مقالات

رئاسة بن زايد تفتح حقبة جديدة في تاريخ الإمارات.. ماذا بعد؟

حكم رئيس الإمارات الراحل الشيخ “خليفة بن زايد” 18 عاما في الفترة من 2004 حتى 2022، وهي أقل من نصف مدة حكم والده الشيخ “زايد” الذي حكم من عام 1971 إلى 2004. لكن الفترة القصيرة نسبيا للشيخ “خليفة” كانت مكتظة بالكثير من التعقيدات، حيث أجبرت الضغوط الجيوسياسية الإمارات على التطور إلى ما وراء سياسة “النفط مقابل السلطة” في زمن الشيخ “زايد”.

والآن حان دور أخيه “محمد بن زايد” لبدء حقبة جديدة حيث تولى تولى السلطة رسميا في 14 مايو/أيار. وسيكون لهذه الفترة تأثير كبير ليس على مستقبل الإمارات فحسب ولكن منطقة الشرقة الأوسط ككل.

تاريخ موجز للرؤساء الإماراتيين

حكم الإمارات 3 رؤساء فقط حتى الآن هم الشيخ “زايد” والشيخ “خليفة” والآن الشيخ “محمد”. لكن هذه القائمة المختصرة تهمل التاريخ المعقد الذي شهد تطور النظام السياسي في الداخل وكذلك السياسة الخارجية.

وتولى الشيخ “زايد” السلطة عام 1971 في سياق فراغ السلطة ومنافسة الحرب الباردة وصعود القومية العربية وتأثير النزعات القبلية. وخلال فترة ولايته التي استمرت 35 عاما، استخدم الشيخ “زايد” الثروة النفطية والسياسة الخارجية غير المنحازة لكسب الولاء في الداخل وتجنب العداء الخارجي مع دولة الإمارات التي كانت ذات كثافة سكانية منخفضة وغير متطورة.

وتقرب الشيخ “زايد” إلى الولايات المتحدة لكنه لم يجعل الإمارات شريكا كاملا في الحرب الباردة حيث كانت الشيوعية تهديدا في أذهان الإماراتيين خلال السبعينيات وحتى التسعينيات.

وركز الشيخ “زايد” على مشاريع التنمية بما في ذلك بناء الطرق والمدارس وناطحات السحاب وحطات المياه والكهرباء. وعندما توفي عام 2004، سلم ابنه دولة بها أساسيات الحداثة. لكن الكثير تغير بحلول ذلك الوقت. ووجد الشيخ “خليفة” أن تكتيكات والده عفا عليها الزمن، حيث تم استبدال تهديد الشيوعية والقومية العربية بالصعود الإسلامي والهيمنة الإيرانية.

ووجدت أبوظبي نفسها هدفا للجهاديين، ما دفع الإمارات إلى إرسال قوات إلى أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول. وفي غضون ذلك، انطلق النفوذ الإيراني عبر “الهلال الخصيب” في أعقاب فراغ السلطة الذي أحدثه الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 والثورة ضد الرئيس السوري “بشار الأسد” الذي أحرق بلاده في الحرب الأهلية.

وفي تقليد أرساه والده، نقل الشيخ “خليفة” واجباته إلى ولي عهده وأخيه غير الشقيق الشيخ “محمد بن زايد”. وبصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، أثر “محمد بن زايد” في العديد من القرارات السياسية التي تم اتخاذها في عهد “خليفة”.

وفي الداخل، تم إطلاق العنان لـ”محمد بن زايد” لسحق المعارضة، وإخماد دعوات التغيير السياسي التي جاءت مع الربيع العربي. وبعد تعرض الشيخ “خليفة” لسكتة دماغية عام 2014، دفع الشيخ “محمد” أيضا جهود التحرر الاجتماعي والاقتصادي التي لم تحظ بقبول كامل من قبل المواطنين الإماراتيين.

ومع ذلك، كانت هذه الاعتراضات الشعبية هي الثمن الذي يجب دفعه لمواجهة تحديات المستقبل، حيث أدرك الشقيقان الحاكمان أن النفط سيأتي عليه يوم ويتوقف عن تشحيم المحرك الاقتصادي للبلاد.

وبينما ظل الشيخ “خليفة” و”محمد بن زايد” على مقربة من الولايات المتحدة، كانا يعلمان أن واشنطن، التي تعثرت في تجربة العراق، لن تقف معهما في مواجهة التهديدات ذات الأولوية من وجهة نظرهما، لذلك أخذا على عاتقهما أيضا الدخول في حقبة غير مسبوقة من التدخلات المسلحة في جميع أنحاء المنطقة.

الإمارات تحت قيادة “محمد بن زايد”

وبصفته رئيسا، يمكن للشيخ “محمد” أن يفرض رؤيته حاليا على الدولة بأكملها بل يستطيع التأثير في مرحلة ما بعد وفاته عن طريق اختيار ولي العهد الأنسب لمواصلة إرثه. ويبدو أن هذه الرؤية ستكون ليبرالية اجتماعيا وحديثة اقتصاديا، والأهم من ذلك أنها ستحاول تقليل الاعتماد على النفط والمناورة في السياسة الخارجية.

لكن الرؤية المفترضة لـ”محمد بن زايد” ستواجه تحديات كبيرة. ويبلغ “بن زايد” من العمر 61 عاما فقط، وإذا عاش حتى عمر 86 عاما مثل والده فسيحكم حتى عام 2047. وخلال هذه الفترة، سيرى بالتأكيد المزيد من التغييرات. على سبيل المثال، تفقد الولايات المتحدة، الشريك الأمني ​​الرئيسي للإمارات، اهتمامها بالخليج العربي ببطء، حيث تحول واشنطن انتباهها نحو التهديدات الملحة التي يشكلها صعود الصين في آسيا والسياسة العدوانية لروسيا في أوروبا.

وتجلت السياسة الأمريكية الجديدة في الرد البارد علي الهجمات التي تعرضت لها الإمارات مؤخرا من قبل الطائرات المسيرة الحوثية. وبعد هذه الهجمات، أكدت واشنطن أن المصلحة الأساسية لها هي تحجيم التهديدات الإقليمية وليس القضاء عليها.

ولن تعود الولايات المتحدة إلى ما كانت عليه في المنطقة قبل حرب العراق إلا مع حدث كبير للغاية؛ مثل حرب كبرى مع إيران أو هجوم آخر من طراز 11 سبتمبر/أيلول على الأراضي الأمريكية، أو عودة ظهور تنظيم “الدولة”، وكلها لا تزال تهديدات بعيدة وافتراضية في الوقت الحالي.

وبالتالي، يرث “محمد بن زايد” دولة تعتمد على ذاتها أكثر مما كانت عليه في أي وقت مضى. ومن المرجح أن تظل بعض القوات الأمريكية متمركزة في الإمارات طالما لا تزال إيران تشكل تهديدا. لكن هذا الوجود العسكري لن يكون كبيرا بما يكفي لتحقيق التوازن في المنطقة بالطريقة التي تريدها أبوظبي.

ولن يتمكن “محمد بن زايد” دائما من استخدام جيش الإمارات وثروتها لإعادة ترتيب المنطقة حسب رغبته. وبدلا من ذلك، سيتعين على حكومته التركيز على أهداف قابلة للتحقيق، على غرار مهمتها في اليمن، حيث رأت أن سلسلة من القواعد والوكلاء المحليين (مثل المجلس الانتقالي الجنوبي) ستكون كافية لتحقيق التوازن لمنع صعود يمن إسلامي.

وستشهد العقود القادمة بالتأكيد ظهور المزيد من فراغات السلطة في المنطقة مع تغير المناخ، وعدم المساواة الاقتصادية العالمية، وسوء الإدارة، والاقتصادات الضعيفة، وسقوط بعض الحكومات، ما يخلق تحديات ستكافح حكومة “بن زايد” للتغلب عليها.

وكرئيس، سيتعين على “محمد بن زايد” متابعة التطورات في الخارج بشكل أكبر أيضا. وقد أصبح العالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، الأمر الذي سيفيد الإمارات من بعض النواحي من خلال السماح لها بالتجارة والشراكة على أساس المصلحة بدلا من التوافق الأيديولوجي.

ولكن ستأتي أيضا أوقات تجد فيها أبوظبي نفسها في خضم شد وجذب من أجل النفوذ بين شركائها العالميين. ووسط الحرب المستمرة في أوكرانيا، يمكن أن تضغط الولايات المتحدة على أبوظبي لقطع العلاقات الاقتصادية مع موسكو. وقد تتدهور العلاقات بين الولايات المتحدة والصين بدرجة تدفع واشنطن إلى موقف مماثل بشأن علاقات أبوظبي مع بكين.

ماذا بعد؟

سيواجه نموذج التنمية المحلية لـ”محمد بن زايد” أيضا عقبات في العقود القادمة. وتواجه الاستراتيجية الاقتصادية لدولة الإمارات بالفعل منافسة من السعودية وقطر، حيث توجد تداخلات في مجالات السياحة والنقل والعقارات والخدمات المالية.

ولن يكفي مجرد وجود اقتصاد حديث، وسيتعين على “بن زايد” بطريقة ما إيجاد طريقة لجعل الإمارات موطنا لأفضل اقتصاد في المنطقة، وسيتطلب ذلك المزيد من التعديلات على العقد الاجتماعي لجلب المواهب العالمية والاحتفاظ بها، حتى على حساب التوزيع الديمغرافي.

وقد يؤدي ذلك إلى رد فعل محلي، وربما يكون كبيرا، في شكل إضرابات واحتجاجات من قبل العمال الأجانب الذين يدركون بشكل متزايد أن الحكومة لا تستطيع التخلي عنهم. وقد تؤدي مثل هذه الإصلاحات أيضا إلى إثارة المعارضة السياسية بين المواطنين الإماراتيين.

وردا على ذلك، سيحتاج “بن زايد” إلى تطوير النظام السياسي، لكن كيف؟ يمكنه بسهولة تبني مزيد من القمع، أو يمكنه تحرير السياسة والاتجاه نحو نظام أكثر تمثيلية قادر على الاستجابة لتحديات المستقبل.

وإذا ذهب “بن زايد” نحو طريق القمع السابق، فإنه يخاطر بنوع من الركود الذي لا تستطيع دولة مثل الإمارات تحمله. وسيعتمد مثل هذا النظام على استمرار “بن زايد” واعيا وبصحة جيدة لاتخاذ قرارات سريعة في مواجهة حالة عدم اليقين. وفي حال تم تهميشه بسبب مرض ما، كما كان الحال مع أخيه، قد تصبح الدولة مشلولة، أو أسوأ من ذلك، قد تتعرض الدولة لتهديد وجودي إذا لم يكن هناك خليفة شرعي قادر على سد الفراغ.

ونظرا لأن المجتمع والاقتصاد الإماراتي أصبح أكثر تعقيدا، فقد لا يكون “بن زايد” قادرا على مواجهة كل التحديات، حيث سيضطر إلى طريقة حكم قد تكون غير مناسبة للإمارات الأخرى الأقل نموا مثل رأس الخيمة والفجيرة. ومع توطيد السلطة في أبوظبي، قد تصبح إدارة “محمد بن زايد” أقل تقبلا لدعوات المساعدة أو الدعم التي تطلبها المدن والإمارات الأخرى.

وربما تخاطر مثل هذه القيادة القمعية والاستبدادية بالخلط التام بين سمعة “بن زايد” وسمعة الإمارات كدولة، الأمر الذي يهدد الاستثمار والسياحة حيث ستصبح العلامة التجارية للإمارات متوارية خلف شخصية زعيمها، مثلما هو حال السعودية إلى حد كبير؛ حيث شوه ولي العهد المثير للجدل “محمد بن سلمان”، صورة المملكة عالميا.

وإذا اختار “محمد بن زايد” بدلا من ذلك تحرير النظام السياسي الإماراتي، فمن المرجح أن يمكّن ذلك المجتمع من التأثير في السياسة لتصبح الحكومة أكثر تقبلا لمطالب السكان. لكن جهود التحرير هذه لن تكون تجربة إيجابية بالكامل، لأنها قد تقدم أيضا عناصر جامحة إلى الفضاء العام.

وقد يطالب الإسلاميون والجماعات الأخرى، على سبيل المثال، بالتراجع عن القيم الليبرالية وإثارة الجدل حول اتفاق التطبيع الذي أبرمته الإمارات مع إسرائيل لعام 2020. وفي غضون ذلك، قد تغلق النقابات العمالية الصناعات الاستراتيجية للمطالبة بأجور أعلى. وقد يطالب الناشطون السياسيون بإجراء تغييرات تنظيمية ودستورية قد تخيف الشركات التي تبحث عن مكان مستقر سياسيا وآمن للقيام بالأعمال التجارية.

وسوف يسير “محمد بن زايد” على خطى العديد من القادة الاستبداديين. وقد اختار البعض، مثل الديكتاتور الإسباني “فرانسيسكو فرانكو”، تحرير النظام السياسي، فيما اختار آخرون مثل الراحل الكوري الشمالي “كيم يونج إيل”، تعزيز الوضع الراهن، معتقدين أن الاستقرار أفضل من الرهان على التغيير.

ومع مرور الأعوام في حكمه، من المرجح أن يكون لدى “محمد بن زايد” الوقت الكافي للنظر إلى أي من المسارين سيختار.

المصدر | ريان بول | ستراتفور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى