مقالات

bawwababaalbeck

كنتُ في طهران.. وهذا ما شاهدته وما سمعته

  • في لقائنا الكريم هذا ، سأتحدث عن إشكالية مهنية ، باتت تعقيداتها متفرعة إلى ما هو مهني ومعرفي وتعبيري وتواصلي .
  • أقصد بذلك : اللغة و الإعلام ، أو الإعلام واللغة .
  • عمليا وعلميا ، حين نتحدث عن الإعلام ، نستحضر اللغة ، إذ لا إعلام من دون لغة ، فمهنة الإعلام هي مهنة التعاطي مع الكلمة ومع الجملة ومع الصرف والنحو والدلالة والمعنى ، أي أن الإعلام في أحد جوانبه هو مهنة لغوية ، او مهنة في اللغة ، أقول في أحد جوانبه .
  • واللغة هي تعبير عن التفكير ، وهي في الوقت ذاته أداة اتصال وتواصل بين الأفراد والأفراد وبين الجماعات والجماعات ، وهنا نقع على جانبين آخرين من مهنة الإعلام : التفكير والتواصل مع المتلقي أو الإتصال معه ، وعلى هذه الحال ، تكون اللغة هي الوسيلة التي تُنقل من خلالها الأفكار / الوقائع / الأحداث / .
  • لغة التفكير هي اللغة الصامتة ، ولغة التعبير هي اللغة الناطقة ، بالصوت أو بالكلمة ، وهنا لا بأس أن نستدعي ما يقوله الفيلسوف أرسطو : لا يكفي ان تعرف ما تقوله ، بل يجب أن تعرف كيف تقوله .
  • هنا بيت القصيد : كيف نعرف ما نقوله ؟ لفظا أو كتابة ؟
  • هنا نعود مرة أخرى إلى اللغة .
  • في وقائعنا اليومية نقف في أحيان كثيرة أمام التالي :
  • ـ أولا : مشهد تلفزيوني : مذيع او مقدم برامج يتعثر في اختيار المفردات المناسبة ، فيضيع مضمون السؤال وتتشابك معان عدة في المفردة الواحدة ، فيبدو السؤال غامضا أو مفككا أو تائها بلا مقصد ولا غاية .
  • ـ ثانيا : في مقالة صحافية : تعقيد في النص ، تكرار للمفردات ، وكثرة استخدام ما يسمى بالمشترك اللفظي ( هذه سأعود إليها بعد قليل ).
  • ـ ثالثا : كثافة الأخطاء النحوية .
  • علام يدل ذلك ؟
  • إن ذلك يدل إلى الفقر اللغوي ، وكلما اتسع هذا الفقر ضاق المعجم اللغوي ، وكلما ضاق المعجم اللغوي يضيق معه حجم المفردات فيتوه المعنى ، وعلى الضد من ذلك : كلما اتسع المعجم اللغوي يتسع معه حجم المفردات فيتضح المعنى ويغدو أكثر دقة .
  • ـ السؤال هنا : كيف نقترب من وضوح المعنى ودقته ؟
  • ـ الإجابة : عبرالقراءة ، وها نحن نعود مرة أخرى إلى التعامل مع اللغة .
  • وحين نتحدث هنا عن اللغة ، فالمقصود هو الأدب ، وفي هذا الجانب ، لا بد من الإستشهاد بما يقوله محمد حسنين هيكل : كل صحافي حكائي أو نصف روائي ، وأيضا فالتوقف عند ما يقوله نجيب محفوظ : كل صحافي نصف شاعر ونصف أديب ، وفي هذين الإستشهادين ما يوجز إلى حد كبير تلك العلاقة بين الإعلام واللغة أو بين الصحافة واللغة ،إذ لا إعلام حقيقيا من دون لغة وافية ، وذروة اللغة في الأدب ، حيث الحفر بالكلمات ميزة هذا العلم أو هذا الفن .
  • طبعا لا يعني ذلك ، الخلط او الجمع بين اللغة الإعلامية أو اللغة الأدبية ، فكل منهما علم قائم بنفسه ، ولكل منهما غاية مختلفة عن الأخرى ، ولكن الإعلام بما هو مهنة تتعاطى مع الكلمة واللغة ، فلا مناص من التعاطي معهما إلا بمهابة وجلال ، ولا يعني ذلك بوجه من الأوجه اللجوء إلى اللغة المتعالية او المستكبرة ، فهذا ليس مطلوبا على الإطلاق ، إنما المطلوب اختيار المفردة الدقيقة للحصول على المعنى الدقيق ، ولا يتأتى هذا الأمر إلا من خلال اتساع المعجم اللغوي للإعلامي أو الصحافي ، وسبيله إلى ذلك قراءة الأدب .
  • ـ الإبتعاد عن المشتركات اللفظية : إن القراءة ، وقراءة الأدب بالتحديد تبعد الإعلامي عن المشتركات اللفظية او اللغوية ،وهذه المشتركات هي مفردات لكل مفردة معان متعددة ، واستخدام هذه المفردات يؤدي إلى تعدد المعنى ، فالكاتب أو المذيع او المحاور قد يقصد شيئا والمتلقي قد يفهم معنى آخر، وقيمة اللغة هنا ليس فقط بما يقوله الكاتب أو المذيع بل بما يفهمه المتلقي ، ولغة الإعلام تفقد رسالتها حينما يتعدد المعنى ويتعثر الفهم أو يقع المعنى في فخ الغموض، أو عندما يصل المعنى غامضا وملتبسا إلى المتلقي .
  • ولذلك لا قيمة لمقاصد الإعلامي من قوله أو نصه إلا بقدر ما يفهم الجمهور هذه المقاصد ، وليس مهما أن يعرف الإعلامي مقاصده بل المهم أن يعرف الجمهور ما يقصده الإعلامي ، وكل تقصير في إيصال المقاصد يتحمل الإعلامي أوزاره .
  • ـ في قواعد اللغة : مرة أخرى لا بد من القول بأن مهنة الإعلام هي مهنة باللغة ، وعلى هذه الحال ، فمعرفة الحد الأدنى من قواعد اللغة أكثر من واجب وأكثر من ضرورة ، فمن غير المقبول ألا يعرف الإعلامي أو الصحافي المبتدأ والخبر ، أو الجملة الإسمية والجملة الفعلية أو شبه الجملة ، أو لا يعرف كان وأخواتها وإن واخواتها ، وكذلك الجار والمجرور ، ومن المعيب على سبيل المثال أن يقال كان اللبنانيين أو كان المصريين والسوريين ، ومن يكتب على هذا الوجه أو ينطق على هذا النحو ، فهو ليس إعلاميا ، وحين أقول ليس إعلاميا أقصد ما أقوله تماما ، فهو لا يقرأ ولا يريد أن يتعلم ، وبالمناسبة ، أغلبنا بدأ في عمله المهني من دون الحد اللغوي الأدنى ربما ، ولكن الإصرار على التعلم والشغف بالمهنة أديا إلى ما أسميه التآلف مع قواعد اللغة ، وإلى حدود بات معها الشعور بالإختناق حين تطرق الآذان أصداء تحطيم قواعد الحد الأدنى من اللغة .
  • ـ في لغة النخبة ولغبة الإبتذال : الإعلام أعود وأكرر بأنه مهنة باللغة ، وهذه المهنة هي مهنة نخبوية وتعليمية ولكنها ليست مهنة متعالية أو مستكبرة ، لا أبدا ولا مطلقا ، والمقصود بالنخبوية أنها نقيض الإبتذال ، والمقصود بالتعليمية أن من مسؤولية الإعلامي نقل المعرفة بالأشياء إلى الجمهور ، فالإعلام بجذره اللغوي هو الإخبار بالشيء والتعريف به ، والتعريف هو معرفة ، والمعرفة هي علم ، ولذلك فلغة الإعلام أبعد ما يمكن عن لغة الإبتذال أو لغة السوقة بتعبير آخر، وما نشاهده أو نسمعه منذ سنوات في ـ ومن ـ بعض وسائل الإعلام ( أضعها بين قوسين ) من لغة متدنية ومبتذلة ، هو نتاج الإنهيار العام الذي نعيشه ، حيث اختلطت المعايير والقواعد ، واقتحمت لغة السوقة الفضاء العام ، مثل أشياء أخرى بتنا نعايشها : ومن نماذجها الفن الهابط والشعر مكسور الأوزان وشيوع لغة الشتيمة ، كل ذلك تعبيرات عن رداءة الواقع ، ولكنه ليس إعلاما ولا فنا ولا شعرا ولا هو وسيلة التواصل بين أفراد المجتمع .
  • ـ في الفصحى والعامية : يشكو كثيرون من صعوبة استخدام اللغة الفصحى ، ولا نتحدث هنا عن لغة الأدب الجاهلي أو الأموي أو العباسي ، الحديث يدور عن اللغة الفصحى الحية والمتداولة ، وهذه الشكوى تدفع بكثيرين إلى استخدام اللغة أو اللهجة العامية ، ظنا منهم أن العامية لها ميزة القدرة على التعبير أكثر من الفصحى ، هذا خطأ فاحش ، المعجم اللغوي في الفصحى أوسع وأضخم بما لا يقاس مع العامية ، والأخيرة قاموسها ضيق ولا يطال دقة المعنى ولا وضوحه في أحيان كثيرة بل في معظم الأحيان ، طبعا أنا لستُ من دعاة استخدام اللغة المتحجرة ولا لغة أمرؤ القيس ولا حتى لغة نزار قباني أو أبي القاسم الشابي ، هناك لغة وسطى في الإعلام يطلقون عليها اللغة البيضاء، لا هي مستعصية ولا هي مستسهلة ، موقعها في منزلة بين المنزلتين ، وأما الذهاب إلى الإستسهال في استخدام المفردات أو في بناء النص ، فذلك ليس من مهنة الإعلام ، ومن يسلك هذا المسلك سرعان ما يغادر المهنة ، فالعامية هي استسهال المهنة وخرق لقواعدها ، وأي استسهال لأي مهنة ومهما كانت ، مآله مغادرة المهنة .
  • هنا من المهم أن أقول الآتي :
  • في مرحلة من المراحل علا النقاش حول شكل الأغنية العربية وهل تكون في الفصحى أو في العامية ؟
  • أصوات ليست قليلة قالت الأغنية بالعامية تصل أسرع وأسهل إلى الجمهور ، ولكن هناك من أثبت العكس ، القصائد التي تغتيها أم كلثوم مثل ” الأطلال ” و ” أغدا ألقاك ” و ” هذه ليلتي ” وغيرها لا يقل رواجها على الإطلاق وحتى هذه الآونة عن أية اغنية أخرى بالعامية ، وكذلك الأغاني التي غنتها فيروز ونجاة الصغيرة وعبد الحليم الحافظ ومارسيل خليفة وأحمد قعبور وخالد الهبر وغيرهم ، وهنا أنقل رأيا لمنصور الرحباني وكان يتحدث عن أغنية ” غنيتُ مكة ” فقال ” إن الملحن القدير لا يستصعب الكلمات بل يتجول في حقولها ” ، وهكذا الإعلامي القدير لا يستصعب اللغة الفصحى ولا يفر منها إلى استسهال العامية ، بل إن الإعلامي يتجول في مجال اللغة الفصحى وفي مفرداتها وفي معانيها ، وإلا لن يكون إعلاميا ولا يكون من أبناء المهنة .
  • أخيرا أختم بما قاله أحد أقطاب الصحافة اللبنانية والعربية سعيد فريحة مؤسس دار ” الصياد ” وناشر صحيفة ” الأنوار ” ، ففي محاضرة له في الحادي عشر من نيسان / ابريل 1969 قال ” من أجل أن يظل صوت الصحافة عاليا يجب أن تكون أخطاؤنا أقل ومتاعبنا أكثر “.
  • توفيق شومان ـ بيروت ـ قاعة خالد علوان ـ 25 ـ 6 ـ 2023
  • ……………………………………………………….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى