معضلة الهوية على ضوء التربية في لبنان
أحلام بيضون
إنّ بناء الدول ليس عملا مجردا يخلق من العدم، بل لا بد لقيامها من وجود مجتمع متجانس، يؤمن بانتمائه إلى إقليم بلده الجغرافي، ويشعر أبناؤه بأنهم يتشاركون بخصائص مشتركة، ونفس المهددات، ونفس فرص العيش والتنمية، ويرغبون في البقاء معا ضمن حدود معينة.
بناء على هذه المعطيات، يتمّ تشكيل جسما بشريا يمثل الجماعة، ويعبر عن رغباتها، وإذا كانت الظروف الدولية مهيئة، فسيتحقق لتلك المجموعة البشرية، أن تتشكل في كيان اعتباري قانوني، وتحوز على اعتراف المجتمع الدولي بها.
غير أن السؤال حول المصير والكيان يبقى مطروحا، خاصة بالنسبة للدول التي تشكلت بكيفية تلبي سياسة خارجية متفوقة، كما حصل بالنسبة لأغلب البلدان، التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، ومن جملتها لبنان.
ومن دون أن نعود إلى التاريخ (1)، وقد كتب الكثير عنه، سننطلق من المعطى الحاضر وهو أن لبنان يشكّل دولة بالمعنى القانوني للكلمة، فله دستور ويشغل كرسيا في منظمة الأمم المتحدة. لكن بالمعنى الحقيقي، لبنان لم يشكل حتى الآن دولة، باعتبار أن الدولة يجب أن تشكلَ كيانا مستقلا ذو سيادة، مكتفيا ذاتيا بالحدّ الأدنى، يجمع بين مواطنية شعور بالانتماء إليه، أي تجمعهم هوية وطنية واحدة، وتربطهم نفس الحقوق ولواجبات.
لسوء الحظ، بدل أن تتبدل المواقف المختلفة من الدولة التي كان يرغب بها اللبنانيون، ويخلق لديهم جميعا شعورا حقيقيا بتلك الرغبة، أخذوا يبتعدون أكثر عن القواسم المشتركة، وكان المسؤول الأول عن ذلك الحكومات التي تولّت إدارة البلاد. فبدل أن يتمّ السعي لخلق مواطنين لبنانيين متجانسين، عن طريق التربية، ونفس المناهج التعليمية، تمّ العمل على تأكيد اختلافاتهم، وإثارة نوازعهم التي تؤدي إلى تفرقتهم وليس إلى توحّدهم.
بداية كان هناك المدارس الخاصة التي تديرها إرساليات أجنبية، فرنسية تحديدا، وتشرف عليها الرهبنة المسيحية، كما كان هناك مدارس إسلامية محدودة، ونشأ إلى جانبها المدرسة الرسمية. بطبيعة الحال، من سيذهب إلى المدارس الخاصة، كان الطلاب الذين باستطاعة أهلهم دفع الأقساط المدرسية لهم، غير أنه يجب لفت الانتباه، أن مدارس الراهبان والراهبات، كانت أيضا تستقبل طلابا من نفس الطائفة، ليس بإمكان أهلهم إلحاقهم بالمدارس، لقاء بعض الأعمال البسيطة في المدرسة. لقد ضمت الرهبانيات بين جدرانها أيضا أولاد العائلات المسلمة الميسورة من اللبنانيين، غير أن العدد الأكبر من الطلاب كانوا من نصيب المدارس الرسمية. ما يهمنا هنا هو البرامج التعليمية التي تعتمد من قبل المدارس، حيث أنه لم يكن هناك كتاب مدرسي موحّد، ولا مناهج موحّدة، بل كانت المناهج بين المدارس الخاصة والمدارس الرسمية تختلف بالعمق. كان من شأن ذلك أن ينتج أجيالا غير متشابهة من حيث التكوين المعرفي، والمفاهيم حول الوطن وطبيعة الولاءات. خرّجت المدارس الرسمية، ومن ثمة الجامعة اللبنانية، أجيالا ذوي ميول يسارية وتطلعات عروبية، بينما خرّجت الارساليات والجامعات الخاصة أجيالا ذوي ميول يمينية وتطلعات غربية. ما يعني أن ما كان يفرق اللبنانيين يوم قيام دولة لبنان الكبير أصبح أكثر تجسّدا وتكريسا عمليا.
سبّب ذلك الإنقسام، بالإضافة طبعا لأسباب أخرى لن نعود إليها هنا (1)، الحرب الأهلية التي استمرت خمسة عشر سنة، وانتهت، مبدئيا، باتفاق الطائف. غير أن الظروف التي أنتجتها الحرب الأهلية، بالإضافة الي المتغيرات الإقليمية، وما أنتجته الثورة الإيرانية، قد أدّت إلى ظهور مكون شيعي قوي، يتمحور حول تيار المقاومة، ويتميز بتطلعات خصوصية وإيديولوجية. لم يمضِ الكثير من الوقت، حتى أصبح للمكون المذكور مؤسساته ومدارسه الخاصة، وبطبيعة الحال مناهجه الخاصة.
كما بالنسبة للمكون المسيحي، والشيعي، لم تغب عن ذهن الشيخ رفيق الحريري ومستشاريه، أهمية التربية والتعليم، فكان أول ما قام به يوم عاد إلى لبنان من السعودية، هو إنشاء المدارس، وجامعة خاصة به، ترافق ذلك مع إرسال الطلاب في بعثات تعليمية وتخصصية إلى الخارج. وحتى نكون منصفين، فهو لم يخص طائفته، أي السّنة بذلك، بل تمّ قبول طلاب من طوائف مختلفة. لم يطل الوقت، حتى بدأت تلك المدارس تأخذ لونا طائفيا معينا، كما غيرها.
ما أردنا أن نقوله هنا، أن لبنان، الذي كان يشكو منذ نشأته من رغبات مختلفة عند مواطنيه فيما يتعلق بالدولة التي يتطلعون إليها، لم يستطع أن يخلق مجتمعا أكثر تجانسا على هذا المستوى، أي لم يرب مواطنين ذوي هوية وطنية واحدة، بل إنه رسميا، لا زال يرفض إلغاء الهوية الطائفية، التي تبنى عليها التركيبة السياسية.
لقد سببت حرية التعليم وإنشاء المدارس والجامعات الخاصة في لبنان، بناء مواطنين مختلفين، لا يتجاورون سوى في عادات الأكل والضيافة والهجرة، والمصائب التي وقعت على رؤوسهم جميعا بسبب النظام الطائفي الفاسد. وهكذا، فبدل أن يخفف النظام التربيوي والتعليمي في لبنان من حدة التربية العائلية فيما يتعلق بخلق مواطن متمايز طائفيا، ساهم في تركيز وتأكيد ذلك. لقد بقي الانقسام واضحا سواء فيما يتعلق بالقناعات حول النظام في الداخل، أو فيما يتعلق بعلاقات لبنان في الخارج.
خلاصة القول، أن النظام التربوي والتعليمي في لبنان يجب أن يعاد النظر فيه من الأساس، ويجب أن يوضع حدا للتعليم الخاص، وإن يكن من أهم أسباب نمو هذا القطاع، هو إهمال الدولة لقطاع التعليم الرسمي.
……………
(1) كتابنا، “إشكالية السيادة والدولة، نموذج لبنان، الفصل التمهيدي، والقسم الأول، الفسل الأول، مطابع يوسف بيضون، بيروت، 2008، (600 ص)
(2) المرجع السابق، القسم الأول، الفصل الأول؛ بالإضافة إلى عدة أبحاث حول الطائفية.
أحلام بيضون/28/3/2022