بوتين لن يخرج من أوكرانيا إلا في سياق يدخله التاريخ
قال الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” الأسبوع الماضي إنه يجب إيجاد مخرج تدريجي للرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” من أوكرانيا. هذه ليست فكرة جديدة. يعرف المفاوضون ما يجب أن يمتلكوه وما يجب أن يتركوه للطرف الآخر. هذه هي الطريقة التي يجري بها التفاوض عندما لا تسود العاطفة.
وعندما تسود العاطفة فإن المفاوضات تشبه تلك التي تجري في حالات الطلاق دون تراض بين الرجل والمرأة حيث يكون هدف كل طرف إلحاق أكبر قدر من الضرر بالطرف الآخر حتى لو كان هناك مخرج معقول. لكن الحرب أكثر مرارة من هذا النوع من الطلاق، ويمكن أن يُنظر إلى أي مخرج على أنه خيانة للموتى.
وسوف يذكر الأوكرانيون موتاهم وسيصابون بالفزع من منح “بوتين” مخرجاً كريماً، لكن مشكلة روسيا أشد خطورة حيث يتطلب أي مخرج الاعتراف بأن غزو أوكرانيا كان خطأ. وفي بعض الأحيان يكون تجاوز ألم فقدان القتلى في الحرب أسهل من الاعتراف بالخطأ.
وستنطلق أي مفاوضات سلام من إدراك “بوتين” لسوء التقدير الذي وقع فيه حيث شن الحرب متوقعًا عدم قدرة أوكرانيا على الصمود، ومعتقدًا أن الغرب لن يتمكن من تشكيل جبهة موحدة، كما أخطأ في تقدير العقوبات الاقتصادية التي قد تستخدمها الولايات المتحدة ضد روسيا والكمية الهائلة من الأسلحة التي كانت مستعدة لتقديمها.
ويمكن ملاحظة ذلك في طريق انتشار القوات الروسية في المرحلة الأولى من الحرب حيث انطلقت بعض القوات من بيلاروسيا باتجاه كييف، وخرجت أخرى من القرم نحو أوديسا، وتحركت ثالثة نحو دونباس في الشرق. وكان الروس يتحركون للاستيلاء على الدولة بأكملها في هجوم واحد منسق. ويبدو أنه كان هناك القليل من التفكير في المقاومة.
وقبل بدء الحرب، أرسلت المملكة المتحدة صواريخ “جافلين” المضادة للدبابات وهي السلاح المناسب لصد الهجوم الروسي. وقد استخدم الأوكرانيون هذه الصواريخ جيدًا وشكلوا قوات لمقاومة الجيش الروسي.
وكان خطأ “بوتين” أنه لم يضع نفسه في مكان الأوروبيين والأمريكيين، ولم ينظر إلى ساحة المعركة من منظورهم. وطرح الأوروبيين على أنفسهم سؤالا جوهريا: ماذا سيحدث بعد أوكرانيا؟ إذا أحاط الروس بأوكرانيا وسيطروا عليها فماذا سيفعلون بعد ذلك؟
لقد تحدث الروس عن التهديد الذي يشكله الناتو، وكان ذلك هذا هو تبريرهم للغزو، لكن الاستيلاء على أوكرانيا لا يحل مشكلة الناتو، لأنه سيصل بالروس إلى حدود الناتو من بحر البلطيق إلى البحر الأسود.
ولم تكن نية روسيا واضحة. كان التهديد الروسي المحتمل أكثر وضوحا. من المحتمل أن روسيا لم تكن تخطط لتوسع فيما وراء أوكرانيا، لكن كان هناك احتمال أن يمنحها النجاح العسكري في أوكرانيا الفرصة والثقة لتوجيه ضربة مباشرة ضد الناتو. ولو نجحت روسيا في اجتياح أوكرانيا كان سيتعين التعامل معها باعتبارها قوة عظمى يجب التفاهم معها وليس مقاومتها.
لا أعرف ما الذي دار في أذهان قادة الناتو لكن فكرة توقف “بوتين” عند حدود أوكرانيا وبيلاروسيا لم تكن موثوقة. على أي حال، تصرفت معظم دول أوروبا والولايات المتحدة باعتبار أن منع احتلال روسيا لأوكرانيا ضروري لأمنهم القومي. أظهر الغرب استعدادا لدفع تكلفة كبيرة من أجل إضعاف روسيا عسكريًا واقتصاديًا.
ويبدو أن هذه الإجراءات نجحت حتى الآن، حيث تقاتل روسيا حاليا في شرق أوكرانيا، بعيدًا عن حدود الناتو. ولا تتعلق الحرب حاليا باستراتيجية عظمى بقدر ما تتعلق بإظهار أن روسيا قادرة على تحقيق نصر إقليمي، ومن ثم إجبار أوكرانيا على قبول شروط السلام بشكل يجعل موسكو قادرة على ادعاء الانتصار، على الأقل محليًا.
وتتعلق الحرب الآن باستمرار حكم “بوتين” إلى حد كبير. لقد عزز نظام ما بعد الشيوعية نفسه عبر الترويج لأهمية الكفاءة بغض النظر عن الأيديولوجية. ومن المؤكد أن الحرب في أوكرانيا – حتى الآن – يمكن اعتبارها فخا مهينا لهذه “الكفاءات” إلى أقصى الحدود.
لقد بالغ “بوتين” في تقدير قوة جيشه وقلل من شأن عدوه وفشل في فهم كيف أن تحديد الناتو كعدو من شأنه أن يؤدي إلى رد فعل هائل. كان يجب أن يرى كل هذه الأشياء لكنه لم يفعل.
لقد تحدث عن استخدام الصواريخ ضد أوكرانيا، لكن هذه الصواريخ لن تكون مفيدة في تعويض المستوى المتدني للقوات البرية. لقد تم استخدام الكثير من المتفجرات التي يتم إطلاقها من الجو منذ الحرب العالمية الثانية، وبالرغم أن تأثيرها كان كبيرا في حروب مثل فيتنام إلا أنها لم تحسم أي صراع.
ولا يمكن أن يقبل “بوتين” السلام بينما يبدو أنه غير كفء، سواء كان ذلك بسبب خوفه من المعارضة المتزايدة، أو من تأثير نتيجة الحرب على صورته التاريخية.
إن ما يطرحه “ماكرون” غير منطقي بالنسبة “لبوتين” وهو مجرد وهم. ليس هناك مخرج حالي لا يؤدي إلى هاوية من وجهة نظر “بوتين”. ولا يمكنه التوصل إلى اتفاق سلام حتى يثبت – بشكل عملي – أنه نجح في تجاوز إخفاقاته الأولى. يجب ألا يشل الجيش الأوكراني فحسب، بل يجب عليه أيضًا الاستيلاء على جزء كبير من أوكرانيا، وعليه أن يفعل ذلك بطريقة تتعامل مع الحرب الاقتصادية التي يواجهها.
ربما ينسحب الأوروبيون في مرحلة ما، لكن التصويت الألماني على إعادة التسلح لا يشير إلى تحرك كبير نحو الخروج.
ويجب أن نتذكر أن الحرب مليئة بالمتغيرات. وتخوض القوات الأوكرانية قتالا عنيفا على جبهات عديدة، ومن الواضح أن معنويات الأوكرانيين أعلى من معنويات القوات الروسية، وتعد الروح المعنوية ركنا رئيسيا في فن الحرب، كما أشار “نابليون”.
وبالرغم أن أشهرا من القتال الذي تشارك فيه أجزاء كبيرة من القوات الأوكرانية يمكن أن يكسر الروح المعنوية، إلا أن القتال من أجل الوطن ومن موضع دفاعي وبأسلحة أمريكية متفوقة يجعل الجيش الأوكراني أكثر فاعلية وربما أقل إرهاقًا من الروس حتى الآن.
وتتمثل نقطة الضعف الأوكرانية في أن القرار بيد الولايات المتحدة التي يمكن أن توقف تدفق الأسلحة أو تخفف الحرب الاقتصادية ضد روسيا. لكن الولايات المتحدة تحتاج الآن إلى أوكرانيا التي تعزل روسيا عن أوروبا ومن غير المرجح أن تغير الاستراتيجية في هذه المرحلة.
إن الحقيقة الجيوسياسية هي أن روسيا فشلت في الاستيلاء على أوكرانيا أو تقسيم الناتو، والحقيقة السياسية هي أن “بوتين” هو الذي فشل في ذلك ولم يتمكن من تحقيق أهدافه الاستراتيجية بل جعل الناتو يتوحد بشكل لم يكن موجودا منذ وقت طويل.
قد يلوم “بوتين” الآخرين لكن بلاده ستلومه. ويعني ذلك أنه على عكس أقسى حالات الطلاق، لا يمكن لـ”بوتين” التراجع قبل تدمير نفسه. سوف يستمر في القتال. ولا يمكن أن يكون هناك سلام إلا إذا تغير إدراك “بوتين” عن المعركة وضمن خروجا يدخله التاريخ.
المصدر | جورج فريدمان | جيبويتكال فويتشرز