البرامج السياسية وقيادة المشروع الوطني
كَثر حديث الشارع الفلسطيني بكل أطيافه ، مواطنين وفصائل فلسطينية في الآونة الأخيرة عن مرحلة ما بعد محمود عباس ، خاصةً بعد ما تحدثت الأنباء عن مرضه ، وعن وضعه الصحي الآخذ في التراجع ، وازداد التخوف من أن يحدث له مكروهً يُفقده الأهلية من مزاولة صلاحياته كرئيس للسلطة ، وكيف ستكون إرهاصات المرحلة القادمة للمشهد الفلسطيني ، ومن الأقدر على قيادة المشروع الوطني بعد رحيل عباس .
البرامج السياسية المتنافسة على قيادة المشروع الوطني
لو نظرنا كمراقبين أو مهتمين على الساحة الفلسطينية ، لوجدنا أنه لا تخلوا الساحة من تنافس البرامج السياسية على قيادة المشروع الوطني ، وكلاً له برنامجه الخاص به والمؤمن بصوابيته ، فنجد حركة فتح ومعها بعض فصائل م ، ت ، ف تدعي مقدرتها دون غيرها أو أحقيتها بحكم تاريخها وأسبقيتها في العمل السياسي والمقاوم ، وشرعيتها التي حازت عليها سابقاً عندما كانت ترفع سلاحها في وجه عدوها ، وبمباركة الأنظمة العربية بتمثيلها للشعب الفلسطيني ، وفي المقابل نجد حركة حماس ومعها العديد من فصائل المقاومة ، وبحكم تمسكها بالمقاومة ، وبرفضها أي تسوية ٍمع عدوها تنتقص من حقوق الشعب الفلسطيني ، وبتمسكها بسلاحها وإعدادها المتواصل وإنجازاتها التي حققتها بعد كل تلك الحروب التي خاضتها مع العدو ، أحقيتها بقيادة نفس المشروع .
حماس ـ وبرنامجها السياسي لقيادتها للمشروع الوطني
ينظر جميع المراقبون على اختلاف توجهاتهم سواء كانوا أصدقاء لحماس أو مختلفين معها سياسياً ، أو حتى أعداء لها وإلى التغيرات التي أحدثتها حماس في خلال الثلاث عقود الأخيرة ، على عدة مستويات سواء على مستوى توحيد حالة المقاومة ، وكيف جمعت الفصائل المقاومة في غرفة العمليات المشتركة ، لتكون على كلمة رجل واحد سواء في السلم أو الحرب ، وقاربت بين البرامج السياسية لفصائل المقاومة ، وجعلت جميع الرؤى متقاربة جداً في أي قضية من القضايا الهامة للشعب الفلسطيني . وكيف إحتوت بعض فصائل م ، ت ، ف ، الذين ما زالوا يؤمنون بالمقاومة كطريق لتحرير فلسطين ، ودعمت الفصائل الحديثة زمنياً وحرصت على مشاركتهم في قادة مشروع التحرير .
ولا يغيب عن أذهاننا كيف حضر خالد مشعل رئيس مكتبها السياسي حين ذاك القمة القطرية والتي عقدة نِتاج حرب الفرقان عام 2008 م ومثل حينها فصائل المقاومة الفلسطينية ، لا بل كل الشعب الفلسطيني ، في حين امتنع عباس عن حضور القمة .
كما جعلت العدو الصهيوني في حالة قلق وهو يرى تعاظم قوة حماس العسكرية أمام عينيه ، ونجاحها في توحيد جبهتها مع الفصائل المقاومة ، وجعلته لا يرغب في مواجهتها عسكرياً ولا أمنيا ، كيف لا وهو ما زال يذكر ماذا فعلت به حماس في عملية ( حد السيف ) في خان يونس عام 2018 على يد الشهيد نور بركة ، وما فعلته في معركة ( سيف القدس ) عام 2021 ، وكيف أمطرت كل الأراضي الفلسطينية المحتلة بألاف الصواريخ خاصةً في ( تل أبيب ) ، وحَرّكت أهلنا في الداخل المحتل ضد العدو بعد أن اعتقد بأنهم أصبحوا مواطنين في دولة إسرائيل ، وكيف كشفت خداع العدو عندما حاول ضرب عناصر المقاومة في الأنفاق ، وما فرضته من قواعد جديدة للإشتباك.
حماس أصبحت اليوم لا يمكن لقوة إقليمية أن تقلل من شأنها ولا عدو ينكر قوتها ، ولا فصيل منافس أن يستصغر حجمها .
لذلك أصبح المجتمع الفسطيني يرى فيها أنها أصبحت حاملةً شعلة الإنطلاق نحو الأهداف الكبرى على الساحة الفلسطينية في مقدمتها تحرير أولى القبلتين المسجد الأقصى ، الذي تجرأ الصهاينة على إقتحامه يومياً تحت حماية جيشهم المأزوم ، وتحرير الأسرى الذين ضحوا بزهرات شبابهم في سجون الاحتلال وزنازين العزل المظلمة لسنوات عديدة.
حماس التي بنت جيشها وتعبت عليه وبذلت الجهد وواصلت الليل بالنهار وراكمت قوتها من أجل تطوير مقاومتها ، وإعداد مقاتليها لليوم المشهود .
فتح ـ وبرنامجها السياسي لقيادتها للمشروع الوطني
في حين أن فتح كان باستطاعتها إختصار الزمن، ووضع حد لتراكم الخسائر ودفع الأثمان الباهظة، عبر توحيد صفوف المقاومة في مختلف فصائلها المنتسبة لـ م ، ت ، ف ، والممتلكة للقوة العسكرية الهائلة و المتواجدة في الساحات المختلفة ، التي يسهل عليهم الحركة فيها ، والمدعومة عربياً من الناحية الرسمية والشعبية ، والملتفة حولها الجماهير العربية والشعب الفلسطيني بأسرة وانضمام المقاتلين العرب لهم .
ولم تستطع فتح وهي أكبر فصيل فلسطيني في حينه بلا منازع على تبني المشروع الوطني الكبير وتوحِد خلفها كل الشارع الفلسطيني والفصائل الفلسطينية والشباب العرب ، بل على العكس تماماً اتهمت من خالفها بشق الصف الوطني ، وعاقبت من لم ينصع إلى أوامرها ولم تُصغي إلى من انتقدها ، وانشغلت بالمعارك الجانبية مع بعض فصائلنا ، ولم تسلم من مشاكستها عواصمنا العربية.
وعندما وقّعت على اوسلوا و رضخت للشروط الصهيونية والمواثيق الدولية ، وحرصت على تنفيذها بحذافيرها رغم عدم إلتزام العدو بها .
فتح التي ألغت البنود المتعلقة بمحاربة العدو الصهيوني من ميثاقها ، واعترفت بعدوها وتنازلت له عن أرضها ، وقبلت بحكماً ذاتياً ينتقص من سيادتها ويكبل أيديها ، وتنازلت عن القضايا الكبرى والمصيرية للشعب الفلسطيني مثل القدس واللاجئين وحق العودة .
فنزعت سلاح مناضليها ودمجتهم في أجهزتها الأمنية والشُرطية ، ودجنتهم على الطريقة الدايتونية ، واتفقت مع عدونا على إصدار عفواً عن المطاردين وأن يعودوا للحياة المدنية مقابل التخلي عن السلاح ، ثم بعد ذلك غدر بهم العدو ومثال على ذلك الأسير زكريا الزبيدي ما زال واضح أمام ناضرينا ، حيث تم إعتقاله بعد صدور العفو عنه وغيره من الأمثلة الكثير.
وتأمر رئيسها على قياداتها الوطنية وحرص على تغييبهم داخل السجون الصهيونية ، وطالبت الاحتلال عدم إخراجهم في أي صفقة تبادل أسرى كما حدث مع الأسير : مروان البرغوثي . كما قام بفصل من خالفه الرأي وفكر أن ينازعه على السلطة مثل دحلان والقدوة .
نسقت سلطتها مع عدوها في اعتقال المقاومين حيث أخلت مواقعها عند كل عملية دخول للمحتلين على المناطق الخاضعة لسلطتها ، بل إنها قامت باعتقالهم وصادرت حرياتهم وقمعت مسيراتهم وأنزلت راياتهم حفاظاً على شعور عدوهم ، وقتلت من شاكسهم وفضح فسادهم أمثال الشهيد : نزار بنات .
وحاربت كل من خرج من تحت عباءتها وشق لها عصا طاعتها ، وفكر في مخالفة أوامرها ، ولم يستحسن رأيها ، ولم تعترف بكل ثائر جديد يخرج من بين أزقة مخيمات شعبنا ، ولا من تحت أنقاض ما دمره الاحتلال البغيض ، وكالت له الاتهامات ، ووصفته بأنه صنيعة الاحتلال وجاء ليحل بديل عنها ، إذا لم يذعن لها وينضم تحت لواءها ويتعهد بالإلتزام بتعهداتها .
برنامج حماس السياسي والمرحلة القادمة
حماس تدرك جيداً ما ستفعله ومعها فصائل المقاومة ، إذ إنها سعت بكل قوةٍ وذللت كل الصعاب وأزالت كل الذرائع وتنازلت عن الكثير من حقوقها ، حتى يقبل عباس بالإعلان عن الانتخابات الرئاسية والتشريعية والمجلس الوطني ، وعندما أدرك عباس بأنه لن يفوز في الانتخابات القادمة بسبب تعاظم قوة حماس والتفاف الجماهير حولها ، وبروز الصراعات الداخلية في حزبه ، وبذلك أصبح عباس عقبة كأود أمام إجراء الانتخابات ، أما وفي حال غاب عباس عن المشهد فإن الفرصة مواتيةٍ لإصرار حماس على إجراء الانتخابات ؛ لتجديد الشرعيات الثلاث والمنتهية صلاحياتها و أصبح منصب رئاسة السلطة شاغر بعد رحيل عباس ، وعليها أن لا تسمح لفتح بأن تفرض عليها أجندتها الإستسلامية حتى وإن قامت بدعمها جهات عربية وإقليمية ، وعلى حماس أن تُفشل كل محاولات التآمر على مسيرة إصلاح البيت الفلسطيني بشتى الطرق وبكل الوسائل ، وأن تتمسك بإعمال القانون وحسب ما نص عليه الدستور الفلسطيني من إجراء الانتخابات العامة بعد أن يتولى رئيس المجلس التشريعي الدكتور عزيز دويك لمدة 60 يوماً .
إذ من المرجح أن تتصدر حركة فتح وتستلم زمام المبادرة ، بترشيح أحد أقطابها لتولي منصب رئاسة السلطة بشكل مؤقت ، إلى حين حدوث انتخابات ، وبعد ذلك لا تحدث انتخابات ، ومع أنني أستبعد حدوث إتفاق بينهم إذ أن كل واحدٍ منهم عينهُ على كرسي الرئاسة ، ولن يتنازل للآخر عنه وسيقاتل بكل قوة حتى يظفر به دون غيره ، ولن يستطيع أحداً أو جهةً ما أن تفرض شخصاً لمنصب الرئيس ؛ لأنه مرضي عنه من دول عربية أو من أمريكا ، أو حتى يحضى بالرعاية من قِبل الاحتلال ، فالاحتلال اليوم لا يستطيع حماية نفسه ، وأن دولةً تُسَخر جيشها وأمنها واستخباراتها من أجل أن تُقيم مسيرةً للأعلام لهيه عاجزةً عن دعم أو حماية شخصٍ ؛ لأنه ينسق معها أو ينفذ مطالبها ، وأن من أراد استخدام ورقة الاحتلال في الوصول إلى مآربه فقد قبل إلصاق صفة الخيانة على نفسه ، ولن يرحمه الشعب الفلسطيني .
و للأسف ما زالت فتح وقيادات السلطة مصرة على المضي في مشروعها الإستسلامي والتماشي مع مصالحها غير آبهٍ بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني إذ يطل علينا عزام الأحمد بالأمس القريب متحدثاً عن استعادة غزة إلى الشرعية وللصف الوطني والتلويح باستخدام كل السبل و بأي صورة من الصور كالحصار وتشديد الخناق على غزة ، أو أي طريقة جديدة يدخلوا فيها غزة في مستنقع من المشاكل الداخلية كي يلهوا غزة في مواجهتها لعلهم يثنوها من مناكفتهم في موضوع من سيخلف عباس .
وها هو العدو الصهيوني يلوح بالقوة من جديد ضد غزة لإعادة تركيعها أو تدميرها وما قام به العدو من مناورة عسكرية استمرت لأكثر من شهر وأسماها ( كرة النار ) والتي يحاكي فيها كل العمليات العسكرية في الحرب المقبلة وعلى أكثر من جبهةٍ في آن واحد والذي تدرب فيها في دول الجوار مثل قبرص وعلى حدودها مع الأردن وعلى الحدود بالقرب من لبنان ، وهذا الأمر يعطينا إشارة بأن الأمور قد تسير بما لا تشتهي السفن .
ومن هنا ندعوا السلطة الفلسطينية وحركة فتح أن تكون على قدر المسؤولية ، أن تنصاع إلى منطق العقل ، وأن تُقدم المصالح الوطنية على المصالح الشخصية والحزبية ، وأن لا يُعيدُنا إلى الخلف عشرات السنين ، فالوطن بحاجة إلى تضحيات وبحاجة إلى أن نكافئه نحن كفصائل فلسطينية ، بعدم الاقتتال والاختلاف ، فهو الذي أوكلنا بالدفاع نيابةً عنه واضعاً أمامنا كل ما يملك من أرواح أبنائه وأمواله وجميع مقدراته صابراً محتسباً متحملاً كل مآسيه في سبيل تحقيق هذا الهدف ، فواجب علينا أن نكون موحدين متمسكين بمشروعنا الوطني ، مهما كلف ذلك الأمر من تضحيات .
الكاتب : محيي الدين أبو مصطفى