مقالات

صدام الحضارتين الأوراسية والغربية..الأسوأ لم يأتِ بعد

أصبح النزاع الروسي الأوكراني الحدث المركزي في الحياة الدولية. إضافةً إلى ذلك، فإنه يتطور بسرعة إلى مواجهة حضارات على المستوى العالمي، سوف يستلزم استكمالها تغييرات جوهرية في التعامل مع النظام العالمي الحالي القائم لثلاثة عقود منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.

إن شراسة هجمات الغرب على روسيا غير مسبوقة، ويقول مسؤولون في العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة إن هدفهم هو إضعاف روسيا وإزاحة بوتين من السلطة. ولا تتجاوز حدة تصريحات الشخصيات الغربية حدود اللياقة الدبلوماسية فحسب، بل تمثل كذلك مظهراً من مظاهر الحقد الصريح والفظاظة المكشوفة.

لعدة عقود من القرن العشرين، كان الصراع بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة ذا طبيعة أيديولوجية. خلال أزمة الصواريخ الكوبية، كان العالم على شفا حرب نووية. ومع ذلك، ونتيجة للمفاوضات الصعبة، والدراماتيكية في بعض الأحيان، جرى التوصل إلى حل وسط يناسب كلا الجانبين. وليس من نافل القول أن نتذكر أن روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا كانوا حلفاء خلال الحرب العالمية الثانية ضد الفاشية الألمانية.

وقد بدا كأن انهيار الاتحاد السوفياتي وانتقال اقتصادنا إلى سكة النظام الرأسمالي قضيا على السبب الرئيسي للمواجهة، وهو الصراع الذي لا يمكن التوفيق فيه بين الرأسمالية والاشتراكية، لكن الآن، برزت تناقضات أعمق وذات طبيعة حضارية إلى الواجهة. في تشبيه مبسط إلى حد ما، يمكننا القول إن المجتمع الغربي مبني بشكل أساسي على مبادئ الفردية، بينما نحن والصين نميل أكثر نحو المبادئ الجماعية. في الوقت نفسه، لا تفسر هذه الاختلافات على الإطلاق حتمية صدام الحضارات، فضلاً عن أن تزايد المشاكل والتحديات العالمية، على العكس من ذلك، يتطلب تعاوناً وتفاعلاً على نطاق واسع.

لم يتمكن الغرب، الذي حدد خلال القرون الخمسة الماضية مسار التنمية العالمية وزاد من إمكاناته بشكل كبير، نتيجة للاستغلال الذي لا يرحم البلدان النامية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، من أن يتصالح مع التوازن الجديد للقوى على كوكب الأرض. أعلنت العديد من الدول أنها لا تريد اتباع إملاءات القوى الغربية، بل تريد بناء حياتها الخاصة واتباع سياسة مستقلة.

ساهم التعزيز السريع للاقتصاد الصيني، وتقوية القوة العسكرية لروسيا، والإجراءات الأكثر جرأة لعدد من القوى الكبرى – الهند والبرازيل وإيران وتركيا وإندونيسيا وغيرها – بشكل موضوعي في إضعاف موقف الغرب وقدراته الاقتصادية. هذه العملية تكتسب زخماً، ويشعر العالم الغربي بأنّ هيمنته ستختفي بسرعة، وهو ما يفسر إلى حد كبير الهجمات العنيفة على روسيا والصين.

وقد أشار عالم السياسة الأميركي البارز صموئيل هنتنغتون في كتابه “صراع الحضارات” إلى أن الغرب، في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، سوف يتصدى في الدرجة الأولى للإسلام؛ الدين المتحمس، الذي غالباً ما يلقي ممثلوه باللوم على القوى الغربية في كل مشاكلهم. في الوقت نفسه، تنبأ العالم الأميركي أيضاً بأن كل هذه الحضارات ستتحد في النهاية ضد الغرب.

ومن المناسب أن نتذكر هنا الجغرافي الإنكليزي البارز هالفورد جون ماكيندر، الذي أكد في بداية القرن العشرين أن مركز التنمية العالمية سينتقل إلى أوراسيا. ووفقاً له، من يسيطر على أوراسيا سيحدد سياسة الكوكب بأسره. لم يكن ماكيندر من مؤيدي روسيا، بل حاول تقسيم الاتحاد السوفياتي في العام 1919، عندما عمل في القوات البريطانية المحتلة في باكو. في الوقت نفسه، أقر بأن روسيا هي مركز أوراسيا، وبالتالي فإن مقدراً لها أن تؤدي دوراً حاسماً في تحديد سياسة المستقبل.

في العام 2017، نُشر كتاب من تأليف تيم مارشال -أحد متابعي ماكيندر الجدد- تحت عنوان “سجناء الجغرافيا (10 خرائط ستخبرك بكل ما تحتاجه لمعرفة السياسة العالمية)”. يشير هذا الكتاب إلى أنَّ الأحداث الجارية في المسرح العالمي، والتي تطورت إلى تفاقم خطر للعلاقات بين الغرب من جهة، وروسيا والصين من جهة أخرى، ترجع إلى حد كبير إلى خصوصيات موقعهم الجغرافي، وليس إلى الأخطاء أو الطموحات الشخصية لهؤلاء القادة أو غيرهم.

وكما يبدو، ليس من قبيل المصادفة، ومن غير المألوف في الغرب، التركيز على جوهر نظرية ماكيندر، والتي وفقاً لها، وضعت الطبيعة نفسها روسيا في “قلب الأرض”. ومن هنا النوع الفريد من الحضارة التي نشأت على أراضيها. بالطبع، لا يمكن للغرب أن يوافق على مثل هذه الاستنتاجات. من هنا، نشأ الغضب والمرارة غير المسبوقة من الهجمات على روسيا.

يتنبأ بعض قادة الدول الغربية بطرق مختلفة بانهيار الدولة الروسية والهزيمة الحتمية في الصراع الأوكراني، والأهم من ذلك تنحية الرئيس الحالي من السلطة. هذه حالة تقليدية يقوم فيها خصومنا بتقديم التمنيات على الواقع.

على المدى القصير، سيتعاظم دور روسيا. يستند هذا الاستنتاج بشكل أساسي إلى الحقائق الست التالية التي نتمع بها كروس:

– أحد أكثر السكان تعليماً في العالم.

– احتياطيات ضخمة من موارد الطاقة (النفط والغاز والفحم).

– يوجد في أراضينا الجدول الدوري بالكامل تقريباً (المعادن).

– تفوقنا على الغرب بأحدث أنواع الأسلحة (صواريخ فرط صوتية).

– ¼ من احتياطيات المياه العذبة في العالم تقع على أراضينا (2 مليون نهر، 2 مليون بحيرة، بما فيها الأعمق في العالم – بحيرة بايكال).

– نحصل على صادرات الحبوب أكثر مما نحصل عليه من تصدير الأسلحة (سيكون محصول الحبوب هذا العام 130 مليون طن، بما في ذلك 87 مليون طن من القمح، وازدادت المساحة المزروعة بالمحاصيل الزراعية إلى 80 مليون هكتار).

إن عدم الوضوح الذي يكتنف الوضع الحالي والمحفوف بأعمق الصدمات، في الواقع، ووفقاً للعديد من المحللين الجادين، يحمل في طياته خطر نشوب حرب نووية، يدفع بعض المحللين والصحافيين ذوي التفكير العميق نحو رؤية أكثر موضوعية تجاه الأحداث الجارية. في الوقت نفسه، يرى المراقبون الأميركيون المزيد والمزيد من مبررات التشاؤم، مؤكدين الخطر المتزايد لاندلاع حرب نووية.

ويشير المعلق الأميركي الشهير بريت ستيفنز إلى أن العزاء الرئيسي للولايات المتحدة يجب أن يكون في أن “خصوم أميركا هشون”. في المقام الأول، الحديث يدور هنا عن روسيا والصين. وفي رأيه، حتى لو قدمت روسيا غزو أوكرانيا على أنه انتصار تقريباً، فلن تكون قادرة على إلغاء كيانها. في النهاية، سيصبح هذا البلد عضواً في الناتو والاتحاد الأوروبي. أما بخصوص الصين، فإن إغلاق شنغهاي ذات الـ25 مليوناً، وسياسة “عدم انتشار الفيروس” التي فشلت بشكل واضح، لن يكون نموذجاً لبقية العالم. وبحسب رأيه، رغم كل التقدم الذي لا يمكن إنكاره خلال 45 عاماً، “لا تزال الصين نظاماً مهووساً بخلق أوهام المجد”.

هذه الرغبة في التفوق بناءً على نقاط ضعف العدو تشير إلى أن الولايات المتحدة ليس لديها إنجازات حقيقية تفتخر بها، ولا تملك آفاقاً مشرقة خاصة بها. وبين الحلفاء الأكثر ولاءً لأميركا، وهم البريطانيون، يجري الإعلان صراحةً عن هدف إضعاف روسيا ونزيفها، إذ يؤكد الكاتب البريطاني توم ستيفنسون أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبولندا والأعضاء الأوروبيين الآخرين في الناتو كانوا أطرافاً في الصراع منذ البداية: إنها ليست مجرد مركبات عسكرية وشاحنات تحمل عشرات الآلاف من المركبات المضادة للطائرات والمدرعات للمقاتلين الأوكرانيين، بل هي نشاط استخباراتي حول أماكن وجود القوات الروسية.

ووفقاً له، بمجرد أن كان الهدف الرئيسي للغرب هو الحماية من الغزو، فإنه تحول الآن إلى استنزاف استراتيجي مستمر لروسيا، فقد زاد الإنفاق العسكري بشكل كبير، وزاد عدد قوات الناتو في أوروبا الشرقية 10 مرات. هناك إعادة تسليح عامة لأوروبا، ليست مدفوعة بالرغبة في الاستقلال عن السيد الأميركي، ولكن من أجل خدمته. إنه أمر طائش، فإطالة الحرب أمر خطر للغاية عندما تشارك فيه قوى نووية.

ثمة باحث أميركي آخر، هو فرانسيس فوكوياما، يقول: “إذا لم تمنع الولايات المتحدة وبقية الغرب روسيا والصين والقوى غير الديمقراطية الأخرى من فعل ما تريد، فقد يواجه الغرب بالفعل (نهاية التاريخ)”. أما الرجعي الفرنسي برنارد هنري ليفي، فيعتقد أنّ تدخلات الناتو ضد روسيا في سوريا وليبيا والآن في أوكرانيا لم تكن مبررة فحسب، بل كانت حيوية أيضاً، إذ لا يوجد بديل من الغرب (باعتباره حاملاً للقيم الإنسانية العالمية).

بدوره، يعتقد المفكر الغربي البارز نعوم تشومسكي أنَّ الغرب يواجه اليوم خياراً؛ إما محاربة روسيا حتى آخر أوكراني وإما السعي إلى تسوية دبلوماسية.

هناك قناعة متزايدة بين المحللين السياسيين في البلدان النامية بأنَّ البشرية تتجه نحو نظام عالمي جديد يوحد روسيا والصين والهند ودول أخرى تحت راية واحدة. خيبة الأمل من النظام العالمي الأحادي الذي تقوده الولايات المتحدة تختمر منذ سنوات، وكان لها ثمن، بحسب المحلل الفلسطيني البارز رمزي بارود.

لا تزال روسيا والصين العمود الفقري للنظام العالمي الجديد، والعديد من البلدان الأخرى، وخصوصاً في الجنوب العالمي، حريصة على الانضمام إليهما. ومن اللافت للنظر أن محاولات القوى الغربية، بأي وسيلة، وبالأساس عبر التهديد والابتزاز، لإجبار الدول النامية على اتباع نهجها في الشؤون الدولية، تنقلب ضدها، إذ تتعرض تصرفات الغرب لانتقادات شديدة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. هنا، على سبيل المثال، نذكر استنتاج صحيفة “الأهرام” المصرية: “في دعمه الحماسي والغاضب لأوكرانيا، أظهر الغرب مرة أخرى تحيزه السياسي وعنصريته ونفاقه الصارخ فيما يتعلق بالقوانين والمبادئ العالمية”.

سبب آخر للحملة الصليبية الجديدة للغرب ضد روسيا وتفاقم الوضع الدولي هو تدهور نوعية النخب الغربية. وكما أكد الرئيس فلاديمير بوتين في 12 أيار/مايو، فإن استمرار هوس العقوبات يؤدي إلى أكثر العواقب صعوبة واستعصاءً على كل من الاتحاد الأوروبي والدول الأفقر في العالم، والتي تواجه بالفعل مخاطر المجاعة: “اللوم على هذا يقع بالكامل على عاتق النخب في الدول الغربية، الذين هم على استعداد للتضحية ببقية العالم من أجل الحفاظ على هيمنتهم على العالم”.

يعود التوتر المتزايد في العالم إلى أسباب عديدة، على وجه الخصوص عدم وجود رؤية استراتيجية لدى بعض القادة الغربيين. ولعل أوضح مثال على ذلك، الظاهرة التي يمكن رؤيتها في آخر رؤساء وزراء بريطانيا العظمى. ظهر هذا الانحطاط إلى الواجهة في القرن الحادي والعشرين، بدءاً من سياسات توني بلير، الذي يعتبره أكثر من نصف البريطانيين مجرم حرب (كذب بشكل صارخ بشأن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل).

أما في الوقت الحالي، فيتعرض بوريس جونسون لانتقادات شديدة في إنكلترا، التي وصفته الصحافة البريطانية بالكاذب، وأثار أعضاء حزبه (المحافظون) مراراً وتكراراً مسألة استقالته. توقع عدد من الصحافيين البريطانيين رحيله عن منصبه في المستقبل المنظور، لأن حملته الشرسة المعادية لروسيا فقط هي التي تسمح له بالبقاء في كرسي رئيس الوزراء.

من الصعب تسمية أي زعيم غربي لم يتورط في فضيحة فساد (تمت كتابة مئات المقالات عن نجل الرئيس بايدن في هذا الصدد)، كما أقر ريتشارد أولسون، السفير الأميركي السابق في عدد من البلدان، بالذنب في ممارسة الضغط من أجل مصالح حكومة دولة أخرى وإخفاء الهدايا التي تلقاها منها، لكن الشيء الأهم هو أنهم غير قادرين على تقييم الوضع السريع التغير بشكل مناسب، ولا يمكنهم الابتعاد عن الفكرة المتجذرة بأن الغرب (الأنجلو ساكسوني في المقام الأول) يجب أن يبقى مهيمناً على الشؤون العالمية.

يستنتج بعض المحللين المخضرمين أن الناس الذين يدخلون السياسة، كقاعدة عامة، ليسوا الأكثر كفاءة، بل الأكثر هوساً بمصالحهم اللحظية الأنانية. أما الأكثر ذكاءً، فهم يفضلون الخوض في الأعمال التجارية أو العلوم، انطلاقاً من أن السياسيين في الظروف الحالية محدودو القدرات، ويتصرفون فقط في إطار الشعبوية.

في الولايات المتحدة، في هذا الصدد، يشيرون عادةً إلى جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، الذي تنبأ في مؤلفاته قبل بضع سنوات بتراجع النفوذ الأميركي، موضحاً هذا في المقام الأول بالنهج الخاطئ.

في أميركا، وفي ظل الإدارة الحالية لجو بايدن، زادت المشكلات السياسية المحلية، ووصل التضخم إلى مستويات قياسية، وهو يهدد نقص الغذاء والطاقة بالركود. لقد ظهرت بالفعل بيانات عن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بنسبة 1.4%، وأثار عدد من الصحافيين البارزين صراحة قضية تنحية جون بايدن من السلطة بسبب تهديد الحرب النووية، وخصوصاً أنَّ الإنفاق العسكري في العالم وصل إلى مستوى عالٍ غير مسبوق تجاوز 2 تريليون دولار.

لقد أدت تصرفات القوى الغربية، ورغبتها التي لا يمكن كبتها في فرض عقوبات على روسيا، إلى أزمة طاقة. وبعد فشلها في تجديد الاتفاق النووي مع إيران الذي كان من شأنه أن يعيد النفط الإيراني إلى الأسواق العالمية، بدأت الإدارة الأميركية تطلب من المنتجين الآخرين زيادة الإنتاج باستخدام الضغط المفتوح والابتزاز، لكن هذا الضغط الغاشم لم يؤدِّ إلى نتائج، بل إلى زيادة أسعار الغاز في أوروبا بمقدار 6 مرات تقريباً من آذار/مارس إلى كانون الأول/ديسمبر 2021.

كتبت الصحف الأميركية أنَّ أسوأ ما في أزمة الطاقة هذه لم يأتِ بعد، فقد زاد عدد المشاكل التي تواجه واشنطن في الشرق الأوسط، وخصوصاً أن الاتفاق على البرنامج النووي الإيراني يمثل إشكالية كبيرة من دون مساعدة روسيا (حتى “نيويورك تايمز” اعترفت بهذا مؤخراً).

خلقت تصرفات الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى أزمة غذائية في العالم. كانت روسيا وأوكرانيا من بين المصدرين الرئيسيين للحبوب. والآن، تضاعف سعر القمح تقريباً، وهناك صعوبات كبيرة في تسليم البضائع. يقول عدد من المنظمات الدولية إن بعض مناطق العالم ستعاني من الجوع.

تُظهر الأحداث الجارية أنَّ كوكبنا يمر بأزمة خطرة، ويبدو أن صدمات أكبر تنتظرنا، لكن لم يقل أحد إن ولادة نظام عالمي جديد ستكون سهلة وسلسة.

* المؤلف: بنيامين بوبوف – سفير روسي مفوض وفوق العادة، محلل في مركز الدراسات الدولية ومركز دراسات الشرق الأوسط في معهد موسكو للعلاقات الدولية.

المصدر : الميادين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى