طوفان الأقصى.. قوى المقاومة وسؤال اليوم التالي…أحمد الدرزي
تحت عنوان :
من اليوم الأول لحصول عملية “طوفان الأقصى” كان واضحاً أن العالم أجمع ذاهب إلى مسار جديد من التاريخ، وهو يشكل فرصة ذهبية للنظام العربي لتغيير الرهانات وإعادة التموضع التدريجي من خارج الاستقطاب المستمر ضمن بنية النظام الغربي.
تتسارع الأحداث المرتبطة بتداعيات عملية طوفان الأقصى في سباق واضح بين العمل على إيقاف خسائر استمرار الحرب على النظام الغربي واستمرار التعويل على تحقيق إنجاز عسكري واضح يتيح للكيان الصهيوني ومعه النظام الغربي الإعلان عن انتصار ما قبل إيقاف إطلاق النار، وهذا الأمر قد يأخذ أشهراً عدة، وربما أكثر، وقد يحصل بشكل مفاجئ خلال ساعات أو أيام تبعاً لقدرة الحسم بين تيارين بدآ بالبروز داخل النظام الغربي في إثر بدء الاعتراف بدولة فلسطين.
وهنا يبرز السؤال الذي طرحه وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكين قبل بدء “الجيش” الصهيوني بحربه البرية: “ماذا عن اليوم التالي للحرب؟”.
وفي المقابل، وفي الطرف الآخر من المواجهة، المتمثل بمحور المقاومة الذي يخوض أطول الحروب منذ 9 أشهر وهو مطمئن إلى نتائجها من دون أن يطرح السؤال عن اليوم التالي لوقف إطلاق النار.
على الرغم من كون السؤال مرتبطاً بقطاع غزة بالتحديد، فإنه بمحتواه الحقيقي يحمل أبعاداً تتجاوزها إلى مستقبل كامل فلسطين كهدف بعيد المدى، ومعها منطقة غرب آسيا بأكملها، التي انقسمت بشكل واضح في هذه الحرب بين قوى المقاومة التي تقودها طهران مع تأييد كويتي قطري عُماني صامت نسبياً، وارتباك العراق الرسمي، وصمت سوري رسمي له أسبابه الخاصة، وبين مجمل بقية النظام العربي الآخر الذي لم يستطع تقدير الموقف جيداً رغم الهزيمة الأولى التي تحققت في يوم السابع من أكتوبر، كأن القلق مما تعتبره كارثياً على مستقبل أدوار دولها الإقليمية في هذه المنطقة دفعها إلى التورط غير المعلن رسمياً لدعم منع هزيمة الكيان الذي ارتبطت رهاناتها المستقبلية عليه، كما أن القلق دفعها أيضاً إلى عدم التورط أكثر بفعل ما يعمل عليه الكيان من تغييرات ديموغرافية داخل فلسطين تنعكس مباشرة على مصر والأردن.
كان واضحاً من اليوم الأول لحصول عملية “طوفان الأقصى” أن العالم أجمع ذاهب إلى مسار جديد من التاريخ، وهو يشكل فرصة ذهبية للنظام العربي لتغيير الرهانات وإعادة التموضع التدريجي من خارج الاستقطاب المستمر ضمن بنية النظام الغربي والذهاب نحو استقلال حقيقي يحقق له دوراً إقليمياً بناءً على قدراته الذاتية، وليس على ما يُمنح له من دور مرسوم وفق مقتضيات المصلحة الغربية الإسرائيلية، ولكن الحسابات السياسية والخشية من سقوط ما تم بناؤه خلال عقود من الزمن، بما في ذلك تسارع بناء “المشروع الإبراهيمي” في العقد الأخير، كمظلة جامعة له مع “إسرائيل”، عدا عن الخوف من عودة الإسلام السياسي إلى واجهة الأحداث داخل دوله كنتيجة لانتصار حركة حماس بجذورها التاريخية مع عدم القدرة على الإدراك بأنها من الناحية الحقيقية حركة وطنية فلسطينية وفقاً لميثاقها عام 1995 ومكان مقاومتها في أرض فلسطين، وعدم التمييز بين خطها العام وبين بعضها الذي ارتكب خطأً فاحشاً بالتورط في الحرب السورية.
الفرصة الحقيقية للإجابة عن سؤال اليوم التالي لإيقاف إطلاق النار في غزة هي مسؤولية قوى المقاومة في مواجهة السؤال نفسه لدى النظام الغربي ومعه النظام العربي، وهذه هي الفرصة الأولى التي تتاح لمنطقة غرب آسيا كي تعود ضمن مشروع طويل المدى لإعادتها إلى سياقها التاريخي الطبيعي كمركز للعالم القديم الذي انبثقت منه الحضارات والإمبراطوريات في الأعوام الخمسة التي مضت في منطقة جغرافية شاسعة تمتد من الهضبة الإيرانية إلى هضبة الأناضول ثم وادي النيل، قبل أن يخرج منه الفعل في القرنين الماضيين بعد صعود النظام الغربي المُنهك للشعوب وما قام به من تحطيم له وبناء أنظمة سياسية يُختزل دورها كحراس للحدود الفاصلة بين شعوبها المتداخلة في ما بينها، وما كانت لهذه الفرصة أن تتحقق لولا تراكم إنجازات قوى المقاومة على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن، وخصوصاً بإبداعها الأهم والأكبر بعد عملية “طوفان الأقصى” وإنجازات الحرب المركبة طويلة المدى المستمرة حتى الآن.
لا شك في أن منطقة غرب آسيا التي تشمل مصر معها ما زالت تدفع أثماناً باهظة منذ أكثر من قرن من الزمن من جراء تداعيات انهيار الإمبراطورية العثمانية بفعل التآكل الذاتي من جهة، وتحكم النظام الغربي برسم الحدود الفاصلة بين شعوب متداخلة لا يمكن الفصل في ما بينها من جهة ثانية، والأخطر من ذلك هو إنشاء كيان غريب مهمته كبح جماح التطور الطبيعي فيها قبل اكتشاف النفط والغاز.
تشكل عملية طوفان الأقصى وما نجم عنها من تداعيات مستمرة حتى الآن بداية فرصة حقيقية للخروج من قاع الهاوية التي وصلت إليها المنطقة العربية بشكل خاص، وهي تمنح المزيد من الفرص مع استمرار الحرب المترافقة بعجز واضح لدى النظام الغربي برأس حربته الكيان الصهيوني عن الوصول إلى أهدافه التي وضعها لنفسه، بل يزداد ابتعاداً عن ذلك، وهذا الأمر رهن بإجابة قوى المقاومة عن رؤيتها لمستقبل المنطقة: كيف يمكنها أن تتوجه نحو مشروع التكامل الإقليمي في مواجهة استمرار المشروع الغربي بالمزيد من من التحطيم الداخلي لنتائج سايكس بيكو، استباقاً لتبلور النظام الدولي الجديد بعد حروب سوريا وأوكرانيا وفلسطين، ليكون للمنطقة دور محوري في العالم الجديد!
العقبات الأساسية أمام التكامل الإقليمي
العقبة الأولى: استمرار بقاء النظام الغربي عبر وجوده المباشر بما في ذلك الكيان الصهيوني الأهم بوجوده. كل المؤشرات والمعطيات الحالية، وبعدما قاربنا على الدخول في الشهر التاسع من الحرب، تؤكد أننا أمام واقع جيوسياسي جديد في المنطقة تختلف فيه المعادلات في العلاقة بين الدول المتناقضة في ما بينها حول تصوراتها لطبيعة الحرب واصطفافاتها ولما بعد الحرب التي ستدفع أغلب الدول إلى إعادة تدوير الزوايا في النظر إلى الواقع الإقليمي، وخصوصاً أن الرهانات على الكيان كقوة رادعة لكل دول وشعوب المنطقة سقطت من الناحية العملية منذ السابع من أكتوبر، وهو إلى مزيد من التآكل، وهذا بدوره سيجبر العقل السياسي الحاكم في هذه المنطقة على أن ينظر إلى مستقبل نظامه السياسي في أفق جديد، وخصوصاً إذا فشلت عملية احتواء الانتصار الثاني القادم، وهذا بطبيعته يحجم من دور العقبة الأولى والأهم أمام أي نظام إقليمي جديد.
العقبة الثانية: طبيعة التكوينات السياسية للدول العربية خاصة، فهي لم ترتقِ بعد لأن تصل إلى مرحلة بناء الدولة استناداً إلى قضية المواطنة، ويغلب عليها الخوف من انسلال حالة الاستئثار من بين أيديهم، كما أن مركباتها الهوياتية المتنوعة إثنياً ودينياً وطائفياً سيطرت بفعل الخارج على آليات بناء أنظمة سياسية متناقضة الولاءات، على عكس تركيا وإيران التي تُحكم بمؤسسات حقيقية.
العقبة الثالثة: مرتبطة بتصور كل دولة إقليمية لطبيعة دورها الإقليمي وحجمه مع طموح واضح لتصدر الدور، ما يلقي بظلاله على توجهاتها نحو التكامل الإقليمي بعيداً عن السيطرة الغربية على خياراتها المستقبلية وقدرتها على على اصطناع مسار استقلالي خاص بها. وفي كل الأحوال، فإن الواقع المستقبلي لما بعد الحرب المستمرة يسير نحو مزيد من توسع هوامش هذه الدول وخياراتها إذا ما أرادت ذلك.
العقبة الرابعة: مرتبطة باستمرار الصراع الدولي على بنية نظامه وآثار ذلك في اصطفافات دول الإقليم، حتى بالنسبة إلى القوى الآسيوية الناهضة، وخصوصاً روسيا والصين اللتين تمتلكان مشروعين يتم العمل عليهما، وهما “المشروع الأوراسي” ومشروع “مبادرة الحزام والطريق”، وهما مشروعان لم تتحدد مصالحهما حتى الآن بإمكانية ذهاب منطقة غرب آسيا نحو التكامل الإقليمي، رغم احتياجهما الكبير لدور قوى المقاومة في إخراج ثِقل وطأة النظام الغربي من كامل المنطقة.
ومع ذلك، فإن المرحلة القادمة يمكن أن تتحقق بها مجموعة من النجاحات على طريق بناء نظام إقليمي لمصلحة الجميع بالارتكاز إلى مجموعة العوامل والسياسات التي تتيح بدء العمل علي نواة للتكامل الإقليمي، وهي:
1- وصول الجميع إلى يقين كامل بأن الدور “الإسرائيلي” تضعضع إلى حد كبير، وإزالته أصبحت ممكنة خلال عقد أو عقدين من الزمن، وربما أبكر من ذلك، وفقاً لنتائج الصراع الدولي في سوريا وأوكرانيا وفلسطين، وربما لما بعد معركة تايوان.
2- التأكيد على طمأنة البنى السياسية الحالية بالتركيز على عدم التدخل بالشؤون الداخلية لهذه الدول، وقيام علاقات بينية متعاظمة وفقاً للحدود الحالية، وعدم السعي لتغيير الحدود في ما بينها، بما في ذلك إيقاف عمليات التغيير الديموغرافي المستمرة، وخصوصاً في الشمال السوري والعراقي وداخل لبنان، كامتداد للمشروع الغربي، مع وضع هدف أساسي بعيد المدى تبعاً لعمليات نجاح المشروع التكاملي الإقليمي، وصولاً إلى تحقيق الكونفيدرالية المشرقية.
3- يمكن أن يؤدي توسيع حركة المبادلات التجارية بين دول الإقليم كأولوية بديلة من المبادلات من خارج المنطقة كأولوية دوراً مهماً في تخفيف حدة الصراعات في المنطقة، والوصول إلى حالة أولية من التكامل الاقتصادي الذي يؤدي دوراً أساسياً في إعادة علاقات شعوب المنطقة إلى سياقها الطبيعي التاريخي، بعدما أُصيبت بتداعيات اللوثة القومية الأيديولوجية التي طغت على الهويات القومية الطبيعية النشأة والتطور والتحول.
4- تسهيل حركة المرور والتنقل للأفراد بين دول المنطقة بين الحدود الدولية المصنعة إلى أدنى مستوى، وبشكل تدريجي، من دون خلفيات سياسية ديموغرافية تغييرية للإخلال بالتوازن الهش بين الدول.
5- العمل على إظهار القيم الثقافية والحضارية المشتركة بين شعوب المنطقة بتسهيل حركة التنقل البينية وتبادل الخبرات العلمية فيما بينها، مع تغيير المناهج التعليمية التي تعزز العلاقات بين الشعوب بالتأكيد على التنوع الثقافي في إطار المشترك الأعظم، وخصوصاً بين العرب والفرس والترك والكرد الذين يشكلون الغالبية العظمى لسكان منطقة غرب آسيا.
قد يتصوّر البعض أنَّ هذا المشروع أقرب إلى الوهم بفعل حجم تأثير الأورومركزية على العقل السياسي، على الرغم من وصول الجميع إلى الحائط المسدود رغم التصورات التي طرحت من قبل الكارثة السورية، وهي تصورات لم تغادر النخب السياسية منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، ولكنها تعززت مع عبد الله أوجلان بمفهوم الأمة الديمقراطية. وقد طرحها الرئيس الأسد بعنوان البحار الخمسة، ولن تنتهي مع رحيل ناهض حتر وأنيس النقاش وغيرهم ممن يركزون على ضرورة خروج المنطقة من نفق نتائج ما بعد الحرب العالمية الأولى.
وهنا، يأتي دور قوى المقاومة في تعزيز هذا المسار بتشكيل نواة التكامل الإقليمي وصولاً إلى الكونفيدرالية المشرقية، ولو بعد عقود من العمل المستمر، فهل تجيب قوى المقاومة عن سؤال ما بعد “طوفان الأقصى”؟