بقلم الدكتور غازي قانصو
*في الميدان: رباطٌ وصبرٌ وتقوى وخير وفلاح*يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الْمُؤْمِنُ، يَا مَنْ رَزَقَكَ اللَّهُ نِعْمَةَ الْإِيمَانِ، يَا مَنْ نَاجَاكَ بِدُعَائِهِ وَنَادَاكَ إِلَى سَبِيلِهِ، أَطِعْ رَبَّكَ وَاخْضَعْ لِأَمْرِهِ، فَفِي كُلِّ حَرْفٍ مِنْ كَلَامِهِ حِكْمَةٌ، وَفِي كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أَوَامِرِهِ رَحْمَةٌ. أَتَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ لِتُرْشِدَنَا إِلَى مَعَالِي الْخَيْرِ، فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَتْ مِنَ الصَّبْرِ وَالتَّقْوَى وَفِعْلِ الْخَيْرِ سَبِيلًا لِلْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ.يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ الْمُؤْمِنُ، يَا مَنْ اخْتَارَكَ اللَّهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ وَأَلْبَسَكَ لِبَاسَ الْعُبُودِيَّةِ الطَّاهِرَةِ، هَا هِيَ دَعْوَتُهُ السَّامِيَةُ تُنَادِيكَ فِي سِفْرِ الْحَيَاةِ. يُخَاطِبُكَ اللَّهُ بِلُطْفِهِ، وَبِحَنَانِهِ الْأَبَدِيِّ، وَيَأْمُرُكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ تَرْتَقِي بِهِ الرُّوحُ وَتَزْهُرُ بِهِ الْحَيَاةُ؛ “ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا”، هَذَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ لَيْسَ مَحْضَ حَرَكَاتٍ تَنْحَنِي بِهَا الْأَجْسَادُ، بَلْ هُوَ انْكِسَارٌ دَاخِلِيٌّ عَمِيقٌ، اسْتِسْلَامٌ كُلِّيٌّ لِجَبَرُوتِ الْخَالِقِ وَقُوَّتِهِ، وَانْحِنَاءُ الْقَلْبِ لِمَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَإِقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا عِزَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلَا كَرَامَةَ إِلَّا فِي عِبَادَتِهِ.وَفِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْخَالِصَةِ، يَطْلُبُ مِنْكَ أَنْ “اعْبُدُوا رَبَّكُمْ”، فَأَنْتَ فِي كُلِّ سَجْدَةٍ وَكُلِّ رُكُوعٍ تُعِيدُ اتِّصَالَكَ بِرُوحِ الْكَوْنِ، تَفْتَحُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ عَلَى مِصْرَاعَيْهَا لِتَنْسَابَ الْأَنْوَارُ الْإِلَهِيَّةُ إِلَى قَلْبِكَ وَتُطَهِّرَ نَفْسَكَ مِنْ شَوَائِبِ الدُّنْيَا. عِشْ فِي حَضْرَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَكَأَنَّكَ تَرَى اللَّهَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ يَرَاكَ، فَاجْعَلْ كُلَّ عَمَلٍ وَكُلَّ نَفَسٍ وَكُلَّ خُطْوَةٍ عِبَادَةً وَتَقَرُّبًا إِلَيْهِ.أَيُّهَا الْمُؤْمِنُ، اصْبِرْ، نَعَمْ، “اصْبِرُوا” فِي الدُّنْيَا عَلَى الْمَكَارِهِ، عَلَى الشَّدَائِدِ، عَلَى مَصَاعِبِ الْأَيَّامِ وَأَحْزَانِهَا، فَإِنَّ الصَّبْرَ هُوَ السِّلَاحُ الْأَعْظَمُ فِي مُوَاجَهَةِ تِلْكَ الْعَوَاصِفِ الَّتِي تَعْصِفُ بِالْقُلُوبِ. فَالصَّبْرُ لَيْسَ مَجَرَّدَ تَحَمُّلٍ أَوْ قَسْوَةٍ، بَلْ هُوَ ثَبَاتٌ فِي الْحَقِّ، وَهُدُوءٌ دَاخِلِيٌّ يُحَصِّنُ الرُّوحَ مِنَ الْإِنْكِسَارِ. وَكُلَّمَا ضَاقَتْ بِكَ الدُّنْيَا أَوْ زَادَتْ عَلَيْكَ الْمِحَنُ، تَذَكَّرْ أَنَّ اللَّهَ يَمْتَحِنُكَ لِيُقَوِّيَّكَ، فَاصْبِرْ لَعَلَّ فِي نِهَايَةِ الطَّرِيقِ يَنْتَظِرُكَ فَرَجٌ عَظِيمٌ.ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ الصَّبْرِ، تِلْكَ الْمَرْتَبَةُ الْعَالِيَةُ الَّتِي لَا يَصِلُ إِلَيْهَا إِلَّا الْأَقْوِيَاءُ، “صَابِرُوا”؛ فَلْيَكُنْ صَبْرُكَ لَيْسَ فَقَطْ لِذَاتِكَ، بَلْ نَافِسْ فِي الصَّبْرِ وَتَجَلَّدْ فِي مَوَاطِنِ الْمِحَنِ، وَكَأَنَّمَا هِيَ سَاحَةٌ لِلنِّزَالِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الدُّنْيَا. تَذَكَّرْ أَنَّ الْحَيَاةَ تَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ مُسْتَمِرٍّ، وَأَنَّ الصَّبْرَ وَحْدَهُ لَا يَكْفِي إِذَا لَمْ تُصَاحِبْهُ قُوَّةٌ وَدِيمُومَةٌ وَمُجَاهَدَةٌ.وَفِي هَذِهِ الْمُجَاهَدَةِ، لَا تَنْسَ أَنَّ “رَابِطُوا”، أَنْ تُرَابِطَ فِي مِيدَانِ الْحَقِّ، أَنْ تَكُونَ الْحَارِسَ الْأَمِينَ عَلَى دِينِكَ، عَلَى أَخْلَاقِكَ، عَلَى قِيَمِكَ. ارْبِطْ قَلْبَكَ بِاللَّهِ، وَلَا تُفَصِّلْ نَفْسَكَ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، كَالْجُنْدِيِّ الَّذِي لَا يَغْفُلُ عَنْ سِلَاحِهِ لَحْظَةً. فَإِنَّ فِي هَذِهِ الْمُرَابَطَةِ قُوَّةً وَصُمُودًا أَمَامَ الشَّهَوَاتِ وَأَمَامَ زَلَّاتِ الدُّنْيَا.وَإِنَّمَا كُلُّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ الَّتِي أَمَرَكَ اللَّهُ بِهَا لَا تَكُونُ مَكْمَلَةً إِلَّا إِذَا صَاحَبَهَا “التَّقْوَى”، فَاتَّقِ اللَّهَ فِي كُلِّ أَمْرٍ وَنَهْيٍ. فَالتَّقْوَى هِيَ جَوْهَرُ الرُّوحِ، وَهِيَ زَادُ الطَّرِيقِ الَّذِي لَا يَنْفَدُ. التَّقْوَى تُنِيرُ الدُّرُوبَ وَتُزَكِّي الْأَعْمَالَ، فَكُلَّمَا زَادَتْ تَقْوَاكَ، زَادَ قُرْبُكَ مِنَ اللَّهِ، وَنَمَا فِيكَ الْخَيْرُ وَالصَّلَاحُ.وَأَخِيرًا، يَأْمُرُكَ اللَّهُ بِفِعْلِ الْخَيْرِ فِي كُلِّ أَوْقَاتِكَ وَأَحْوَالِكَ، “وَافْعَلُوا الْخَيْرَ”، فَفِعْلُ الْخَيْرِ لَيْسَ حَدًّا ضَيِّقًا، بَلْ هُوَ بِحْرٌ لَا سَاحِلَ لَهُ؛ خَيْرٌ فِي الْقَوْلِ، خَيْرٌ فِي الْفِعْلِ، خَيْرٌ فِي الْمُعَامَلَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ. وَمَا أَجْمَلَ أَنْ تَكُونَ صَانِعًا لِلْخَيْرِ فِي كُلِّ مَجَالٍ، سَاعِيًا لِلْفَائِدَةِ، مُعِينًا لِلنَّاسِ، دَاعِيًا لِلْمَحَبَّةِ وَالسَّلَامِ.فِي آخِرِ هَذِهِ الْوَصَايَا الْمُقَدَّسَةِ، يُبَشِّرُكَ اللَّهُ بِالنَّجَاحِ وَالْفَلَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، “لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”. إِنَّ الْفَلَاحَ هُوَ ثَمَرَةُ الْإِيمَانِ، ثَمَرَةُ الصَّبْرِ، ثَمَرَةُ التَّقْوَى، وَثَمَرَةُ الْخَيْرِ. فَاتَّخِذْ هَذِهِ الْقُوَامَةَ نِهَايَةً لِكُلِّ سَعْيٍ، وَجَزَاءً لِكُلِّ عَمَلٍ، وَحَقًّا لِكُلِّ مُؤْمِنٍ يَسِيرُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.خِتامً، فِي كُلِّ خُطْوَةٍ وَكُلِّ حَرَكَةٍ فِي الْحَيَاةِ، تَذَكَّرْ أَنَّ اللَّهَ دَعَاكَ إِلَى سَبِيلِهِ بِكَلِمَاتٍ نَيِّرَةٍ وَوَصَايَا عَظِيمَةٍ. فَاتَّبِعْهَا وَعِشْ بِهَا، فَلَعَلَّ فِي آخِرِ الطَّرِيقِ تَجِدُ الْفَلَاحَ الَّذِي وَعَدَكَ اللَّهُ بِهِ، وَتَكُونُ مِنَ الْمُفْلِحِينَ.
https://bawwababaalbeck.com/wp-admin