الرد الإيراني والجغرافيا السياسية المتحولة
الکاتب أحمد الدرزي
كاتب سوري.
بعد مضي عام على موعد الزيارة المؤجلة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى العراق لأسباب كانت مجهولة، توجه هذه المرة إلى بغداد ليلتقي رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني الذي زار واشنطن قبل لقاء بغداد، ويوقع معه على 27 اتفاقاً يشمل كل النواحي الاقتصادية والسياسية والدينية والثقافية والأمنية والعسكرية، بما يتيح لتركيا أن تكون البديل الكامل من الولايات المتحدة في إدارة شؤون العراق، بما يدفع به إلى حسم انقسامه الداخلي بين محور المقاومة الذي تقوده إيران ومحور النظام الغربي الذي تُعتبر فيه تركيا جزءاً أساسياً من حلف الناتو العسكري.
كان من الواضح كنتيجة لعملية “طوفان الأقصى” التي دفعت الأميركيين إلى التفكير في خطط جديدة لكسر ترابط محور المقاومة، الذي يمتد من حدود أفغانستان إلى شرق المتوسط والبحر الأحمر والخليج، بعد ظهور بوادر العجز الغربي عن كسر المحور وتفكيكه، ابتداءً من غزة التي ما زالت مستمرة في مواجهة حرب الإبادة.
وقد بدأت ملامح المشروع الأميركي مع توجه وزير الخارجية التركي حقان فيدان ومعه مسؤول الاستخبارات إبراهيم قالن إلى واشنطن في 9 مارس/آذار الماضي، ثم توجههما مع وزير الدفاع ومعاون وزير الداخلية التركيين إلى العراق، ثم بدأت مياه دجلة تتدفق في قناة الثرثار نحو نهر الفرات كإشارة إلى تعويض العراق عن مياه نهر الفرات الذي حُجب الجزء الأكبر منه عن سوريا التي لا ينبغي لها أن تخرج من محنتها.
استطاعت الولايات المتحدة أن تمسك بمفاصل البلدين بأزمان مختلفة. وقد بدأت مع تركيا في إثر انضمامها إلى حلف الناتو عام 1952، وأصبحت المتحكمة في مجمل الحكومات التي تتابعت على حكم تركيا، واستبعدت بالانقلابات العسكرية الحكومات التي حاولت استعادة استقلالها أو توازنها السياسي بدءاً من عدنان مندريس، وانتهاءً بنجم الدين أربكان، إضافة إلى إمساكها بالاقتصاد التركي بعد ضخ استثمارات غربية بقيمة 2 تريليون دولار بعد الانقلاب المدني الذي قاده حزب العدالة والتنمية في إثر شق حزب الرفاه وظهور حزب العدالة والتنمية وفوزه بالانتخابات البرلمانية عام 2002، الذي صعد نجمه بعد استثماره تدفق الاستثمارات الغربية التي تسيطر على القرار السياسي والاقتصادي التركي.
العراق في المقابل دفع أثماناً باهظة على يد رئيسه صدام حسين قبل احتلاله عام 2003 بفعل الحروب المتتالية التي خاضها، وزادت الأثمان بعد الاحتلال الأميركي له بسيطرته على مفاصل العملية السياسية بإنتاجه طبقة سياسية متنوعة ومنهمكة بالحفاظ على تدفق الأموال الخاصة، إضافة إلى استمرار تسليط سيف العقوبات عليه تحت البند السابع، والتحكم في ثروته النفطية واستمرار إيداع أثمانها في مصارف الولايات المتحدة، عدا عن منعها من حصول نهضة اقتصادية علمية جديدة في العراق والدفع بالمجتمع العراقي كي يتحول إلى النمط الاستهلاكي فقط.
كان لعملية “الوعد الصادق” الثانية دور كبير معزز لعملية “طوفان الأقصى”، ما فاقم من المخاوف الغربية، ومعها الدول الإقليمية (دول عربية وتركيا)، من جراء عملين متآزرين متكاملين لا ينفصلان عن بعضهما البعض في رسم مشهد للجغرافيا السياسية لمنطقة غرب آسيا، وخصوصاً تركيا التي خسرت كثيراً من جراء تناقض سياساتها بين دغدغة مشاعر المسلمين بعنوان مشروع استعادة الخلافة واستمرارها في دعم الكيان الصهيوني بكل مستلزماته في حربه على غزة، ابتداءً من المياه التي يشربها جنود الاحتلال، مروراً بالأسلاك الشائكة لحصار القدس، وانتهاءً بالذخائر العسكرية، وهذه إحدى أهم العوامل التي أدت إلى هزيمة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية.
دفع العجز الإسرائيلي عن إنهاء حركتي حماس والجهاد في غزة، إضافة إلى العجز عن التأثير في خيارات قوى المقاومة في لبنان واليمن والعراق وسوريا، والتي ترافقت مع تعاظم الدور الإقليمي لإيران بعد الرد العسكري المباشر لها داخل الأراضي المحتلة، إلى أن تأخذ قراراً بإحياء الدور التركي كقوة إقليمية كبرى لها وزنها في حسابات الجغرافيا السياسية، وتستطيع أن تؤثر في حركات المقاومة في فلسطين بالعنوان المذهبي والتنظيمي، وهذا الدور يحتاج إلى إبراز خطاب جديد على لسان مسؤولي حزب العدالة والتنمية يستطيع دغدغة مشاعر الأتراك المحافظين ويوقف تراجع شعبيته وانتقالها تصاعدياً نحو حزب الرفاه الجديد بقيادة فاتح نجم الدين أربكان المتجذر بعدائه للصهيونية، إضافةً إلى العرب المسلمين في فلسطين وبقية الدول العربية، تأهيلاً للمرحلة القادمة، لتكون تركيا عراب التسويات وعنواناً لنصر لم يحصل، يشبع الرغبات العربية الداخلية المهزومة والباحثة عن انتصار يخرجها من تاريخها المليء بالإحباط.
وعلى الرغم من أن مسار ترتيب العلاقات التركية العراقية بدأ في التاسع من مارس/آذار الماضي، فإنها دفعت بالجانب الأميركي كي يكون أكثر إصراراً على دمج البلدين بسرعة أكبر بمشروع أكبر منهما لتشكيل جغرافيا سياسية جديدة، تمتد من الإمارات والسعودية إلى العراق وتركيا عبر طريق التنمية المزمع إنشاؤه بين هذه الدول، ويتم الرهان على فعالية هذا المشروع بتحقيق تحقيق مجموعة أهداف.
الأول: وهو الأهم، ويعتبر مقدمة للأهداف الأخرى، هو تقطيع أوصال التواصل البري لقوى المقاومة، وبالتالي سهولة تفكيكها بما يضمن بقاء الكيان الصهيوني في بيئة عربية وإقليمية حافظة له وتسير تحت إدارته لها وهيمنته عليها.
الثاني: إفقاد إيران أهميتها الجيوسياسية ودورها المهم في استمرار الانكفاء الأميركي في منطقة غرب آسيا، واستبعادها من النظام الإقليمي المتجدد بصيغة جديدة.
الثالث: إفشال مشروع النقل البري البحري الممتد من سان بطرسبورغ وانتهاءً بالهند عبر إيران، ما يدفع بالمزيد من الضغوط على الدول الثلاث لبقائها ضمن النظام المالي العالمي للولايات المتحدة وخضوعها له.
الرابع: محاصرة الصين بإفشال مشروعها الأخطر على النظام الغربي و”مبادرة الحزام والطريق” بإنهاء عقدته في إيران وقطع امتداد شرق المتوسط إلى كامل البر الآسيوي.
ما فرص نجاح المشروع الأميركي في دمج العراق وتركيا في نظام إقليمي جديد؟
أوراق القوة
1-التحكم في العملية السياسية في البلدين، فمعظم القوى السياسية المتصارعة في البلدين تخوض صراعاتها تحت المظلة الأميركية.
2-حاجة البلدين إلى بعضهما البعض، وخصوصاً تركيا التي تحتاج إلى العراق الذي يعتبر خامس أكبر دولة مستوردة العالم، وهو يستطيع أن ينقذها بتدفق البضائع إليه وتوليها تنفيذ الاستثمارات الكبرى بديلاً من الصين، وفي الوقت نفسه يحل العراق مشكلته المائية بعيداً من سوريا.
3- استمرار وجود القواعد العسكرية الأميركية في كلا البلدين ودورها في ضبط الصراعات الداخلية ضمنهما وتحديد خياراتهما السياسية.
4- قدرتها على التحكم في المسارات الاقتصادية لكلا البلدين، فحياتهما مرتبطتان بتدفق الاستثمارات الغربية إلى تركيا وإفراجها عن أموال النفط العراقية المحتبسة في المصارف الأميركية بالنسبة إلى العراق.
أوراق الضعف
1- اهتزاز الوظيفة الاستراتيجية للكيان الصهيوني في منطقة غربي آسيا منذ السابع من أكتوبر الماضي وبعد عملية “الوعد الصادق الثانية” الرادعة له ولبقية الأطراف.
2- القدرة الإيرانية على تعطيل المشروع، معززة بحليفيها الدوليين روسيا والصين اللذين سيخسران الكثير بخسارة إيران.
3- دور قوى المقاومة في منطقة غرب آسيا وتحكمها في المضائق البحرية المؤثرة في حركة التجارة العالمية.
4- وجود القواعد الأميركية تحت رحمة صواريخ ومسيرات إيران وقوى المقاومة في كل المنطقة، وليس في العراق وحده.
5- تجذر المقاومة العراقية في بنية المجتمع العراقي وتوسعها القانوني بالقدرات البشرية والعسكرية، ولا يمكن تجاوزها في السياسات العراقية داخلياً وخارجياً.
6- قد يكون هناك دور “إسرائيلي” في عرقلة نجاح هذا التوجه الأميركي، فطريق التنمية العراقي التركي سيترك آثاره في خط الهند إلى حيفا عبر الإمارات والسعودية والأردن، إلا إذا كان الأميركيون غير جادِّين فيه، كما أن تعاظم الدور التركي إقليمياً سيترك آثاره في الدور الإسرائيلي، وهو أمر لا يسمح به لأي دولة في المنطقة بأن تتعاظم قوتها، مهما كانت خاضعة له.
أمام هذا الصراع على تغيير خرائط الجغرافيا السياسية للعالم واستمرار الولايات المتحدة في تصعيدها الصراع المتناثر في مناطق العالم بمستويات وأشكال مختلفة، وخصوصاً بعد إقرار الكونغرس الأميركي حزمة المساعدات المالية والعسكرية بقيمة 95 مليار دولار لكل من “أوكرانيا وإسرائيل وتايوان”، بما يؤكد استمرار الصراع الدولي على بنية نظامه مع التهديدات المتصاعدة من جراء التقدم الواضح للدول الآسيوية الثلاث، والأهم أن الأميركيين لم يستطيعوا تقبل مجمل التحولات العالمية، وخصوصاً في منطقة غرب آسيا التي تعتبر مركز العالم، والتي تحدد مستقبل النظام الدولي.
وبالرغم من امتلاك الولايات المتحدة الكثير من أوراق القوة وتَصدّرها حتى الآن كقوة مهيمنة وحيدة، فإن هذا الصراع ثبَّت قواعد جديدة بتقدم القوى المناهضة على حساب انكفاء مستمر لها، توضَّحَ بامتناع الولايات المتحدة عن الدفاع عن السعودية في إثر استهداف أنصار الله للمنشآت النفطية في أقبيق في المنطقة الشرقية 2019.
وقد أصبحت المنطقة أمام المزيد من التحديات والعديد من الضحايا، في مقدمتهم حزب العمال الكردستاني الذي لم يقرأ المشهد السياسي الدولي جيداً، وراهن على إمكانية الاستفادة من وجود الولايات في سوريا والعراق في تغيير الواقع السياسي للكرد في سوريا على حساب تركيا، الركن الأهم في تنفيذ سياسات حلف الناتو، إلا إذا استطاع أن يغير من رهاناته وتحالفاته بما ينسجم مع عدائه الأيديولوجي لنظام “الحداثة الرأسمالية” وفقاً لتسميته، ومفرزها الأساس وهو الدولة القومية.
رغم صعوبة المرحلة القادمة والتهديدات المستمرة، فإن واقع محور المقاومة يؤكد بمساره العام قدرته على مراكمة مكتسباته باعتماده سياسة “الدفاع المتقدم”. وقد أصبح أحد أهم اللاعبين في الجغرافيا السياسية العالمية، وهو لن يعجز عن إيجاد طرق لتقويض المزيد من الهيمنة الغربية، وهو المؤهل أكثر من أي قوة إقليمية أُخرى لملء فراغ التراجع الأميركي المستمر عبر بوابة فلسطين التي تختزل الصراع الدولي.