السعودية في عهد سلمان.. التهديدات والفرص
الكاتب: د. فؤاد ابراهيم / عضو الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين
حظيت المملكة السعودية بمصادر قوة اقتصادية وأيديولوجية، وجيوسياسية، واستراتيجية، شكّلت في مجموعها صورتها ودورها المحلي والاقليمي والدولي على مدى عقود. باختصار، أدّى النفط، والايديولوجيا الوهابية، والموقع الجيوسياسي، والتحالفات الاقليمية والدولية دورًا مركزيًا في تثبيت السعودية كفاعل اقليمي ودولي بالغ التأثير، وصارت هي، الى جانب الكيان الصهيوني، الدولة الوظيفية المحورية في المعسكر الاميركي في فترة الحرب الباردة. مصادر القوة هذه، من رؤية محور الممانعة، هي، في الجوهر، مصادر تهديد شغلته لسنوات من أجل الحد من تأثيراته على جمهوره، أو دفع أخطاره المباشرة وغير المباشرة في إرباك حركته، واستراتيجيات عمله.
ولكن..
منذ اعتلاء سلمان العرش في 23 يناير 2015 بتنا أمام مرحلة جديدة، بتحديات مختلفة، ومصادر تهديد جديدة، أو على نحو الدقة إن مصادر القوة التقليدية تراجعت إما نسبيًا أو كليًا أو أخذت أشكالًا جديدة. الغاية من هذا التقدير البحث في التهديدات والفرص في الدولة السعودية الحالية، إذ ترتبط التهديدات عادة بمصادر القوة فيما ترتبط الفرص بنقاط الضعف. وسوف نستعرض أبرز مصادر القوة والضعف من حيث الأهمية:
1 ـ مصادر القوة:
ـ النفط
ـ الوهابية
ـ التحالفات الاقليمية
ـ التحالفات الدولية
ـ النفط: لهذا المصدر وظيفتان: اقتصادية وسياسية، ويعضد أحدهما الآخر، فكلما ازدادت أهمية النفط في اقتصاديات العالم كلما ارتفعت مداخيله، واكتسبت الدولة المنتجة والمصدّرة مكانة سياسية واقتصادية على المستويين الإقليمي والدولي.
على مستوى (التوظيف السياسي لمداخيل النفط) تحقق السعودية الأهداف الآتية: استقرار النظام وشراء الولاءات في الداخل، وشراء التحالفات في الخارج. وبفعل النفط، تحوّلت السعودية الى دولة ريعية والموظّف الأكبر لغالبية السكان ومصدر رفاههم. وتفصيل ذلك كما يلي:
أـ يدرك النظام السعودي بأن من غير الممكن الإبقاء على تماسك الدولة (وهي دولة غير وطنية، أي كونها منقسمة على أساس مذاهب، ومناطق، وقبائل)، إلا من خلال العطايا أي تجميع المحصول وإعادة توزيعه، وإن أي خلل في هذا السياسة سوف ينعكس مباشرة على استقرار الدولة، وهذا ما لاحظه النظام في أكثر من مناسبة، الذي دفع بالنظام السعودي لضخ أموال لإسكات غضب الشارع وسحب الذرائع، كما حصل عقب انتفاضة المحرم في المناطق الشرقية سنة 1400هـ/ديسمبر 1979، وفعل الملك عبد الله الشيء ذاته في مارس 2011 بعد ثورة 25 يناير 2011 في مصر، وكرر ذلك سلمان بعد فورة الغضب على تويتر ضد رفع الاسعار وزيادة سعر الوقود وفرض ضريبة القيمة المضافة، في يناير 2018.
وعلى نحو ثابت في السياسة السعودية الداخلية، سرت عادة “الشرهات” الشهرية التي يقدّمها النظام السعودية لشيوخ القبائل في نجد وخارجها، من أجل الحفاظ على ولائهم لآل سعود. وكان الأمير سلطان بن عبد العزيز، ولي العهد ووزير الدفاع الأسبق، قد أسرّ ذات مرة لبعض جلسائه بأن “الناس إذا ما أعطيناهم ينقبلوا علينا”. وبقيت هذه العادة قائمة في كل الأزمنة مهما تقلّبت العهود، وحتى في حال شعر النظام بالضائقة الاقتصادية فإنه لا يتخلى عن هذه العادة، وإذا ما اضطر الى تخفيض كمية “الشرهات” والهبات فإنه غالبًا ما يرفقها بعامل آخر وهو التخويف من عواقب التمرّد أو السخط وهي سياسة العصا والجزرة التي يلجأ اليها دائمًا.
ب ـ شراء المواقف في الخارج: السعودية لم تنسج علاقات مريحة في كل تاريخها ودائمًا هي من يدفع الأموال من أجل بناء تحالفات وشراكات وصداقات، ولذلك هي تخصّص ميزانية لتقديم مساعدات واعطيات وهبات الى دول ومنظمات تحت عناوين متعدّدة والهدف منها شراء أصوات ومواقف تحالفات.. في غير هذه الحالة، السعودية تشعر بالضعف الشديد، وتخشى من صدور ما يمكن أن يؤثر عليها، وهذا ما ظهر في بدايات أزمة الخليج الثانية بين نظام صدام حسين وحلفائه الخليجيين على خلفية الخصومة حول حقول النفط المشتركة بين الكويت والعراق. حينذاك، تشكّل مجلس التعاون العربي في 1989 بين العراق ومصر والاردن واليمن، والذي توجّست السعودية منه خيفة لأنه ينطوي على تهديد لدورها الاقليمي، ثم ظهر لاحقًا حين أخذت أزمة الخليج الثانية 1990/1991 بعدًا عسكريًا، حيث وقفت الاردن واليمن الى جانب العراق واكتشفت السعودية بأن كثيرًا من الدول قد تخلًت عنها بما في ذلك دول كانت تتلقى مساعدات منها مثل الاردن واليمن الى جانب دول ومنظمات أخرى كثيرة بما فيها الاخوان المسلمين. وحتى حين أرادت الحصول على غطاء ديني لاستقدام القوات الأميركية الى الجزيرة العربية واجهت صعوبة بالغة في اقناع مرجعيات دينية سنيّة في مراكز دينية رئيسة (مصر وتركيا وباكستان والهند)، فاضطرت الى النفخ في شخصيات هامشية من القارة الهندية الى جانب بطبيعة الحال فتوى مشايخ الوهابية على رأسهم الشيخ عبد العزيز بن باز، مفتي المملكة حينذاك.
ما الجديد؟
السؤال اليوم: هل لا يزال النفط يلعب الدور ذاته في الداخل والخارج؟
قبل الإجابة، لابد من تثبيت نقطة رئيسة تتعلّق بالنفط ذاته كلاعب فاعل في الاقتصاد والصناعة والسياسة على المستوى الدولي. بكلمات أخرى، طالما بقي العالم مرتهنًا الى هذه السلعة، فسوف يبقى للنفط دور مزدوج اقتصادي وسياسي.
بحسب تقديرات عامي 2020/2021 تتصدر السعودية قائمة الدولة المصدّرة للنفط بواقع 6.6 مليون برميل يوميًا، وتأتي روسيا في المرتبة الثانية بواقع 4.6 مليون برميل يوميًا، ثم العراق 3.4 مليون برميل، ثم الكويت والامارات وإيران بكميات أقل.
زادت صادرات النفط من السعودية بنسبة 123٪ عن العام السابق، بسبب ارتفاع أسعار الخام. وارتفعت حصة النفط من إجمالي الصادرات إلى 77.6٪ في أكتوبر من 66.1٪. وهذا يعني: أن النفط لا يزال يحتفظ بأهمية في يوميات الاقتصاد العالمي، وثانيًا أن السعودية لا تزال تراهن على النفط كمصدر دخل رئيسي، وأن كلام محمد بن سلمان بأن بلاده يمكن أن تتخلى عن النفط بحلول عام 2020 مجرد وهم.
ولكن..
1 ـ لم يعد الإنتاج النفطي مقتصرًا على دول محدّدة، فقد تكاثر عدد المنتجين في العالم، وهناك دول (سوريا ولبنان واليمن ووو) تنتظر دورها في عالم الإنتاج النفطي بكميات تجارية، وأن ما يمنعها من الدخول الى هذا العالم هو الهيمنة الأميركية على الاقتصاد النفطي..وأن هذه الهيمنة باتت اليوم (بعد الحرب في أوكرانيا) موضع شك من قبل منظّرين أميركيين كبار، وأن العودة الى القطبية الثنائية أو المتعدد هي حتمية ولا مناص منها وأنها مجرد مسألة وقت قبل أن تصبح واقعًا.
2ـ تراجع اعتماد الولايات المتحدة على النفط السعودي بدرجة كبيرة. في 2019 أصبحت الولايات المتحدة تنتج 17 مليون برميل يوميًا، وهذا يغطي ما يربو عن 80 بالمئة من حاجتها، فيما تستورد 3 مليون برميل من دول متعددة منها كندا )1.6 مليون برميل يوميًا)، والمكسيك (259 ألف برميل يوميًا) وروسيا (245 ألف برميل يوميًا) والسعودية (157 ألف برميل يوميًا). وكولومبيا والعراق ونيجيريا والاكوادور والبرازيل بكميات أقل.
في حقيقة الأمر، إن آسيا تستهلك 70 في المئة من النفط السعودي فيما تستهلك أوروبا 12 في المائة فقط منه، وأن الصين، وليست الولايات المتحدة، تستورد الكمية الأكبر من النفط السعودي.
وبصورة إجمالية، تستهلك الولايات المتحدة 20 مليون برميل يوميًا ما يجعلها في صدارة الدول المنتجة والمستهلكة للنفط وثاني مستورد له. مع لفت الانتباه الى عمر النفط في الولايات المتحدة ليس طويلًا، إذ تفيد التقديرات بأنه سوف ينضب في أقل من عشر سنوات، فيما تتصدر فنزويلا قائمة الأطول عمرًا بواقع نحو 400 سنة تليها ليبيا 150 سنة وكندا 95 سنة وتليها الكويت والعراق وايران بواقع 91 ـ89 سنة، والسعودية نحو 57 عامًا (وهناك تساؤلات جديّة حول حقيقة الأرقام المعلنة من الجانب السعودي، إذ تفيد التقديرات بأن عمر النفط في المملكة السعودية لا يتجاوز 30 عامًا كما يذكر ذلك ماثيو سيمونز مؤلف كتاب (شفق في الصحراء) لعام 2004 في ضوء 200 ورقة تقنية/عملانية. وان الكلام حول 50 سنة من الإنتاج بمعدل 10 ـ 12 مليون برميل يعتمد على عبارة “ثق بنا” وليس على الواقع العملي، وقد عاش العالم لمدة سبعين عام على هذه العبارة، ولكن الحقيقة غير ذلك.
الصين تستهلك 15 مليون برميل يوميًا، وهي أكبر مستورد للنفط على مستوى العالم بواقع 10.5 مليون برميل يوميًا، وقد يصل الى أعلى من ذلك (ما يربو عن 12 مليون برميل يوميًا) وتنتج 3.5 مليون برميل يوميًا..
المشكلة تبقى أن لا بديل ناجع وجدّي حتى الآن يمكن أن يحل مكان النفط، وعليه سوف تبقى حاجة العالم الى هذه السلعة قائمة لأمد غير معلوم، قبل أن تنجح البدائل الأخرى في تغطية حاجات السوق العالمية. وهذا يعني أن السعودية كمنتج رئيس للنفط سوف تلعب دورًا اقتصاديًا وسياسيًا في المرحلة المقبلة، ولكن هذه المرة في المنطقة الآسيوية وليس الغربية (الأوروبية والأميركية). بطبيعة الحال، سوف يكون لدول أخرى مثل العراق وإيران دور فاعل في سوق الطاقة، حتى بالنسبة للصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية بصفتها أكبر البلدان الاِسيوية المستوردة لنفط الشرق الأوسط.
الأيديولوجية الوهابية:
تاريخيًا وتقليديًا، شكّلت الوهابية مصدر شرعية النظام السعودي في الداخل ونفوذه في العالم الإسلامي (الى جانب استغلال العنوان السني في مواجهة الشيعة). ونجح النظام السعودي في توظيف الورقة المذهبية في مواجهة خصومه تارة باسم الإسلام ضد القومية (مع عبد الناصر، وسوريا والعراق) والأحزاب العلمانية والقومية واليسارية، وتارة باسم المذهبية (السنة ضد الشيعة) وتمكّنت الى حد ما في تحييد دور مشروع (التقريب بين المذاهب) عن طريق اغراق الساحة العربية والإسلامية بكتابات طائفية ضد الشيعة، وإحباط أي جهود تقريبية خلال الفترة ما بين الخمسينيات والسبعينيات، وتاليًا في تحييد تأثيرات الثورة الإسلامية على شعوب المنطقة العربية والإسلامية، وفي مواجهة الحركات الإسلامية الشيعية سواء في الداخل (الجزيرة العربية) أو في الخارج (لبنان، والعراق وأفغانستان وباكستان..)، وبذلك، فلقت الساحة الى معسكرين سني شيعي، وسالت بذلك دماء غزيرة.
ويعود هذا النجاح الى:
1ـ احتكار تمثيل السنّة في العالم: إذ تنظر السعودية الى أن ما يجعلها متميّزة في المجال السنّي هو احتكارها لتمثيل الاسلام السنّي، بدعوى تطبيق الشريعة، واحتضان الحرمين الشريفين. يوفّر ذلك لها مشروعية دينية، ويجعلها الدولة الدينية السنيّة بلا منازع، ولذلك منعت:
أ ـ قيام دولة إسلامية في الشيشان في منتصف التسعينيات. إذ لم يكن الانخراط السعودي في الحرب الشيشانية مصمّمًا لاستقلال الشيشان، أو حتى لإقامة دولة إسلامية، وقد طلب الرئيس الشيشاني الأسبق سليم خان يانداربييف (أغتيل في الدوحة، قطر، في 13 شباط 2004) مساعدة السعودية لإقامة دولة اسلامية في إيلول 1996، ولكن السعودية رفضت الطلب، وعارضت استقلال الشيشان عن روسيا، وتأسيس دولة إسلامية في الشيشان.
ب ـ تهميش قضية البوسنة والهرسك من منظور إسلامي: وبحسب مذكرة سريّة قدّمت الى الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في بداية ولايته الأولى سنة 1993 وهي خلاصة تقييم لجنة مشتركة من الخارجية الاميركية ولجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس جاء ما يلي:
الملك فهد، ومنذ بروزه كشخصية سياسية فاعلة ونافذة في 1974 حين أصبح وليًا للعهد، كان مسرفًا في البذخ في استعماله المال لتقديم الرشى، وتغيير إتجاهات ردود الفعل، ومنع صنع القرار في كثير من الدول. وقد امتدّت ذراعه مؤخراً إلى هيئة الأمم المتحدة حين تم تعيين بطرس بطرس غالي أمينًا عامًا. فقد ملئت الحسابات البنكية الخاصة بالأمين العام بالملايين من الدولارات عبر السفير السعودي في بلادنا، السيد بندر بن سلطان. وكان الهدف وراء هذا التدخّل من جانب الملك تحقيق أمور ثلاثة:
ـ تهميش المشكلة البوسنية لاعتقاد الملك فهد بأن أي إنتصار للمسلمين سيفضي إلى حدوث تداعيات في المنطقة وخصوصًا في بلاده.
ـ إبقاء العقوبات المفروضة على العراق (=في عهد النظام البائد).
ـ إيقاف التحقيق في انتهاكات حقوق اللاجئين العراقيين في معسكري رفحا والارطاوية شمالي الجزيرة العربية بعد تهجيرهم نتيجة حرب الخليج الثانية.
وقد تأكّدت النزعة الاحتكارية السنيّة لدى السعودية في محاربة تجربة الاخوان المسلمين بعد الربيع العربي لمنع قيام نظام حكم إسلامي سني منافس للسعودية، وبذلك خطّطت لإسقاط تجربة الاخوان المسلمين في مصر: وكان ذلك واضحًا في انقلاب عبد الفتاح السيسي في 3 يوليو 2013 بتمويل سعودي إماراتي.
ج ـ الورقة الطائفية: كونها تنتمي الى المجال السني فإن السعودّية وظّفت: دعوى احتكار التمثيل السني، واحتضان المقدّسات الاسلامية (المسجد الحرام والمسجد النبوي)، والمال في حربه ضد الجمهورية الاسلامية في إيران ومعسكر الممانعة عامة عبر العنوان المذهبي. ولذلك، فإن ما ميّز الحرب الطائفية أن ميدانها مضمون الربح، لأن السعودية تمتلك أدواتها، وفيها يحشد الجمهور السنّي ويشدّ عصبه المذهبي. وكان موقفًا حكيًما من قادة محور الممانعة عدم الانسياق مع النظام السعودي في هذا الحرب، بل كلما نجح المحور في التأكيد على المشتركات، ولاسيما قضية فلسطين، لإحباط مفعول الورقة الطائفية في حربه ضد المحور، كلما تعطّل دوره وتحوّل بدلاً من دور المهاجم الى دور المدافع وتاليًا التراجع الى الوراء، لأنه يكون حينئذ في موقع المتّهم. وقد بات واضحاً أن التطبيع مع الكيان الاسرائيلي يجري عبر رافعة طائفية..فكلما ازدادت وتيرة الخطاب الطائفي بكل مفرداته (الصفوية، المجوس، التهديد الفارسي..الخ)، كلما سهّل مهمة التطبيع مع الكيان الاسرائيلي. في المقابل، كلما حضرت قضية فلسطين كقضية مشتركة وجرى تعميمها وإعادة مركزيتها كلما خسر النظام السعودي..
بطبيعة الحال، سعى النظام السعودي الى اضعاف مركزية ومحورية القضية الفلسطينية كي تفقد تأثيرها الشرعي والمعنوي والأخلاقي عليه وعلى بيئته الشعبية. وكان من الضروري العمل بذكاء في التعامل مع هذه الورقة من أجل سحبها من النظام السعودي وإبطال مفعولها، وألا يسمح له باستغلال أي ثغرة ينفذ منها سواء من خلال تصريح مذهبي أو شبه مذهبي من أي مسؤول، أو تنظيم فعالية قد تحمل رسالة خاطئة، فيجري استغلالها في الحرب الطائفية..الخ.
ما الجديد؟
بدا ان ربيع الوهابية ومتوالياتها (الورقة المذهبية، اللعب على الوتر السني الشيعي، التوظيف السياسي للورقة المذهبية بل والدين نفسه) يشهد تبدّلًا لافتًا. وقد تضاربت الآراء حول مصير الوهابية، بعد تعرّضها لضربة قاصمة على يد سلمان وابنه، بغرض إعادة طلاء صورة السعودية في الخارج، تلك الصورة التي رسّخت الوجه الإرهابي للدولة السعودية، والتي تركت تأثيرها على مواقف كثير من المستثمرين الأجانب وحالت دون تحوّل السعودية الى بلد جاذب للسياحة..مع ان أخطاء ابن سلمان نفسه كانت كفيلة بترسيخ الصورة الكالحة عن الدولة السعوية (الاعدامات والاغتيالات والحرب والاعتقالات…).
وبقي السؤال عالقًا: هل ما جرى على الوهابية هو: تجميد أم تقويض؟. أي بكلمات أخرى: هل تدابير محمد بن سلمان ضد شريك آل سعود التاريخي هو موقف تكتيكي مرتبط بظرف تاريخي أو موضوعي أم هو استراتيجية جديدة مرتبطة بتبدّل في هوية الدولة وسياساتها العامة ووجهتها الكليّة؟
هذا السؤال من شأنه أن يعين على تشخيص مصدر تهديد محتمل أو فعلي أو مستبعد.
حتى الآن، يظهر أن هناك توجّهًا سعوديًا نحو إضعاف الوهابية وعزلها، بحسب أكثر من معطى:
1 ـ تقليص أو تعطيل أو إلغاء أجهزة فاعلة للمؤسسة الدينية وفعالياتها بدأت أول مرة بذراعها الضاربة (هيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر)، ثم انتقلت الى المساجد (البالغ تعداد أكثر من 120 ألف مسجد ومصلى في المملكة السعودية)، واستبدال الرؤوس الحامية في المؤسسة الدينية بأخرى باردة ومعتدلة مثل عوض القرني وعادل الكلباني ومحمد العيسي وآخرين..
2 ـ حملة اعتقالات واسعة النطاق بدأت في 9 سبتمبر 2017 في صفوف ما يسمى بمشايخ الصحوة المقرّبة من الاخوان المسلمين، ولا يزال هؤلاء قيد الاعتقال ولا مؤشرات عن قرب الافراج عنهم.
3 ـ إلغاء كثير من التشريعات الدينية الصارمة ذات البعد الاجتماعي، وإطلاق العنان للنشاطات الاجتماعية ذات الطابع الترفيهي المناقض لتوجهات المؤسسة الدينية.
4 ـ إعادة بناء سردية جديدة لتاريخ ولادة الدولة السعودية، باستبعاد دور الوهابية، وهذا يحصل لأول مرة، ما يعني أن ثمة مرحلة تدابر فعلي بين الأمير والشيخ، أو بين آل سعود والوهابية.
من جهة ثانية، إن صورة المملكة السعودية على مستوى العالم تعرّضت لتشويه كبير نتيجة انخراط جماعات ارهابية تعتنق الوهابية في هجمات دموية ضد المدنيين في أكثر من مكان في العالم. وإن تثمير أجواء الاحتقان والعداء للسعودية وللوهابية كان يتطلب حضورًا واستثمارًا في القارة الاوروبية لصنع رأي عام ضاغط بهدف: تجريم الوهابية بكونها أيديولوجية محرضة على الارهاب، وأيضاً عزل السعودية بما يحرمها من الاستفادة من المحافل الدولية لأغراضها الخاصة.. ولكن ذلك لم يحصل، وقد سارع محمد بن سلمان الى “تنظيف” بيته الداخلي، عبر تهميش دور الوهابية وعزل تأثيراتها، وتقديم نفسه بأنه مصلح وليبرالي يطمح لأن يقدّم نسخة عن الإسلام متطوّرة تتسم بالاعتدال والتسامح..
ولكن..
هل يعني ذلك، أن طلاقًا بائنًا بين النظام السعودي والوهابية قد جرى على يد ابن سلمان؟
لابد من العودة الى وظيفتي الوهابية: دينية وسياسية. ويبدو أن الوظيفة الدينية قد تمّ التخلّي عنها الى غير رجعة، ولكن هناك وظيفة سياسية يمكن استغلالها ضد الخصوم، وهذا على نطاق ضيق أيضًا، لأنه سلاح ذو حدّين فمن يتولى هذه الوظيفة هم أعضاء في المؤسسة الدينية الوهابية. في المقابل، هل أتباع الوهابية رفعوا الراية البيضاء، وقبلوا بنتيجة الحرب عليهم، وبالتالي التماهي مع النظام السعودي في سياسة الانفتاح المعمول بها حاليًا على طريقة الشيخ عادل الكلباني الذي أصبح بهلوانًا أو ممثلًا في استعرضات درامية ينتجها النظام للترويج لبرامجه الترفيهية؟
قد يتكيّف الوهابيون مع الوضع القائم، ويسايرون النظام، ويقبلون التنازل، بصورة مؤقّتة، عن بعض معتقداتهم، ولكن لا يجب الاطمئنان الى أن المعركة حسمت لصالح النظام السعودي. وقد تكون هذه جولة كبرى، ولكن ليست فارقة، أي لا على سبيل حسم مصير الوهابية. صحيح، أن الأخيرة عاشت ونمت وارتهنت طيلة تاريخها الى دعم النظام السعودي المالي والسياسي والإعلامي، ولكن خرج من عبائتها من رفض الانصياع لها، مثل: 1 ـ جيش الاخوان الذي قاتل الى جانب عبد العزيز ثم انقلب عليه وخاض ضده حربًا فاصلة في 1929 وقثد شاركت في الحرب الطائرات البريطانية الى جانب عبد العزيز، 2 ـ الجماعة السلفية المحتسبة والتي أنتجت حركة تمرّد في الحرم بقيادة جهيمان العتيبي سنة 1979، 3 ـ ظاهرة شيوخ الصحوة في حرب الخليج الثانية، وتاليًا اشتقاقاتها الراديكالية مثل القاعدة وما تفرع عنها. وعليه، من الصعوبة بمكان القول بأن الوهابية قد اندحرت، بصورة نهائية، الى غير رجعة، وأن نجاح النظام السعودي في استبعادها وعزلها لا يجب أن يوهمنا بأفول الوهابية، بل إن التناقضات التي يشهدها النظام السعودي وقاعدته الشعبية وتكاثر المتضررين (الامراء والتجّار النجديين وكثير من النشطاء والكتّاب) يعلي من فرص التحالفات على قاعدة الضرر المشترك وتاليًا المصلحة المتبادلة.
في النتائج، إن الوهابية قد لا تشكل مصدر تهديد عقدي في المرحلة المقبلة لأنها سوف تكون بلا غطاء سياسي ظاهر، ولكن لا بد من الحذر من ذيولها الخارجية أو ما يعرف بـ “الذئات المنفلتة” التي لا تزال تعمل وان بكفاءة منخفضة. يكفي مثال على ذلك جريمة قتل رجال الدين في حرم الامام الرضا على يد أتباع المذهب الوهابي في داخل إيران.
ج ـ التحالفات (الإقليمية والدولية):
تاريخيًا ومبدئيًا: السعودية منذ وفاة جمال عبد الناصر سنة 1970 وبدء الطفرة النفطية بعد حرب أكتوبر 1973 تبوأت مكانة خاصة أطلق عليها الاعلامي المصري الراحل محمد حسنين هيكل (الحقبة السعودية). منذاك، والسعودية تحاول أن تبقي على هذا الدور المحوري، فكانت تحارب من أجل إقناع دول الاقليم والعالم بأنّها دولة محوريّة وتقود تحالفًا واسعًا يأتمر بأوامرها.
على نحو يقيني، تقود السعودية تحالفًا خليجيًا في مواجهة أخطار مشتركة. وقد أثبت هذا التحالف تماسكه وفعاليته أيضًا في ملفات إقليمية حيوية:
ـ في مواجهة الربيع العربي سنة 2011 حين تناسى حكام الخليج خلافاتهم وقرروا شدّ العصب السلطوي، وانتظموا في صف واحد أطلق عليه “نادي الملوك”، جمع اليه ملكي الأردن والمغرب لمواجهة الربيع العربي. ونجحت السعودية في تكتيل هذه الدول لمنع تسرّب آثار الربيع العربي الى بلدانها..
ـ في مواجهة تركيا والمقاطعة الاقتصادية التي أنهكت تجارتها الخارجية حتى اشتكى رجال الاعمال الأتراك تراجع تجارتهم. وذلك في رد فعل على توتر العلاقات السعودية التركية، بعد نشر انقرة معلومات حول ضلوع الفريق الأمني لابن سلمان في اغتيال الصحافي جمال خاشقجي في نوفمبر 2018. وجاءت المقاطعة الخليجية للبضائع التركية، بعد أزمة الرباعي (السعودية والامارات والبحرين ومصر) مع قطر في مايو/يونيو 2017. كان السوق القطرية وحدها مكان تصريف البضائع التركية الغذائية والكمالية، وهي سوق بكل المقاييس أصغر من استيعاب حصة تركيا السابقة من صادراتها الى الأسواق الخليجية..تزامن هذا مع عقوبات أميركية على خلفية شراء انقره لصواريخ اس 400 من الروس، والخلافات التي نشبت بين ادارتي ترمب واردوغان، وكذلك بين الأخير والقادة الأوروبيين.
صحيح أن تركيا نجحت في عزل النظام السعودي سياسيًا وتشويه صورته اعلاميًا على المستوى العالمي ولا يزال ابن سلمان يدفع ثمن هذا الفعل التركي، ولكن في المقابل خسرت تركيا اقتصاديًا وتجاريًا، وقد تظافرت جهود دول الخليج والغرب (الأميركي والاوروبي) على اضعاف الاقتصاد التركي، ونجحت الى حد كبير في تحقيق هذا الهدف. وقد اضطرت انقرة في نهاية المطاف لأن تستجيب للضغوط الداخلية والخارجية والقبول بنقل ملف خاشقجي بالكامل الى القضاء السعودي على الرغم من مطالبتها المتكررة بتسليم المتورطين السعوديين في الجريمة الى القضاء التركي. والهدف كان واضحًا أن اردوغان يعتقد بأن الانفتاح على الخليج اقتصاديًا وتجاريًا لن يتم الا عبر البوابة السعودية. فقد زار الامارات في فبراير 2022 وقبلها الى قطر، ولكن لم تحقق هاتان الزيارتان الهدف المطلوب، بتعويض خسائر المقاطعة التجارية التي استمرت لأكثر من سنتين.
ـ في شيطنة إيران. لعل أقوى نجاح حقّقته السعودية عبر اعلامها بأن جعلت من إيران وليس الكيان الصهيوني هو العدو الأول، وهذا في حد ذاته دليل على قدرة الاعلام على تغيير الحقائق وصنع بدائلها. وأن التطبيع مع الكيان الصهيوني كان يجري تحت غمامة من التحريض الإعلامي الكثيف ضد إيران، وشيطنتها، وترسيخ فوبيا إيران في الوعي الشعبي العام.
ـ في الحرب على اليمن (باستثناء عمان وقطر بعد الازمة). ومع ان الحرب كانت بقرار أميركي، ولكن السعودية هي التي قادت التحالف العربي وضمّت اليه أكثر من عشر دول عربية، ثم كرّرت التجربة في أواخر 2016 بالإعلان عن التحالف العسكري الإسلامي (وان أثبت فشله بعد تحفظ تركيا وباكستان وغيرهما في المشاركة في الحرب على اليمن). في كل الأحوال، دفعت السعودية بعض الدول طوعًا أو كرهًا على المشاركة القتالية، وهذا يمنحها قدرة على التأثير في قرارات كبرى مثل المشاركة في الحرب.
ـ في مواجهة لبنان (سحب السفراء): لم يكن الانهيار الاقتصادي المروع الذي حصل في لبنان منذ العام 2019 ليكون لو لم تكن السعودية مع شريكاتها الخليجيات على تماس مباشر وتفصيلي بهذا الانهيار، عن طريق وقف التحويلات المالية، ووقف الاستيراد، وسحب السفراء، والتحذير من السفر الى لبنان، والحملة الإعلامية والسياسية التي أدت الى إطاحة وزيرين (الخارجية والاعلام) وعطّلت عمل الحكومة، الى جانب بطبيعة الحال الضغوط الدولية الأميركية والأوروبية التي كانت تجري منذ سنوات في محاصرة لبنان ماليًا، وتجاريًا.. ولكن..
ما الجديد؟
إذا ما تأمنا في انخراط السعودية في الملفات الإقليمية سوف يظهر أمامنا عامل مشترك وهو “المشاغبة”. فالسعودية في عهد سلمان وابنه لم تعمل على صنع معادلة في أي بلد أو ملف تنخرط فيه، وإنما هي مشغولة بتخريب معادلة قائمة. نعم قد يقال بأن مجرد تخريب معادلة هو معادلة في حد ذاتها، ولكن في الحصاد النهائي لا يظهر أن السعودية تجني كثيرًا من عمليات التخريب، بمعنى أنها لا تصنع نفوذًا دائًما لها بقدر العمل على تخريب نفوذ الآخرين..
ولنضرب مثالًا واحد:
لبنان الذي نعرفه في التصوّر السعودي الكلاسيكي بصفته ساحة تجاذب اقليمي، ومرآة لصراعات الآخرين لم يعد كذلك. عوامل عديدة تآزرت لتعيد تركيب المشهد اللبناني في الرؤية السعودية، وهي ليست رؤية خاصة، في جزء منها على الأٌقل.
منذ تولي سلمان العرش في 23 يناير 2015 جرّب النظام السعودي مقاربات للملفات الاقليمية يغلب عليها طابع المباشرة والمصادمة (العراق واليمن ولبنان وسوريا نموذجًا)، ونتذكر ما انتهى اليه حال ثامر السبهان (وزير الدولة لشؤون الخليج العربي حاليًا والغائب عن الأنظار كليًّا في الوقت الراهن). ولكن هذه المقاربات بدت كما لو أنها مراهقة متأخرة، إذ ما لبث أن قرّر سلمان التراجع عنها بعد أن تدخّل شخصيًا لإعادة هيبة الحكومة (مجلس الوزراء) بعد استحداث نظام المجلسين (مجلس الشؤون السياسية والأمنية ومجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية)، برئاسة محمد بن نايف ومحمد بن سلمان وانتهى الأمر بهما ليكونا تحت رئاسة ابن سلمان.
لبنانيًا، تسلّم وليد البخاري، الذي تقلّب في السلك الدبلوماسي السعودي منذ العام 1996، مهامه كسفير في لبنان في مارس 2018، بعد أن كان قائمًا بالأعمال بالإنابة في بيروت لمدة نحو عامين 2016 ـ 2018. كان تسنّمه منصب سفير إشارة، في الظاهر، الى تصعيد مستوى الاهتمام السعودي بالملف اللبناني. وربما كان النشاط المحموم الذي قام به البخاري (وكان قائمًا بالأعمال حينذاك) الى جانب السفير الاماراتي حمد الشماسي على الساحة اللبنانية في العام 2018 أي ما قبل الأزمة الراهنة، يوحي بأن السعودية تستعيد دورها المحوري في الملف اللبناني. ومع ذلك، لم يسجّل حتى عام 2018 أي لقاء فاعل لقوى 14 آذار برعاية سعودية، وكان الانخراط السعودي في الانتخابات اللبنانية في مايو عام 2018 متواضعًا قياسًا الى السباقات الانتخابية السالفة. في انتخابات 2018 حقق حزب الله وحلفاؤه أغلبية مريحة، فيما تقلّصت نسبة أصوات تيار المستقبل بمقدار الثلث. الانتخابات جاءت بعد أقل من عام على اختطاف سعد الحريري (في 3 اكتوبر 2017) وارغامه على الاستقالة من الرياض وعبر قناة تلفزيونية سعودية، حيث بدأ فصل جديد في العلاقة بين السعودية ولبنان ولا يزال هذا الفصل قائمًا.
ومن الضروري التنبيه الى أن التحوّل في الموقف السعودي من لبنان لا يجب أن ينظر اليه معزولًا عن استراتيجية السعودية الجديدة التي يتداخل فيها الشخصي والمحلي والاقليمي والدولي. بمعنى آخر، ليس لبنان وحده الذي تبدّل موقعه في الأجندة السياسية السعودية، بل يكاد يشمل الخارج بكل تفاصيله. والسبب في ذلك، أن أولويات النظام السعودي تبدّلت بصورة دراماتيكية بعد تولي سلمان العرش، وهذه الأولويات مصمّمة لخدمة أولوية قصوى وهي الوصول الآمن لولي العهد محمد بن سلمان الى العرش. وبالتالي، بقي التدخل السعودي في الشأن الإقليمي مقتصرًا على تمويل عمليات تخريب وافشال معادلات سياسية قائمة بالتنسيق مع الولايات المتحدة.
من أجل فهم التبدّل الجوهري في السعودية منذ استلام سلمان العرش نذكر الآتي:
أـ تفكك الاجماع العائلي: وكان هذا الاجماع يمثل مرتكزًا في إدارة الدولة وفي التناوب على السلطة عبر توافقات بين أجنحة الحكم، ممثلة في أبناء عبد العزيز وأحفاده. فلم يعد هذا الاجماع قائمًا اليوم، فقد تمّ اختزال السلطة في بيت سلمان وأن العرش بات حصريًا في هذا البيت. وهذا العامل يستهلك جهدًا ووقتًا وافرين يجعل محمد بن سلمان منكبًّا على نحو جدّي وعميق علىى ترسيخه والذهول عن ملفات أخرى، خوفًا من انقلاب داخل العائلة وانفراط عقده قبل وصوله العرش.
ب ـ الانتقال من دولة الرعاية الى دولة الجباية، وتوظيف مداخيل النفط في مشاريع رؤية السعودية 2030 القائمة على أساس الاستثمار في البرامج الترفيهية، بما يعني انتقال وجهة اقتصاد السعودية الى اقتصاد السوق، أو النيوليبرالية في بعديها الاقتصادي والاجتماعي، إذ أن هذا الاقتصاد بات متشابكًا مع دورة اقتصادية رأسمالية مركزها المالي في الولايات المتحدة، حيث تؤدي شركات التسلية الكبرى الاميركية دورًا في كل البرامج التسلوية التي تجري في المملكة السعودية على اختلاف المواسم.
ومن أخطر وأهم تداعيات هذا الانتقال هو تدمير القطاع الخاص التقليدي وتوليد قطاع بديل يسيطر عليه محمد بن سلمان الى جانب القطاع الحكومي الذي بات هو أيضًا رهن إشارته وقراره.
وكل ذلك مصمّم في مجمله لتحقيق الغاية الكبرى: تربّع محمد بن سلمان على العرش بلا منافس.
في ضوء ما سبق، يمكن النظر الى الملفات الإقليمية في التصوّر السعودي، أخذًا في الحسبان العوامل الآتية:
ـ العامل الداخلي: فالتغييرات البنيوية التي قام بها محمد بن سلمان طيلة السنوات الماضية (على مستوى العائلة المالكة، والمؤسسة الدينية، والعوائل التجارية والنخبة النجدية والتحوّل الاقتصادي) كانت تستهلك الجزء الأكبر من الجهد والوقت، مستبعدًا ملفات أخرى خارجية، يعتقد بأنها ليست ذات أولوية أو أنها قابلة للتأجيل الى أمد قريب أو متوسط، أو أنها قضايا يرى فيها محمد بن سلمان مكلفة ماليًا وبأرباح سياسية ضئيلة.
ـ العامل الشخصي: مع أن عنصر الشخصنة أحيانًا يبدو مستغربًا في عالم محكوم بالمصالح السياسية وليس العداوات والصداقات، بيد أن عنصر “الشخصنة” في المنهج السياسي السعودي له أهمية كبيرة، ويعود الى بدايات الدولة السعودية حيث كان الاميركيون يعتمدونه في علاقاتهم مع ابن سعود، وظهر في ارسال الرئيس الأميركي ترومان طبيبه الخاص سنة 1950 لمعالجة آلام المفاصل التي كان يعاني منها عبد العزيز ادراكًا من الاميركيين بأن الأخير سوف يقدّر ذلك على المستوى الشخصي، وتأكّد لاحقًا مع الملك سعود لذي حظي بحفاوة شخصية استثنائية في زيارته الى الولايات المتحدة سنة 1957 ولقائه ايزنهاور، خرق خلالها البروتوكولات الخاصة باستقبال رؤساء الدول، وكان الهدف إظهار التقدير الشخصي. وقد تأكد العامل الشخصي في كل العهود اللاحقة. وكان ينسج الملوك السعوديون علاقات مع بيوتات معروفة في الولايات المتحدة في عالم السياسة والاعمال مثل علاقة آل بوش بآل سعود، وعلاقات صقور الجمهوريين في عالم النفط والسلاح بالملوك والأمراء السعوديين.
ويلتقي مع العامل الشخصي، العامل المذهبي (سني/ شيعي) الذي يفرز الاصدقاء عن الاعداء في العلاقات السعودية العربية والاسلامية. وفي ذلك كلام معروف وطويل.
على المستوى الشخصي، وفي الملف اللبناني حصرًا، كانت لدى محمد بن سلمان مشكلة ليس فقط مع حزب الله على المستوى المذهبي، ولكن أيضًا مع سعد الحريري على المستوى الشخضي، وهذه المشكلة مرتبطة بقرض مالي حصل عليه في العام 2012 (بقيمة 30 مليار ريال/ أي ما يعادل 8 مليار دولار) في زمن الملك عبد الله وبوساطة المستشار الخاص خالد التويجري، لتسوية ديونه وأوضاعه المالية المرتبطة بشركة سعودي أوجيه. وكان مقررًا ان يقوم الحريري بتسديد المبلغ بعد خمس سنوات من استلامه القرض، أي ابتداء من شهر فبراير 2017 على أن تكون الدفعة الثانية في اكتوبر من نفس العام. تخلّف الحريري عن السداد وكانت الواقعة المعروفة (اختطافه واجباره على الاستقاله وو)، والتي بقيت آثارها كذلك حتى اليوم (وصولًا الى عزوفه عن الترشّح هو وتياره في انتخابات 2022)، على الرغم من الوساطات التي قام بها محمد بن زايد والرئيس الفرنسي ماكرون فإنها جميًعا فشلت، وانعكس ذلك على موقف محمد بن سلمان ليس فقط من الحريري وتيار المستقبل بل ومن فريق 14 آذار، باستثناء الدعم المنتظم الذي يحصل عليه حزب القوات اللبنانية لكونه المتعهّد المخلّص بتلبية وتنفيذ ما يقدر عليه من خطط وطلبات سيده السعودي. باختصار، إن الخراب الكبير الذي لحق بفريق 14 آذار كان بيد سعودية بدرجة أساسية.
في التفسير القبلي لما قام به الحريري، أن هذا بمنزلة طعنة في الظهر، وأن مكرًا سيئًا يحيق بآل سعود نتيجة تقريبهم له، وأن تدفيعه ثمن هذا العمل ليس فقط بتسديد القرض بل وتبعاته المعنوية والنفسية، إذ كيف لمثله أن يتجرأ على خداع أسياده. هكذا ينظر آل سعود من زاوية شخصية وقبلية للقضية، ولغيرها من القضايا المماثلة.
ـ العامل الاقليمي/الدولي: كان الرهان على لبنان مترددًا بين كونه ورقة أو معادلة، ولذلك كانت القوى الاقليمية والدولية متوافقة (بالسلب) على إبقاء لبنان في دائرة التجاذب، أي في منطقة وسطى تحول دون نهوضه أو انهياره. ويبدو أن هذا التوافق لم يعد قائمًا، وأن انهيار لبنان في السنتين الأخيرتين كان رسالة واضحة بأن ثمة “تخلٍ” بالكامل قد تمّ التوافق عليه بين القوى الاقليمية (السعودية وبقية دول الخليج) والدولية (الولايات المتحدة وأوروبا). الهدف لم يعد خافيًا، وأن الدور الذي لعبه الفاعلون الاقليميون والدوليون هو مراقبة الانهيار وتداعياته ليبنى على الشيء مقتضاه.
في ضوء ماسبق، فإن الدور الذي سوف تلعبه السعودية مع قدوم البخاري الى بيروت، وهو بالتأكيد مرتبط بالانتخابات النيابية القادمة، لن يرقى الى مستوى “تقديم المساعدة” بكل أشكالها وعلى رأسها الاقتصادية، بل يتضمن أولًا وقبل كل شيء “الدعم المعنوي” للحلفاء وعلى رأسهم “القوات” و”الاشتراكي” وفي الوقت نفسه توفير غطاء سياسي للسنّة على الرغم من البعثرة غير المسبوقة التي يعيشونها طيلة تاريخهم في لبنان.
نتائج الانتخابات لن تغيّر كثيرًا في موقف السعودية، اللهم إلا في حال حدوث مفاجئات كبيرة جدًا، لا تقتصر فقط على انتقال الأغلبية الى مكان آخر، بل وتفقد الفريق الآخر القدرة على التعطيل، فحينئذ قد تندفع السعودية والامارات والكويت بدرجة أساسية وبتشجيع من الولايات المتحدة الى الانخراط المالي في الشأن اللبناني بهدف تثبيت واقع جديد. ومع ذلك، لا مؤشرات حتى الآن على أن السعودية تعمل على هذه الخطة، بدليل بسيط أن المال الانتخابي السعودي لا يزال قليلًا جدًا قياسًا الى دورات سابقة حيث وصل الإنفاق الى قرابة مليار دولار.
في الخلاصات: أولويات السعودية في مكان آخر، ويمثل اليمن في الوقت الراهن أولى الأولويات الاقليمية لدى السعودية، من أجل الخلاص من كابوس الحرب التي طال أمدها وأخفقت السعودية في تحقيق أدنى أهدافها، وما عليها سوى الحد من الخسائر بدلًا من جني الأرباح.
أمر آخر يجدر التأمل فيه: ان الاهتمام السعودي بالملفات الاقليمية تراجع كثيرًا في عهد سلمان، وهذا يظهر من تراجع حجم المساعدات الاقتصادية التي كانت تدفعها السعودية كجزء من بناء التحالفات أو الحفاظ عليها. وينعكس ذلك أيضًا على علاقات السعودية الاقليمية الذي بقي في حدوده الدنيا، ولم يتطوّر. ويلزم إضافة نقطة جديرة بالاهتمام وهي أن شروط الزعامة الإقليمية غير متوافرة في القيادة الحالية، وبالتالي فإن البحث عن زعامة خارج الحدود يبدو عبثيًا في ظل تمزّقات إقليمية متمادية وغير قابلة لترميم بسهولة.
الأمر الثالث: ان السعودية في عهد سلمان يضع رهانه الأكبر على العلاقة مع الكيان الاسرائيلي، الذي يعتقد بأنه المعبر الالزامي الى ضمان الحماية الاميركية. والجدير بالذكر، أن القول بأن السعودية رفضت طلب واشنطن برفع سقف الانتاج هو مجرد قول مرسل ولا قيمة له لأن الرياض لا تملك قرار نفطها، وأنها في الأصل تؤدّي دور الناظم للانتاج والاسعار في منظمة اوبك بغطاء أميركي، وأن الزيادة في الانتاج قد لا تكون مصلحة أميركية، القصد مصلحة للشركات النفطية الاميركية التي يؤدي الرئيس الاميركي جو بايدن دور تمثيلها وليس تمثيل مصالح وحقوق الشعب. وعليه، فإن سلوك السعودية في لبنان او في اليمن أو في أي مكان آخر لا يمكن أن يتعارض مع الرغبة والرؤية والغايات الاستراتيجية الاميركية. وإن هامش المناورة الذي تلعب فيه السعودية يعتمد على قوتها وضعف الحضور الأميركي.
وهذا ينقلنا الى العامل الدولي، فقد ربطت السعودية مصيرها بالتحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة منذ لقاء روزفلت عبد العزيز على باخرة كوينسي سنة 1945، وتالياً إقامة تحالف ثنائي يقوم على النفط مقابل الحماية. في الواقع هذا التحالف كانت له امتدادته الدولية (العلاقات السعودية الاوروبية) وعلاقات السعودية مع المنظمات الدولية ولا سيما هيئة الأمم المتحدة وفروعها ولا سيما مجلس الأمن الدولي، ومجلس حقوق الانسان، وهي منظمات خاضعة تحت النفوذ الأميركي.
لا يمكن الحديث في الوقت الراهن عن تحالف واسع النطاق تتمتع به السعودية كما في السابق، ببساطة لأن معادلة النفط مقابل الحماية قد تبدّلت، فالولايات المتحدة ليست بحاجة ماسّة الى النفط السعودي وبإمكانها الحصول على حاجتها من دول أخرى. ولكن في الوقت نفسه، لا يعني ذلك أن أمريكا سوف تتخلى عن السعودية أو تخضع علاقتها للمراجعة كما يطالب بعض أعضاء الكونغرس. فالعلاقات السعودية الأميركية ليست مبنية على النفط فحسب، فهناك مصالح استراتيجية أخرى تربطهما: أولًا، لا تزال السوق السعودية تمتص كثيرًا من المنتجات الأميركية، وثانيًا، يمثل الموقع الحيوي الجيوسياسي للسعودية ممرًا استراتيجيًا للولايات المتحدة في مواجهة خصومها في العالم (إيران، وروسيا والصين..)، وثالثًا لا تزال الولايات المتحدة تعتمد على التمويل السعودي في تدبير المؤامرات والانقلابات (باكستان وإيران والعراق ولبنان وسوريا..). في حقيقة الأمر، السعودية، وليس الكيان الصهيوني، من يقدّم أفضل الخدمات للولايات المتحدة فيما يتعلق بالحروب القذرة، وهذا يؤكد ما قاله بندر بن سلطان في العام 1981 بأنه لو علم العالم ماذا قدمت السعودية للولايات المتحدة لأعطتنا ليس طائرات الأواكس فقط بل والقنبلة النووية أيضًا.
صحيح أن هناك تباينًا بين الادارتين الجمهورية والديمقراطية (وهو تباين قديم) في مقاربة العلاقات مع السعودية، وتعزّز التباين في عهد بايدن، على خلفية تعهد الأخير بمحاسبة قتلة خاشقجي، ولكن لا يعني هذا التباين تناقضًا في السياسات والمواقف في بقية الملفات، فلا تزال الشراكة قائمة بين الدولتين في ملفات عديدة: الحرب على اليمن، العراق، سوريا، لبنان، باكستان، إيران.. بصورة عامة، يعمل ابن سلمان على استغلال اتساع الفجوة بين الديمقراطيين والجمهوريين، ويعوّل كثيرًا على فشل بايدن وهزيمته شبه المؤكّدة، وتاليًا عودة الجمهوريين لاستئناف دعم مشروعه السياسي والاقتصادي.
باختصار ما يحكم العلاقة بين واشنطن والرياض هي ثلاثة عوامل:
ـ الملاءة المالية للمملكة السعودية (فلديها من الموارد المالية الضخمة ما يجعلها دولة جاذبة للغرب والشرق على السواء).
ـ الموقع الاستراتيجي: كونها تطلع على ممرين مائين حيويين: البحر الأحمر والخليج الفارسي، وتشكل حلقة وصل بين آسيا وافريقيا.
ـ النفوذ المعنوي والرمزي في المحيطين الخليجي والعربي (وبنسبة أقل في المحيط الإسلامي)
وهذه العوامل سوف تحتفظ بأهميتها على المدى المنظور، ما لم يحدث تغيّر في مركز التجاذب الدولي، أي انتقال ثقل العالم من الغرب الى الشرق، وصعود قوى اقتصادية وبروز أسواق دولية جديدة تخفّض من أهمية غرب آسيا، وهو المرشّح وقوعه في العقد القادم، كما تتحدّث تقارير مجلس الاستخبارات القومي للأعوام 2012 و2018 وأخيرًا 2021
ففي إصداره السابع المنشور في مارس 2021 من تقرير الاتجاهات العالمية الذي يصدر كل أربع سنوات، حدّد مجلس الاستخبارات القومي (NIC) بأن الاتجاهات العالمية لعام 2040 سوف يكون عالم أكثر تنازعًا، وأن أربع قوى هيكلية ستشكل المستقبل: التركيبة السكانية، والبيئة، والاقتصاد، والتكنولوجيا. وحول القوى النافذة في النظام الدولي يذكر التقرير:
سوف تتطور القوة في النظام الدولي لتشمل مجموعة أوسع من القوى، وعليه، ليس من المرجح أن يكون لدولة بعينها السيطرة على جميع المناطق أو المجالات. وسيكون للولايات المتحدة والصين التأثير الأكبر على الديناميكيات العالمية، مما يفرض خيارات أكثر صرامة على الجهات الفاعلة الأخرى، ويزيد هامش المناورة حول المعايير والقواعد والمؤسسات العالمية، ويزيد من مخاطر الصراع بين الدول.
ويتحدث التقرير عن النظام الدولي بأنه: بلا اتجاه، فوضوي، ومتقلب حيث يتم تجاهل القواعد والمؤسسات الدولية إلى حد كبير. وتعاني دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من تباطؤ النمو الاقتصادي، واتساع الانقسامات المجتمعية، والشلل السياسي. تستغل الصين مشاكل الغرب لتوسيع نفوذها الدولي. العديد من التحديات العالمية لم يتم التصدّي لها. وبحسب توقعات التقرير فإن الثقل الاقتصادي للعالم سوف ينتقل من الغرب الى الشرق، وأن الصين سوف تتصدر الاقتصاد العالمي بحلول 2040 بمعدل 22.8 % بينما تحل الولايات المتحدة في المرتبة الثانية بمعدل 20.8% والاتحاد الأوروبي وبريطانيا في المرتبة الثالثة بمعدل 16.4%، والهند بمعدل 6.1% وبقية دول آسيا بمعدل 6.2%.
هذه المعطيات قد تعين على فهم توجهات السعودية في المرحلة المقبلة أيضًا، فقد نُبّهت بعد الحرب العالمية الثانية الى ضرورة نقل تحالفها الى الولايات المتحدة بعد تراجع دور بريطانيا، الراعي الأول للدولة السعودية، وإذا ما شعرت بأن القوة العالمية انتقلت الى مكان آخر قد تميل الى الاستثمار في القوة الناهضة (بطبيعة الحال، في حال الاطمئنان الى أن مثل هذه الخطوة لا تنطوي على مخاطر وجودية لأن هكذا قرار يعرّض مصالح الولايات المتحدة والغرب عمومًا لتهديد استراتيجي ولن تقبل هذه الدول بذلك على نحو اليقين وإن تطلب منع ذلك التدخل العسكري).
نقاط ضعف السعودية
1 ـ العامل الجغرافي: المساحة الشاسعة بقدر ما منحت النظام السعودي نفوذًا وقوة تأثير وموقع حيوي، فإنها، في الوقت نفسه، تنطوي على تهديد وضعف، خصوصًا مع الفجوة الواسعة بين الجغرافيا والديمغرافيا. فهناك مناطق رخوة كثيرة في الجغرافيا السياسية السعودية تجعلها عرضة للاختراق والتخريب بسهولة. وقد حاولت السلطات السعودية سد هذه الفجوة عبر: إقامة مدن عسكرية كبرى على النقاط الحساسة والحيوية بالقرب من المناطق الحدودية (مع العراق والأردن واليمن بدرجة أساسية) كما نصبت سياجات الكترونية وأجهزة رقابية متطوّرة بعشرات المليارات الدولارات مع العراق، وكانت بصدد مشروع مماثل مع اليمن. ولكن تبقى هذه التدابير مهما بلغت تكلفتها وتطوّرها في مسيس الحاجة الى العامل البشري الكفوء القادر على التعامل مع الظروف المتغيّرة والتحديات المستجدّة.
2ـ الوحدة الداخلية: لم تتأسس الدولة السعودية على عقد اجتماعي أو مشتركات عامة. فهي لا تصنّف في خانة الدول التاريخية مثل العراق ومصر وإيران وسوريا، وإنما هي دولة حديثة صنعت بتخطيط أجنبي وبأيدي سعودية وهابية. فهي قامت على القوة واستمرت على أساس القوة أيضًا، ولذلك بقيت ازمة هوية الدولة قائمة حتى الآن، على الرغم من المحاولات التلفيقية لبناء هوية وطنية مفتعلة، أي من خلال مكوّنات ليست وطنية وإنما يراد لها أن تكون كذلك، وهي في مجملها نابعة من منطقة نجد، وآل سعود، والمفهوم الوهابي للاسلام.
هي بكلمات أخرى، دولة أقليات قائمة على القوة، واحتكار جماعة صغيرة مصادر القوة (السلطة والثروة). وحدة السعودية هشّة، وإن إثارة كل عناصر الاختلاف في أي نقطة يمكن أن تؤثر على وحدة السلطة واستقرارها.. وخصوصاً في مرحلة لاتستطيع الدولة الالتزام بمتطلبات الدولة الريعية، حيث توفّر المال للناس مقابل سكوتهم عن اخطائها واستبدادها..
من الضروري التركيز على الانقسامات الداخلية التاريخية/التقليدية ولا سيما المناطقية:
ـ (الصراع النجدي الحجازي)، بإثارة تشويه صورة وتراث وتاريخ وهوية الحجاز وتجربته التاريخية والإدارية وأن الحجاز كان دائمًا متقدمًا، وإن النظام السعودي عمل على تخريب آثار الحجاز وطمس هويته الدينية والتاريخية والثقافية والاجتماعية.
ـ قبلياً: وخصوصاً في عهد سلمان، وبرغم من اهتمامه باستقطاب ولاء القبائل له ولابنه، الا أن هناك الكثير من القبائل تضررت وخصوصاً التي شاركت في بناء الدولة وقريبة من العائلة المالكة مثل فرع سعود الكبير وآل جلوي وآل ثنيان وغيرها، وقبائل أخرى مثل مطير وعتيبة، وغيرها..
من الضروري استغلال كل الخلافات التي نشبت داخل العائلة المالكة والتركيز على قيم (العمر، التجربة) والحكمة والحنكة التي يفتقر اليها محمد بن سلمان…
3ـ الوضع المعيشي: بما لا يجعل السعودية قادرة على لعب دور الرعاية للمواطن في الداخل (الانتقال من دولة الرعاية الى دولة الجباية)، ولا النفوذ في الخارج خصوصاً بالنسبة للدول التي أدمنت مقايضة المواقف بالمساعدات المالية (وهي قائمة طويلة من الدول: باكستان، الاردن، لبنان، المغرب…الخ). وبالامكان استغلال ذلك من خلال كشف الفساد المالي للمك سلمان وأبنائه وممتلكاتهم في الخارج ومن بينها (الاخوات السبع ووثائق بنما) وكذلك الأمراء المتحالفين مع بيت سلمان أو الذين تم استثناؤهم في حملة الحرب على الفساد، لتحريض الشعب ضد العائلة المالكة ودفعها للتمرّد بأشكال مختلفة.
يمكن ذكر هنا قيام أجهزة الأمن القومي الاميركية بتشويه صورة محمد بن سلمان في استعمال مكافحة الفساد ضد الأمراء (لاسيما حليفها محمد بن نايف) لتعزيز سلطته وتحصيل أموال لدعم الرؤية، عن طريق تسريب اخبار للصحف الأميركية ولاسيما (نيويورك تايمز) حول شراء ابن سلمان لوحة دافنشي بـ450 مليون دولار، وقصر لويس الرابع عشر في فرنسا بـ 400 مليون دولار ويخت فاخر بقيمة نصف مليار دولار. وقد ضربت هذه الأخبار مصداقية محمد بن سلمان، وهذا ما دفع الملك سلمان لأن يدعو مدير السي آي أيه لزيارة السعودية للتفاهم معه حيال التسريبات التي تصدر عن الوكالة للصحف الأميركية.
إن العمل على فضح قصص الفساد المتعلقة بابن سلمان يجب أن يكون أولوية، لأنه يحاول استغلال عنوان مكافحة الفساد كي يسوّق نفسه بأنه القيادة النزيهة وصاحب الكف النظيف الذي يلبي رغبة الجماهير، ولذلك فإن اظهار حقائق حملته سوف تحرمه من تضليل الرأي العام وخداع الناس..
يوضع ذلك في سياق التركيز على معدلات الفقر والبطالة وضعف الانتاج وهدر المال العام في قضايا تضر بالمواطنين وأن هذه الحكومة لا يهمها رفاه الناس وإنما هي تنفق الأموال على صفقات خارجية لا تعكس حاجات الوطن أو هي رشاوي تدفع للولايات المتحدة من أجل دعم السلطة..
ـ الانفتاح على كل الطيف الاجتماعي والسياسي في المملكة ولا سيما من خسروا في مشروع الدولة السعودية، وتثمير كل الذين يختلفون معها، سواء مذاهب أو قبائل أو مناطق.
4ـ دبلوماسية التآمر على دول الاقليم: ما بين السعودية وكل الدول المجاورة هناك مشاكل حدودية وأطماع تاريخية، ويتحدث عنها أغلب شيوخ الخليج في المجالس الخاصة، ولا بد من إثارة هذه المخاوف في الاعلام وفي اللقاءات مع المسؤولين لتعزيز عدم الثقة فيما ينهم..
لابد من استغلال اخطاء الدبلوماسية السعودية مع حلفائها بدرجة أساسية وتوظيفها في بناء تحالف أو كتلة من الدول المتضرّرة من السعودية. هذا هو أفضل استثمار لأخطاء السعودية حيث تخسر الحلفاء والاصدقاء. ولكن لا يكفي ان تخطأ السعودية حتى يمكن استثمار اخطائها، ولكن لا بد من اعداد خطة تجذب الذين ينفضون عنها، سواء، بمعنى إقناع الدول التي تنفصل عن التحالف عن السعودية بأن إيران قادرة على توفير مصالح بديلة تعوض ما تخسره في العلاقة مع السعودية.
وإذا كانت الملفات الحدودية تقتصر في الاعلام وغالبًا على السعودية والكويت أو السعودية وقطر، فإن خلافاتها الحدودية مع الامارات وعمان والبحرين ليست قليلة وإنما يتم تأجيلها الى أوقات لاحقة، وقد تفجّرت ذات مرة بين السعودية والامارات على خلفية اصدار الأخيرة بطاقة مدنية تشتمل على خارطة تضم منطقة حدودية متنازع عليها حول حقبة شيبة النفطي وخور العيديد، وتجدّد الخلاف بينهما في يوليو 2021 على خلفية تنافس على الزعامة الإقليمية والنفوذ الاقتصادي والتمركز الاستثماري الأجنبي. وهناك خلاف راكد بين السعودية وعمان حول واحة البريمي وخلاف آخر حدودي بين السعودية والبحرين حول حقل نفطي تسيطر عليه السعودية رغم وقوعه بالقرب من الحدود المائية البحرينية. وكشفت ثائق بريطانية عن خلاف حدودي بين البحرين والسعودية في عام 1951م حول أربع مناطق حدودية وهي: 1- جزائر البينة 2- فشت الجارم 3- فشت ابو سعفة 4- نيوة عراقي.
في كل الأحوال، إن إثارة ملف الخلافات الحدودية في الاعلام هي أحد نقاط الضعف لدى النظام السعودي الذي يصرّ على تحقيق أهدافه التوسعية بعيدًا عن الاعلام.
5ـ الخلاف العائلي: لم يكن هذا العنصر مطروحًا ي أوقات سابقة، ولكن مع صعود محمد بن سلمان واستبعاد واعتقال ومصادرة أموال مئات الامراء ودخوله في مواجهات مع آخرين، يوفّر فرصة استغلال الخلاف وتحريض فرع على آخر، وتحريك أمراء ضده، وهذا الوقت مناسب. وسوف يبقى هذا الخلاف قائمًا طالما تمسّك محمد بن سلمان بنزعته الاحتكارية للسلطة وتهميش الاجنحة الأخرى، أي أن فرصة تثمير الخلاف العائلي سوف تبقى قائمة، ما لم يتمكّن ابن سلمان في توجيه ضربة قاضية على الاجنحة الأخرى وهذا في عداد المستحيلات.