العودة إلى أحضان الوطن الأم.
- من الناحية الاقتصادية، شكل مشروع “نورد ستريم 2” (Nord Stream2) تهديدا لشبكات نقل الغاز العابرة في الأرض الأوكرانية، حيث ستفقد البلاد موردا اقتصاديا هاما يتمثل في عائدات مرور الأنابيب.
- هناك خشية من قبل الاتحاد الروسي، من أن تشكل دول أوروبا الشرقية التي كانت تحت جناح الاتحاد السوفيتي السابق، كتلة مرتمية في أحضان الغرب، مهددة لأمن ومصالح روسيا، كونها تشكل طوقا له.
بالمقابل، هناك خشية من من قبل الغرب أن تعود روسيا وتجتذب تلك الدول بعوامل القوة والنفوذ، خاصة أن تلك الدول لم تشعر بالألفة التامة بانضمامها إلى الاتحاد الأوروربي الذي كانت تفصله عنها فروقات اقتصادية واجتماعية جمّة، وأنظمة سياسية مختلفة تماما، رغم الانتماء الجغرافي إلى نفس القارة؛ بينما
-على خلفية الأزمة الأوكرانية منذ سنة 2014، فرضت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا وغيرها كثيرا من العقوبات السياسية والاقتصادية على روسيا، التي أُبعدت بداية عن مجموعة “الثماني الكبار”، ثم عن المشاركة في أروقة “البرلمان الأوروبي”.
دعمت تلك الدول بالمقابل أوكرانيا بمساعدات مالية كبيرة، موجهة بشكل رئيسي نحو الإصلاحات الرامية إلى تطبيق معايير العضوية في الاتحاد الأوروبي والناتو، وكذلك نحو مجال مساعدة النازحين عن مناطق الحرب والتوتر. ولعل أكبر هذه المساعدات وأهمها كانت من الولايات المتحدة، وجاءت على شكل مساعدات عسكرية ونظم أسلحة وصواريخ (جافلين) وتدريبات مشتركة، بحجم بلغ نحو 2 مليار دولار، وفق السفارة الأميركية لدى أوكرانيا.
-مقابل ذلك، عمدت روسيا إلى حشد قواتها على حدود أوكرانيا، وهذا يعود إلى عدة عوامل ومستجدات، من أهمها: تغير الإدارة الأميركية، وتشدد إدارة بايدن مع موسكو فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، واحتمالات التدخل الروسي في الانتخابات، إضافة إلى تنامي العلاقات العسكرية بين أوكرانيا وتركيا، حيث باتت تركيا مصدرا رئيسيا للطائرات المسيرة بالنسبة للجيش الأوكراني، والعامل الأخير هو حملة أطلقتها السلطات الأوكرانية ضد نفوذ ورموز المعارضة الموالية لروسيا.
وهكذا أصبحت مسألة أوكرانيا، فرصة لاستعراض القوة بين موسكو وواشنطن، وتمظهر ذلك في التصريحات والاتهامات المتبادلة بين الجانبين، ليتطور إلى غزو روسي لإوكرانيا، مقابل رفع البطاقة الحمراء في وجه روسيا من قبل الغرب، مترجمة بعقوبات اقتصادية ومالية، وإعلان لدعم أوكرانيا على كل المستويات.
ما كشفته الحرب الأوكرانية
لم نكن نتصور أن بلادا عانت شعوبها من الطغيان النازي، وراح زعماؤها يتغنون بالديموقراطية وحقوق الإنسان، أن يصدر عن مثقفيها وسياسييها ما صدر من كلام عنصري وتميزي. لقد عبر العديد من الصحفيين والساسة عن حقيقة شعورهم، وهم يميزون بين ضحايا الحرب من النازحين الأوكرانيين وغيرهم من بلدان العالم الثالث. لقد بدت العنصرية واضحة في كلامهم الفوقي وعقدة التفوق، واستشفاف استنكارهم لأن يكون الضحايا بيضا وذوي عيون زرقاء، وأوروبيين مثلهم، مكملين أن النازحين ليسوا أفغانا أو سوريين أو عراقيين… بالمختصر، النازحون اليوم هم منهم وليسوا من “الأغيار”. “يا عيب الشوم” على هيك شعوب تدعي التحضر والإنسانية.
ما أكدته الحرب الأوكرانية هو قلة الضمير والإنصاف عند قادة العالم، خاصة الذين يدورون في الفلك الأميركي، حيث استثارت الحرب الروسية في أوكرانيا الإنسانية والإنصاف، والدفاع عن القانون الدولي. فجأة أصبح الجميع رسل سلام، ودعاة لحماية البشر والحجر والسيادة والاستقلال وحق الشعوب في تقرير المصير، فجأة أصبح بإمكانهم معاقبة “الغازي الروسي”، بينما كانوا ولا زالوا غائبين عن كل الانتهاكات التي ترتكب ضد الشعوب في مختلف أنحاء العالم، خاصة ما يسمى دول العالم الثالث، هذا إذا لم يكونوا هم المرتكبون والضالعون في العدوان والجرائم مباشرة. فمأساة الفلسطينين، لم تحرك لهم ساكنا، ولا مأساة اليمنيين، ولا العراقيين ولا الأفغان، كما أن انغماسهم في تدمير الدول من خلال ما عرف بالثورات الملونة أو الربيعية، أعتبروه مجلبة للديموقراطية، وحماية لحقوق الإنسان.
كشفت الحرب الأوكرانيا، أن الدول الكبرى لا تعمل إلا ما يصب في مصالحها، وأنه لا يمكن التعويل عليها من قبل الدول الصغرى التي تكون قد تلقت وعودا منها، أو أنه ترغب في أن تكون في حمايتها، فتدافع عنها، وتدخل الحرب من أجلها. لقد استنكرت الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، العدوان الروسي على أوكرانيا، وأعلنت كل دولة بما تستطيع، تقديم الدعم لها، بالسلاح أو استقبال النازحين، وأنزلت العقوبات على المعتدي، وهو برأيها روسيا، وتلك العقوبات اتصفت بأنها غير مسبوقة، وتهدف بإثناء روسيا عن الاستمرار بعمليتها العسكرية، والانسحاب. لكنها لم تقبل بفرض حضر جوي فوق أوكرانيا كما طالبها الرئيس الأوكراني، وبررت ذلك بأنها تخشى الاصطدام مع الروس. لقد كررت الدول المستنكرة للعملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، أنها ليست في حالة حرب مع روسيا، رغم رفضها للتدخل الروسي.
غيرة أن الملفت للنظر أن تلك الدول المستنكرة للعدوان على أوكرانيا، والتي تطلب من روسيا وقف العدوان، هي تساهم فيه فعليا، وتغذي الحرب وتجعلها تطول. فهي سارعت إلى تزويد القوات الأوكرانية بالعتاد والمعدات العسكرية، وشجعت على نزوح السكان، كما أنها نصحت الرئيس الأوكراني بصورة غير مباشرة بالخروج من أوكرانيا، حين أعلنت استعدادها لتوفير ملجئ آمن له وحمايته. فلو كانت تلك القوى لا ترغب في الحرب وتأجيجها واستمرارها، لكانت دعت إلى حلّ النزاع سلميا وفورا، مقدمة وساطتها من أجل ذلك، والتي تتمثل ببساطة، بحياد أوكرانيا، وعدم تشكيلها خطرا على روسيا حسب اعتبار تلك الأخيرة.
الدول الصغرى ولعبة الكبار
لقد أرادت أوكرانيا أو السلطة فيها حشر نفسها في الاتحاد الأوروبي لتثبت انتماءها، أو انفصالها عن الوطن السابق، المتمثل بالاتحاد السوفيتي، وربما كان ذلك بدافع نفسي أكثر منه سياسي إذا حللنا المسألة على ضوء العنوان السابق. غاب عن بال القيادة الأوكرانية أن الدب السوفيتي لا يمكن أن يتحول بين عشية وضحاها إلى حمار. بالمعنى السياسي والاستراتيجي، لا يمكن لدولة، ونعني هنا روسيا، كانت بالأمس القريب دولة عظمى، يحسب لها ألف حساب في الموازين العالمية، أن تقبل بسهولة وضعية الدولة العادية، التي تقبل الاملاءات وتكون تابعة لمحور من الدول الأقوى، خاصة وأن تلك الدولة لا زالت تمتلك من مفاعيل القوة والتأثير ما يسمح لها بفرض نفسها على مستوى القرار الدولي، إضافة إلى حاجة العالم إلى الخروج من هيمنة القطب الواحد.
قد انخدعت أوكرانيا كما غيرها من أنظمة غبية على مستوى الكرة الأرضية، بقيادة الولايات المتحدة للعالم، حين وجدت إدارة تلك الدولة توزع العقوبات على المسؤولين والدول بما فيها روسيا وقادتها وأثرياؤها. وأنه ليس باستطاعة الدول الخروج من تحت جناح النسر، وأن مصالحها تبقى محمية ما دامت تدور في فلكها، فكيف إذا أصبحت عضوا في حلف الناتو ومحسوبة على الكبار أو من ضمنهم!
لم يخطر ببال أوكرانيا كما غيرها أن الغطرسة الأميركية ستجد من يقف في وجهها، وأنه لا بد للإدارة الأميركية أن تضغط على الفرام أمام تهديد يضع الأمن والسلم العالمين في خطر قاتل، إلا إذا كانت تنوي تدهور الوضع إلى حرب عالمية ثالثة ستقضي على الجميع، في ظل التطور الهائل في آلات الدمار الحربي.
بينت الحرب في أوكرانيا أن الولايات المتحدة أظهرت مواقف ردع عن طريق فرض عقوبات غير مسبوقة على روسيا والروسيين، وجرتّ الدول التي تدور في فلكها أو تخشاها لفرض مثلها. لقد أظهرت موجة فرض العقوبات التي طالت الحجر والبشر أن المعسكر الغربي، وعلى رأسه الإدارة الأميركية، لا يعرف ماذا يفعل لإثبات أنه لا يزال يملك زمام قيادة العالم أمام الزحف الروسي على أوكرانيا، القابعة في حمى الغرب، وهو بالحقيقة هجوم على الغرب، وتحديدا على الولايات المتحدة وتصرفاتها المتمادية في فرض العقوبات على الدول، وكأن تلك الدول عبارة عن تلامذة أو عمال في مصنع أميركي. لقد فلت الدب الروسي من عقاله، وعلى القوى التي تظن أنها لا زالت مسؤولة عن قيادة العالم أن تعيده إلى الحظيرة، لتجنب مزيدا من الخطر الناتج عن انفلاته.
مقابل العقوبات هدد بوتين بالسلاح النووي، وهو أقسى ما يمكن أن يعبّر به عن مدى تصلبه في المواجهة للمحافظة على سيادة بلاده وأمنها. قابلت الولايات المتحدة ذلك، باستبعاد اللجوء إلى ذلك السلاح المدمر للجميع، كما أعلنت أنها لن تحظر الأجواء فوق أوكرانيا، أو أن ترسل جنودا، لأن أي صدام مع الروس سيؤدي إلى اندلاع حرب، وهو ما لا يريده الأميركان أو الغرب. وردّ بوتين الإشارة بأفضل منه، حيث أعلن أنه ليس لديه نية لاستعمال السلاح النووي. إذن هناك خطوط حمر لا يجوز تخطيها لأن الجميع لا يريد حربا عالمية ثالثة.
في لعبة الأمم الكبرى تلك، يفاجئونا بعض المسؤولين من دول صغرى حين يصدر عنهم تصرف يعبر عن عدم نضجهم السياسي، أو المعرفي فيما يدور حولهم في العالم، ولا حتى في المجال الاستراتيجي أو التكتيكي، فيتخذون مواقف غير مسؤولة، من شأنها أن تعرض بلادهم للخطر. المثال على عدم الوعي السياسي وعدم الثقافة الدبلوماسية، هو الموقف الذي تبنته السلطة اللبنانية على لسان وزير خارجيتها، وكرسته في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمتمثل بإدانة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وتوصيفها بالعدوان. لقد نسيت تلك السلطة أن لها مصالح مع روسيا كما لها مصالح مع أوكرانيا، وأن وضعها لا يسمح لها بدخول لعبة الكبار. لقد كان بإمكان تلك السلطة، أن تعلن وقوفها إلى جانب الحلّ السلمي، وتدعو الأطراف إلى حل النزاع سلميا، مذكرة أن الحرب لا تجلب سوى الويلات والخراب، وتجربة لبنان ومعاناته من جراء العدوان الإسرائيلي أكبر دليل على ذلك. كان ذلك يكفي أن يصدر عن دولة مثل لبنان، لم يصدر من روسيا أي موقف عدائي ضدها.
ما يتعلق بالمتوقع حول نتائج وتداعيات الحرب في أوكرانيا
لقد طغت أخبار الحرب الروسية ضد أوكرانيا على ما عداها من أخبار عالمية، نظرا لأهمية الحدث، فهو يضع وجها لوجه قوى كبرى، ويهدد الأمن والسلم الدوليين.
حرك ذلك مجلس الأمن، وعند تعطيل قراره بسبب الفيتو الروسي، تحركت الجمعية العامة للأمم المتحدة، واتخذت قرارا بإدانة العدوان الروسي ضد أوكرانيا بوصفها دولة مستقلّة. كذلك تمّ تحريك دعاوى أمام محكمة الجنايات الدولية، ضد جرائم ممكن أن تكون ارتكبت، ويتهم فيها الروس.
تعاضدت كل الدول الغربية، حتى تلك التي تتمتع بوضعية الحياد، كالنروج والدنمارك وسويسرا ، خرجت من حيادها كرمة لعيون الأوكران. بينما هناك دول سارعت للاستجابة إلى الاملاءات الغربية، فاصطفت إلى جانب أوكرانيا، أي في المعسكر الغربي ضمنا، كما فعلت السلطة في لبنان، مع أنه كان بإمكانها أن تتخذ موقفا أكثر دبلوماسية وحذر، يوفر لها أن تحفظ لبلد مثل لبنان، يمر بأزمة كبرى، أن يتنقل بين الأسلاك الشائكة دون أن يدمي قدميه. كان بإمكان تلك السلطة أن تدعو الأطراف المتنازعة إلى تغليب العقل والمنطق، وإلى الجنوح إلى السلام، بما يجنب القتل والتدمير وتهديد الأمن والسلم الدوليين.
الدول الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، ترمي من وراء العقوبات التي تمّ فرضها على روسيا إلى إضعافها، وربما إلى إثارة الشعب الروسي ضد سلطته. إنها الحرب غير المعلنة مباشرة، بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، وإلا كان بإمكان تلك الدول، لو كانت تحرص فعلا على الأمن والسلم الدوليين، وعلى سيادة أوكرانيا تحديدا، أن تحاول إيجاد حلّ مرض لروسيا دون أن يضرّ بالغرب، كأن تعلن مثلا أوكرانيا دولة محايدة.
كما كل الأزمات التي لا يمكن أن يكون فيها منتصر، ستشهد الحرب في أوكرانيا تسوية دولية تأخذ بعين الاعتبار الهواجس الروسية، دون أن تضر بالمصالح الغربية، سيكون الخاسر الأكبر في هذه الحرب أوكرانيا، التي يمكن أن لا تعود إلى وضعية الاستقلال التي كان يتمناها قسم من شعبها الذي يرغب بأن يشكل جزءا من العالم الغربي، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن قسما آخر من ذلك الشعب، ربما يحنّ إلى فترة انضوائه في دولة كبرى، وهي اليوم الاتحاد الروسي الذي حلّ محل الاتحاد السوفيتي السابق، الذي كان يحسب له حساب على الصعيد الدولي. سيتم تجزئة أوكرانيا، فيخضع القسم الشرقي منها للهيمنة الروسية، بينما يعلن حياد القسم الغربي، وعلى الأقل بقائه منزوع السلاح، وهذا ما تهدف إليه روسيا من خلال سيطرتها على قواعد الطاقة النووية.
يقول البعض، أن روسيا قد استدرجت إلى المستنقع الأوكراني، وأن جيشها سيستنزف هناك، وأن حرب شوارع ستنشأ، والمقاومة الأوكرانية قادرة على إعاقة الأهداف الروسية، وإطالت الحرب.
ويتوقع البعض الآخر أن تكون الحرب في أوكرانيا بداية لحرب عالمية ثالثة، فهي تعتبر تمهيدا، بل تشجيعا للصين كي تستعيد سيطرتها على تيوان، والتي تعتبرها جزء لا يتجزء منها. وأن ذلك سيجلب صراعا غربيا صينيا. كما يتوقع البعض خطوة غير محسوبة من كوريا الشمالية، حليفة روسيا.
حسب تقديرنا، أن تسوية ما ستتم على المستوى الدولي أيضا بهذا الخصوص، تأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول الكبرى.
يمكن أن نقول أن ما يصدر عن الغرب بشأن الأزمة الأوكرانيا لا يتعدى كونه تهويلا، يقصد منه تصعيب الحملة الروسية ضد أوكرانيا، ومحاولة من قبل الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها من دول غربية أو غير غربية، بإظهار قدرتها للوقوف ضد انتهاك سيادة الدول، خاصة إذا كانت تلك الدول تعتبر من ذوات الدم الأزرق، أو ميالة نحو الغرب.
هناك إذن المزاج المتعاكس، يتمثل في سعي كل من الغرب وروسيا لاستغلال الوضع لصالحه، فالغرب ينمي في أوكرانيا عقدة العرق والانتماء الأوروبي الغربي، بهدف إدخالها ضمن نطاقه، واستمرار التوسع شرقا دافعا النفوذ الروسي في الوقت ذاته نحو الخلف؛ أما روسيا فتتمسك بكون أوكرانيا كانت تمثل جزء من الاتحاد السوفيتي السابق، وجمهورية أساسية من جمهورياته، وهي تسعى للاحتفاظ بها داخل كنفها، بحيث لا تتغير وضعيتها القانونية الحيادية، وترتمي في أحضان الغرب وتشكل خطرا أمنيا كبيرا عليها.
في الحقيقة، تحرص تلك الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، بأن لا يتدهور الوضع إلى حرب عالمية، وأنّ تسوية في نهاية المطاف ستتم، يبرز ذلك من خلال العرض السريع على الرئيس الأوكراني، ومنذ الساعات الأولى للهجوم الروسي، باستعداد دول المعسكر الغربي لتسهيل خروجه من أوكرانيا، وقد ردّ على ذلك في حينه، بأنه يحتاج إلى دعم وليس إلى هروب. حرصت الدول الغربية أيضا، على عدم التدخل مباشرة، فهي وعدت بتزويد السلطة الأوكرانية بالأسلحة الدفاعية، كما سهلت استقبال النازحين.
سارعت السلطة في أوكرانيا إلى تقديم طلب رسمي للإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي وافق عليه ثمانية دول أعضاء، ما يعتبر غير كاف لإنضمامها. أما فيما يتعلق بانضمامها لحلف الناتو، الذي يشكل خطا أحمرا بالنسبة لروسيا، فقد أعلن الرئيسي الأوكراني صراحة أنه ليس عضوا في الناتو، كما أن الولايات المتحدة، ودول أوروبا تعتبر أن مسألة ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو أمرا مستبعدا.
أما الحرص الثالث، فهو يتعلق بعدم فرض عقوبات على قطاع الطاقة الروسي، وأما سبب ذلك فهو أن المتضرر الأكبر سيكون الدول الغربية المستفيدة من الغاز الروسي.
غير أن الافت هو مسارعة الدول وخاصة الولايات المتحدة، إلى وضع اليد على أموال ليس الدولة الروسية فحسب، من خلال شركاتها العامة العابرة للحدود، أو مسؤوليها السياسيين، بل نهب أموال أثريائها، بحجة اتهامهم بمساندة النظام الروسي، أو الرئيس الروسي.
هل الحرب الروسية في أوكرانيا ستؤدي إلى تغيير موازين القوى، وبالتالي المساهمة في خلق نظام عالمي جديد، تحلّ فيه الأقطاب المتعددة، محلّ القطب الواحد؟ الجواب لا يحتاج إلى عناء، بعد أن تهيأت كل الظروف اللازمة لذلك، من بينها التحالفات التي تتم بين الدول الكبرى المنافسة للولايات المتحدة، خاصة الصين وروسيا، والامتعاض الذي تسببه الغطرسة الأميركية على الصعيد الأوروبي، والحروب التي قامت بها الولايات المتحدة أو افتعلتها في مختلف البلدان. أما على الصعيد الاقتصادي والمالي، فالولايات المتحدة لم تعد هي الدولة الكبرى الوحيدة، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الديون العامة الهائلة المتراكمة عليها، دون أن يعني ذلك أنها فقدت قوتها أو هيمنتها كدولة كبرى.
بانتظار كل تلك التوقعات، ثمة نتائج لا يمكن لأحد أن ينكرها، وهي تتمثل في تدمير أوكرانيا، وبأزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة على صعيد العالم، ستصيب ليس فقط الأطراف المتحاربة، وليس فقط من تنزل بهم العقوبات، بل أيضا الدول نفسها التي فرضت العقوبات، وكل الدول التي لا تتمتع باكتفاء ذاتي على صعيد الحاجات الغذائية والإمداد بالطاقة، وسيكون لبنان حتما من بين تلك البلدان.
ما موققف القانون الدولي؟
لا بد في النهاية من الكلام عن نظرة القانون الدولي فيما يتعلق بالحرب ضد أوكرانيا. فالقانون هو نص لا يحتمل الاجتهاد في بعض مندرجاته، مثل تلك المتعلقة بحظر اللجوء إلى استعمال القوة في العلاقات الدولية إلا في حالة الدفاع عن النفس، وبوجوب حلّ النزاعات الدولية سلميا.
نص القانون واضح فيما يتعلق بتوصيف العدوان، إنه اللجوء غير المبرر لاستعمال القوة، ولكي ينسب فعل العدوان إلى دولة يجب أن تكون قد بادرت إلى فعل ذلك، أو إلى التهديد بفعله. روسيا لم تهدد كلاميا بالعدوان، رغم أنها حشدت قواتها على الحدود الأوكرانية، وهذا بحدّ ذاته يعتبر تهديدا، بل باشرت بالعدوان. وذلك حين شنت قواتها الحربية هجوما ضد أوكرانيا من البحر والبر والجو، أسمته “عملية عسكرية خاصة”، ولم تقل محدودة. أوكرانيا كما أسلف وبينا، هي منذ العام 1991 دولة مستقلة كما هو الحال بالنسبة لروسيا الاتحادية. وهي أيضا دولة عضو في منظمة الأمم المتحدة منذ العام 1945، بما يجعل ما تقوم به روسيا عدوانا ضد دولة ذات سيادة، والعدوان هو أكبر الجرائم الدولية لما يشكله من قتل ودمار ضد الدولة المستهدفة وشعبها ومواردها وبناها التحتية.
هل تستطيع روسيا أن تبرر فعلها، أو تنفي توصيف العدوان عنه، وذلك من خلال جعله دفاعا مشروعا عن النفس؟ بالطبع لا، فليس بإمكان روسيا أن تقول أنها تدافع عن نفسها، فلكي تكون في حالة دفاع عن النفس، يجب أن تكون “فعليا” “effectivement” ضحية لعمل عدواني من قبل أوكرانيا أو أي قوة أخرى تعمل من خلال الأراضي الأوكرانية. غير أنه بإمكان روسيا أن تدعي بأنه كانت مهددة بالعدوان، أو بوضع على الحدود يجعل أمنها وسلامة أراضيها وسيادتها بخطر. السؤوال هل ذلك يكفي كي تبادر روسيا بشن حرب ذد أوكرانيا؟ الجواب القانوني لا. إن القانون الدولي يدعو لحلّ النزاعات سلميا، وهذا ما كان يجب أن يحصل، لكن الدول التي كان بإمكانها أن تجنب روسيا هذه الحرب لم تعمد إلى ذلك، بل بالعكس، لجأت على تحريض أوكرانيا كي تأخذ مواقف مثيرة لغضب روسيا، كما عمدت إلى تحدي روسيا ومضايقتها، وفرض عقوبات عليها. كذلك الأمر بالنسبة لأوكرانيا الدولة المستهدفة، فرغم احتواء وثيقة استقلالها على عدم تشكيل خطر على روسيا، والتزام عدم الانحياز، فقد تعنت رئيسها في محاولاته الانضمام إلى حلف الناتو، كما يتهم النظام الأوكراني بأنه يسعى لامتلاك سلاح نووي.
هل ستعاقب روسيا على عدوانها على أوكرانيا؟ الجواب يخضع لموازين القوى، رغم أن أميركا ومعسكرها فرضت عقوبات على روسيا منذ اليوم الأول للهجوم، ورغم اتخاذ خطوات لمحاسبة المسؤوليين الروس أمام المحكمة الجنائية الدولية.
إن القانون غير السياسة والواقع، وباختصار النظام الدولي هو قائم فعليا على الواقع وليس على فعل القانون، أي على منطق القوة. إن القوة هي التي تنتصر في النهاية. وبين الولايات المتحدة وروسيا “ما فيه حدا أفضل من حدا”، كما يقول المثل في بلادنا.
أحلام بيضون/بيروت/7/3/2022