هل تنقذ خطة التعافي الاقتصادي لبنان من الغرق؟
ليس أدل على عمق الأزمة والكارثة المعيشية في لبنان من عنوان تقرير البنك الدولي: “لبنان يغرق”، الذي وصف به الأزمة في لبنان بـ”الأكثر حدَّة وقساوة في العالم”، وصنَّفها ضمن أصعب ثلاث أزمات سُجلت في التاريخ منذ أواسط القرن التاسع عشر. يعاني لبنان من انهيار اقتصادي ومالي غير مسبوق، يتطلب الإسراع في القيام بكل ما يلزم للتعافي والنهوض. من هنا، جاءت ضرورة وضع خطة للتعافي والإنقاذ، وهذا مطلب دولي وإقليمي نادت به المبادرة الفرنسية ضمن مسار سياسي وإصلاحي يتضمن محطات دستورية مهمة منها إجراء الانتخابات النيابية وتشكيل حكومة تمثل طموح اللبنانيين في عمليات الإصلاح والنهوض. تشكَّلت حكومة “معًا للإنقاذ” برئاسة نجيب ميقاتي، في سبتمبر/أيلول 2021، للسير بمتطلبات التعافي، وفي أولى أولوياتها اقتراح خطة والتوافق عليها مع صندوق النقد الدولي للمساعدة فيما يستلزم ذلك من شروط وأدوات.
استطاعت الحكومة أن تقوم بإجراء الانتخابات في موعدها، ولكن لم تُقر خطة التعافي إلا في اليوم قبل الأخير من انتهاء صلاحيات الحكومة الدستورية (20 مايو/أيار 2022)، (في 22 مايو/أيار تحولت إلى حكومة تصريف أعمال)، وبالتالي التأخر في تطبيق الخطة واتخاذ الإجراءات التي تقتضيها. ومع إقرار الخطة ينتقل السؤال إلى إشكالية أخرى تطرح نفسها: هل تستطيع خطة التعافي المقترحة إنقاذ الاقتصاد اللبناني من الانهيار وانتشال اللبنانيين من أزماتهم؟
هذا ما تسعى هذه الورقة للإجابة عنه، مستعرضة بنود خطة التعافي ومسارها، ومن ثم الوضع الراهن الذي يجب أن تتعامل معه، وأخيرًا التوقعات حول مصيرها ومآل الأزمة مستقبلًا.
الخطة ومسارها
أقرَّت حكومة “معًا للإنقاذ”، حكومة نجيب ميقاتي، خطة التعافي المالي والاقتصادي، تحت عنوان: “إستراتيجية النهوض بالقطاع المالي”، ورأت الخطة أن الركود الاقتصادي العميق وتدهور سعر الصرف وانكشاف ودائع المصارف التجارية لدى مصرف لبنان، إضافة إلى الحاجة لإعادة هيكلة الديون السيادية؛ قد أدت إلى ضرر كبير في القطاع المالي، وقدَّرت إجمالي خسائر القطاع المصرفي بما يزيد عن 70 مليار دولار أميركي. وتقوم الخطة على عدة بنود أساسية، أهمها:
– إلغاء تعددية أسعار الصرف الرسمية بحيث يكون هناك سعر صرف رسمي واحد فقط: إذ يتم التبادل المالي والاقتصادي في لبنان وفق 4 أسعار رسمية للصرف، بسبب الخلل في الوضع النقدي وفي إدارة السياسة النقدية. هناك أولًا السعر الرسمي الأساسي (1507.5) الذي يجري احتساب العديد من رسوم السلع المستوردة والجمارك والضريبة على القيمة المضافة والعقارية والخدمات العامة على أساسه، لتقليص تكاليف العديد من السلع والخدمات وضبط أسعارها. وهناك سعران مرتبطان بسحب المودعين لأموالهم من المصارف ضمن شروط معينة (8.000 و12.000 ليرة للدولار)، بهدف تقليل خسائر القطاع المصرفي بالدولار. والسعر الرسمي الأخير، سعر منصة صيرفة (بلغ في منتصف يونيو/حزيران 24.700) التي أنشأها ويتحكم بها مصرف لبنان، بهدف التحكم في سوق القطع وتوفير الدولارات للمستوردين وللمؤسسات وفق سعر أرخص من سعر السوق الموازية غير الرسمي (حوالي 29.000). وإن أسهمت منصة صيرفة في التخفيف من حدَّة الأزمة المعيشية عبر تخفيض تكاليف العديد من السلع والخدمات مثل الخبز والمحروقات، إلا أنها أدت إلى استنزاف إمكانيات الدولة من النقد الأجنبي والمزيد من الخسارة في ماليتها العامة بدلًا من توظيفها في مشاريع إنتاجية وخدماتية عامة. لم توضح الخطة آلية توحيد الأسعار، ولا المدى الزمني لذلك، كما لم تشرح الإستراتيجية التي ستتبعها لتحقيق الاستقرار في سعر الصرف مستقبلًا، وجعلت الأمور مبهمة ومفتوحة على كل الاحتمالات.
– هيكلة القطاع المصرفي: بهدف إعادة الثقة إليه، وتحفيز النمو. ترتكز الخطة على “حل المصارف التي تُعتبر غير قابلة للاستمرار”، وهي من متطلبات صندوق النقد الدولي، ولكنه بند خلافي بين جمعية المصارف والدولة. لم تحدد الخطة معايير القابلية للاستمرار، وقد تدخل الاستنسابية والتدخلات السياسية في تحديد المصارف القابلة للاستمرار.
– حقوق وأموال المودعين: وأيضًا يدخل في عملية إعادة الثقة، ويكاد يكون البند الأكثر جدلًا داخليًّا. تقارب الخطة حقوق المودعين من زاويتين: حجمها وقدرة المصارف على الاستمرار، فهي تنادي بـ”حماية صغار المودعين إلى أقصى حدٍّ ممكن في كل مصرف قابل للاستمرار”، ولم تأتِ على ذكر مصير حقوق المودعين الكبار، حتى المودعين الصغار تُحفظ حقوقهم في المصارف فقط القابلة للاستمرار. تقوم خطة الحكومة على توزيع الخسائر بين الأطراف الثلاثة: الدولة، وجمعية مصارف لبنان، والمودعين؛ فجمعية مصارف لبنان تنادي بتحمل الدولة لوحدها الخسائر عبر الصندوق السيادي، أما المودعون فيعتبرون أن لا ذنب لهم بالأزمة وضياع مدخراتهم سدى.
– هيكلة سندات اليوروبوند: والهدف منها عودة الثقة الخارجية والحصول على تمويل من الأسواق المالية الدولية. لم تحدد الخطة كيفية الهيكلة، ولم تذكر المدى الزمني للبدء بالتفاوض مع الدائنين، ولم تتعرض إلى موضوع الدَّيْن بالليرة اللبنانية.
– تعديل قانون السرية المصرفية: من أجل إنجاح عملية مكافحة الفساد وتبييض الأموال، وهو من شروط صندوق النقد، ومع ذلك لم يتم إقراره في جلسات سابقة للمجلس النيابي السابق رغم اقتراح قانون لهذه الغاية، ويعيد بعض المعارضين سبب التأخير إلى خشية بعض القوى السياسية من أن يطولها التدقيق والمحاسبة، إلا أن القانون لا يزال قيد التداول وهناك إمكانية لإقراره لاحقًا لضرورات الشفافية ومكافحة الفساد.
– إعادة رسملة جزئية لمصرف لبنان: بسندات سيادية -أي حكومية- قدرها 2.5 مليار دولار أميركي يمكن زيادتها، من أجل إعادة تكوين احتياطي من النقد الأجنبي ما يسهم مساهمة كبيرة في عودة الثقة بالقطاع المصرفي وقدرته على القيام بمهامه ومنها الاستقرار النقدي. وهذا يتطلب الثقة بلبنان في الأسواق المالية العالمية وتحسن التصنيف الائتماني من قبل الوكالات المتخصصة، وقد وعد صندوق النقد بتمويل ذلك عبر حقوق السحب الخاصة بقيمة 3 مليارات دولار. “أما ما تبقى من الخسائر السلبية في رأس المال فسوف تُلغى تدريجيًّا على مدى 5 سنوات”.
لم تأتِ خطة التعافي هذه من فراغ، إنما هي نتاج تراكمات لمسار الأزمة ولنقاشات طويلة حول قضايا أحدثت انقسامات داخلية حولها تتمحور حول عدة مسائل جوهرية. داخليًّا، ليس هناك إجماع وطني حول العديد من مرتكزات الخطة. واضعو الخطة ركزوا على الجانب المالي للأزمة فحسب، وتضمنت ركيزة واحدة مما اتُفق عليه مع الصندوق وهو إصلاح القطاع المالي، فهي لم تتناول الأزمة بكل جوانبها وفي مقدمها الانكماش الاقتصادي. لا يمتلك مصرف لبنان أية قدرة مالية حالية على تحسين سعر صرف الليرة اللبنانية بسبب الاستنزاف الكبير في احتياطاته من النقد الأجنبي وبسبب ندرة ما يدخل القطاع المصرفي من ودائع جديدة ولغياب الاستثمارات الأجنبية في لبنان، ولم تنجح مساعيه في زيادة رأسمال المصارف من العملات الأجنبية. إن غياب الثقة داخليًّا وخارجيًّا في القطاع المصرفي يجعله غير قادر على الصمود ولعب دوره الحقيقي في الاقتصاد والمال، وإنَّ هيكلته تتطلب مسارًا طويلًا لا يمكن فصله عن دخول رؤوس أموال أجنبية أو عودة الأموال التي خرجت منه عند بدء الأزمة. إن هيكلة سندات اليوروبوند تتطلب البدء بالتفاوض مع الدائنين والاستعانة في ذلك بـ”نادي باريس”.
غاب عن الخطة قضية مكافحة الفساد، ومع هذا لا يؤمَّل كثيرًا من ذلك لأن الانتخابات النيابية أعادت جزءًا كبيرًا من المنظومة القديمة -والتي اتُّهِم جُلُّها أو كلها بالفساد- إلى السلطة. كما أن هناك محطات دستورية عديدة بانتظار الخطة كي تصبح جاهزة للتنفيذ: تبنِّي الحكومة العتيدة الخطة بكل أهدافها وركائزها، وتحويلها إلى مجلس النواب، ثم إقرارها في المجلس النيابي بعد دراستها في اللجان النيابية وإقرارها من قبلهم، والتصديق عليها من قبل رئيس الجمهورية، والاتفاق النهائي مع صندوق النقد الدولي للمساعدة في تنفيذ الخطة. جميعها محطات تحتاج إلى توافق وطني بين كل التيارات والشخصيات السياسية وهذا بعيد المنال في ظل تناقضات المشهد النيابي.
وخارجيًّا، وُلدت هذه الخطة بعد خلاصة عدة جولات من المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، أفضت إلى توقيع اتفاقية إطار مبدئي معه، في 7 أبريل/نيسان 2022، وعلى أساس أن خطة السلطات اللبنانية ستقوم على 5 ركائز، هي:1- إعادة هيكلة القطاع المالي. 2- تنفيذ إصلاحات مالية تتضمن مع إعادة الهيكلة المقترحة للدَّيْن العام الخارجي بقاءَ الدين في حدود مستدامة، وخلق حيز للاستثمار في الإنفاق الاجتماعي، وإعادة الإعمار والبنية التحتية. 3- إصلاح المؤسسات المملوكة للدولة ولاسيما قطاع الطاقة. 4- تعزيز أطر الحوكمة ومكافحة الفساد ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. 5- إقامة نظام للنقد والصرف يتسم بالموثوقية والشفافية. وبذلك لا تلتقي متطلبات التعافي كما يطلبه الخارج مع الخطة المقترحة إلا في ركيزة واحدة فحسب وهي هيكلة القطاع المالي.
وأضف إلى ذلك أن التعافي والنهوض الاقتصادي يرتبط بما سيقدمه المجتمع الدولي من مساعدات وتمويل خارجي عبر ضخِّ الدولارات وإعادة الثقة إلى المالية العامة، وهو منوط بقرار الولايات المتحدة الأميركية في ذلك، وهو غير متحقق حتى الآن بسبب اشتداد الصراع في المنطقة، ولأن الإدارة الأميركية قد تمارس مزيدًا من الضغوطات الاقتصادية لأهداف كبرى منها عملية ترسيم الحدود البحرية. إن جميع هذه العوامل الداخلية والخارجية تجعل من الصعوبة بمكان نجاح الخطة الموضوعة وتطبيقها.
والمفارقة أن إقرار الخطة تأخر، وبنودها ليست محل توافق بل محل جدل، وكثير من بنودها لا يلتقي مع متطلبات ورغبة المجتمع الدولي، والأهم أنه لا ثقة بقدرتها على حل الأزمة المالية للبنان، في حين يبدو الوضع المالي والاقتصادي إلى تفاقم.
الوضع المالي والاقتصادي الراهن
تعاني المالية العامة في لبنان من خلل كبير؛ حيث انخفضت الإيرادات الحكومية إلى النصف تقريبًا وبالتالي انخفضت قدرة الإدارات والمؤسسات العامة على تمويل نفقاتها مما أثَّر على إنتاجيتها وعلى حجم الخدمات العامة المقدمة للمواطنين، وكان انكماش النفقات أكثر وضوحًا الأمر الذي عزَّز دوامة الانكماش الاقتصادي، لاسيما أن نسبة الانكماش مرتفعة جدًّا في حجم الاقتصاد اللبناني حيث بلغت ما نسبته 58.1%، وهذا يدل على ضعف بنيوي في الأنشطة الإنتاجية المحلية والاعتماد الكبير على الخارج. إن محدودية ما تملكه الدولة من عملات أجنبية وجفاف مصادر تمويل جديدة منها قد فاقم من الأزمات. منذ فترة والدولة تعتمد على احتياطي مصرف لبنان من النقد الأجنبي فحسب، الذي يتكون من أموال المودعين ويبلغ حوالي 11 مليار دولار و864 مليون (أواخر مايو/أيار 2022)، بعد أن بلغ في أواخر فبراير/شباط المنصرم (2022) 12 مليارًا و748 مليون دولار، بسبب الاستنزاف الكبير لمالية الدولة ودون القدرة على رفدها بأي مصدر جديد من النقد الأجنبي.
إن لُبَّ الأزمة في لبنان هو التدهور في سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار والذي انعكست تداعياته على مختلف نواحي الحياة المعيشية، بسبب شُحِّ المعروض من الدولارات المتوافرة في الداخل اللبناني مقابل الطلب المتزايد عليها لسدِّ حاجات استيراد السلع والخدمات من الخارج. إن لبنان بلد يستورد أكثر من 90% من حاجاته من الخارج والطلب اليومي يُقدر بالملايين، وفي ظل شُح الدولارات ورفع الدعم الحكومي عن السلع والخدمات كافة بشكل شبه تام، انعكس ذلك على معيشة المواطنين اليومية، وأفرز كوارث اجتماعية. ارتفعت أسعار المحروقات بنسبة حوالي 70% منذ بداية العام 2022 وحتى نهاية مايو/أيار، وازدادت منذ بداية الأزمة حتى الآن أكثر من 30 ضعفًا، فارتفعت تكاليف الإنتاج الوطني وازدادت مشقات التنقل. ارتفعت الأسعار بشكل كبير جدًّا وما زالت في ازدياد كلما تدهور سعر الصرف أكثر فأكثر، والذي بلغ عتبة 29.000 ليرة للدولار منتصف يونيو/حزيران الجاري (2022)، وانخفضت القدرة الشرائية للعملة الوطنية حوالي 95%، وارتفعت بالمقابل كلفة المعيشة، وقفز خط الفقر ليتجاوز الحد الأدنى للأجور (675 ألف ليرة لبنانية)، وأفضى ذلك إلى ارتفاع نسبة الفقر العادي ليشمل ثلاثة أرباع الشعب اللبناني، ولتطول البطالة أكثر من ثلثه، حتى إن منظمة الفاو صنَّفت لبنان من ضمن دول البؤر الساخنة المهددة بالمجاعة.
على صعيد الخدمات العامة، تعرض العديد منها إلى انتكاسة كبيرة وعدم القدرة على تأمينها للمواطنين وفي مقدمها الكهرباء، التي تستنزف ما بين 70 إلى 100% من المداخيل (يؤمِّن معظمها القطاع الخاص عبر مولِّدات خاصة في الأحياء والمدن). وارتفعت كلفة الاستشفاء بسبب ارتفاع ثمن المستلزمات الطبية نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار، والمريض هو من يتحمل عبء الفاتورة لعجز وتهرب الجهات الرسمية الضامنة عن دفع تكاليفها التي ما زالت تغطي أعباء الاستشفاء على سعر صرف الـ1500 ليرة للدولار، وقد رُفع الدعم الحكومي عن العديد من هذه المستلزمات التي زادت أسعار بعضها 14 مرة.
لطالما اعتمد لبنان في تمويل ماليته العامة واقتصاده على 3 مصادر أساسية، وهي: السياحة، والقطاع المصرفي، والتحويلات من الخارج سواء من المغتربين أو من المؤتمرات الداعمة للبنان مثل باريس1، و2، و3. حاليًّا لم يتبقَّ للبنان إلا تحويلات المغتربين خاصة في فصل الصيف، أما السياحة فقد تعطلت بمعظمها لأسباب سياسية وأمنية ولوجستية فضلًا عن وجود منافسة في المنطقة، أما القطاع المصرفي فلم يتم إصلاحه بعد.
المآلات والتحديات
تأخرت الخطة في إطلاق مسار الاصلاحات المطلوبة، في حين لم تفرز الانتخابات النيابية النتائج المرجوة، وليس من المتوقع أن يُحدث النواب “التغييريون” تغييرًا جذريًّا في التوازنات السياسية ومن قواعد اللعبة السياسية، بل تم تكريس حالة الانقسام الداخلي والاصطفافات والتموضع وفق الأجندات الخارجية، وأنبأت النتائج بمزيد من التناقضات الداخلية والصراعات العميقة، تغذي حالة الانقسام تلك صراعات المنطقة وحروبها. هذه التناقضات ستؤدي إلى مزيد من التشظي في الوضع السياسي والتفكك المجتمعي.
ولا شك في صعوبة تشكيل حكومة تدير البلد في هذه الأشهر التي تفصل عن موعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية (أكتوبر/تشرين الأول 2022)، لاسيما إذا تعطلت فإنها ستزيد من سوء الأزمة وقد تكون الأشد. وإن تشكَّلت حكومة واستمر التعطيل والشلل في الدولة ومشاريعها فإن التعافي سيصطدم بحائط من تعقيدات التوازنات الجديدة وصعوبة إمكانية التوافق على مشتركات إنقاذية وطنية لاسيما تلك التي تقتضيها خطة التعافي. ومن الممكن أن تسهم نتائج الانتخابات التي أتت بفعل التدخلات الأميركية-الخليجية، في استمرار الضغط على لبنان وعلى القوى السياسية المناوئة، مما يؤخر أي حلٍّ إنقاذي مرتقب على المدى القصير، ويصبح هناك صعوبة في إجراء الاصلاحات وتطبيق خطط للتعافي، مما يعني مزيدًا من الانهيارات والأزمات، وقد تنقلب إلى كوارث اجتماعية وفوضى أمنية.
وفضلًا عمَّا سبق، فإن خطة التعافي ما زالت في مراحلها الأولى وعدة تحديات تواجه تطبيقها داخليًّا وخارجيًّا، الخارجية منها:
– قرار المجتمع الدولي بالبدء بمساعدة لبنان وانتشاله من أزماته السياسية والاقتصادية، وقد فشلت المبادرة الفرنسية سابقًا التي واكبت الأزمة منذ بداياتها في وقف الانهيار لغياب هذا القرار.
– القرار العربي وخاصة الخليجي باحتضان لبنان من جديد وتوفير الدعم المالي المطلوب للخروج من أزمته.
– موافقة صندوق النقد الدولي عليها واعتمادها منطلقًا للإصلاح والتعافي المالي والنهوض الاقتصادي الذي يبدأ بتحسين سعر صرف الليرة وعودة الثقة بالقطاع المصرفي.
– إجراء الإصلاحات المطلوبة دوليًّا المرتبطة بمكافحة الفساد والحوكمة وإصلاح الإدارات العامة وغيرها.
وأخيرًا، قد يكون ملف ترسيم الحدود البحرية واستخراج النفط والغاز أحد أبرز تحديات هذه المرحلة لحاجة لبنان إلى الموارد المالية، ولتداعياته السياسية التي قد تنتهي في بعض الاحتمالات بحرب جديدة.
أما الداخلية فتتمحور حول:
– تشكيل حكومة بفترة وجيزة؛ حيث إن مدة ولايتها ستكون قصيرة جدًّا تنتهي مع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الحالي، في 31 أكتوبر/تشرين الأول القادم (2022). السوابق التاريخية تدل على صعوبة ذلك؛ مما يقوِّي من فرضية استمرار الفراغ الحكومي لفترة طويلة واستمرار حكومة تصريف الأعمال.
– الإجماع على صوابية الخطة المقررة في تحقيق التعافي، وتبنِّي الحكومة العتيدة في حال تشكيلها نفس الخطة بكل مندرجاتها ومبادئها؛ إذ إن حكومة نجيب ميقاتي لم تتبنَّ “الخطة الإصلاحية للحكومة” التي أقرتها الحكومة السابقة برئاسة حسان دياب. بل اقترحت حكومة ميقاتي خطة مغايرة تمامًا؛ مما يجعل تكرار الأمر وارد الحدوث إلا إذا أُعيد تكليف الأخير بتشكيل الحكومة الجديدة.
– قبول جمعية مصارف لبنان بالخطة المقترحة لما تملكه من تأثيرات واضحة على مراكز القرار في الدولة اللبنانية. وقد قدمت جمعية المصارف خطتها الخاصة في مايو/أيار 2020، وهي تقوم بالدرجة الأولى على “إنشاء صندوق حكومي لتخفيف الدين عبر مساهمة الحكومة من خلال الأصول والممتلكات العامة بقيمة 40 مليار دولار، يملك مصرف لبنان كامل الأسهم به، على أن يتم نقل كل الديون إلى الصندوق وفي المقابل تُشطب كامل محفظة الديون مقابل الأصول المملوكة للصندوق”.
– إقرار الخطة في المجلس النيابي والقبول بإجراءات غير شعبوية، وإقرار القوانين اللازمة لها مثل قانون السرية المصرفية والقبول بتحميل المودعين جزءًا من الخسائر.
اعتاد اللبنانيون في الفترة الماضية على التعايش مع الأزمة والتكيف معها، ساعدهم على ذلك: تدخلات جزئية ومؤقتة من قبل أصحاب الحُكم والقرار، وأحيانًا مساعدات خارجية ما، إضافة إلى تحويلات الأهل والأقارب المغتربين. وبحسب بيانات مصرف لبنان، فإنه لا يزال يتمتع (أي المصرف) بقدرة -ولو محدودة- على التخفيف من حدة الأزمات وعند مستوى معين ولفترة زمنية محدودة، ما يساعد الطبقة السياسية على كسب بعض الوقت وتجاوز بعض المراحل التي ليست لمصلحتهم.
أما بالنسبة للمجتمع الدولي، فإنه لن يسمح بانهيار الهيكل اللبناني كليًّا لاعتبارات عديدة، وسيستمر في تقديم المساعدات الضرورية للبنان خاصة على الصعيد الإنساني وكذلك للقوى العسكرية والأمنية كي تستمر في أداء مهامها.
خاتمة
لم تنجح المبادرة الفرنسية في تحقيق أبرز أهدافها إلا أنها منعت لبنان من الانهيار الكامل، وساعدت على تشكيل حكومة أقرَّت خطة للتعافي المالي في يومها الأخير وغير مكتملة؛ ما يؤكد أن الظروف الدولية لم تنضج حتى الآن لوضع الحلول للأزمة اللبنانية. لم تنل الخطة إجماعًا وطنيًّا وأثارت لغطًا كبيرًا حول بنودها وخاصة فيما يرتبط بأموال المودعين وحقوقهم. ولم تطرح الخطة حلولًا عملية لأهم قضية في الأزمة وهي تدهور سعر صرف الليرة مقابل الدولار. وأغفلت الخطة قضايا عديدة مثل الفساد والحوكمة وإصلاح الإدارات العامة وحل مشكلة الطاقة وركزت على جانب الإصلاح المالي فحسب.
أما من حيث السياسة، فإن خلافات القوى السياسية وصراعاتها، بكل أطيافها التقليدية منها والتغييرية، ستنعكس مزيدًا من التدهور الاقتصادي. وليس المطلوب من القوى السياسية الاتفاق على تشكيل حكومة فقط، ولا انتخاب رئيس للجمهورية لاحقًا فقط، بل المطلوب تحقيق إجماع وطني على خطة تعاف وطنية تعيد ترتيب الأولويات الاقتصادية، والعلاقات السياسية وبالأخص مع دول الخليج العربي، والتي كان سوء العلاقة معها سببًا لغياب نشاطها الاقتصادي مع لبنان ولغياب مساعداتها الخارجية.