القرى المشتركة بين لبنان وسوريا: تاريخ الترسيم والهوية الملتبسة
بقلم خديجة البزال
القرى المشتركة بين لبنان وسوريا: تاريخ الترسيم والهوية الملتبسة
المقدمة
لطالما شكّلت الحدود بين لبنان وسوريا موضوعًا حساسًا نظرًا للروابط العائلية والاجتماعية والاقتصادية العميقة التي تربط سكان القرى الحدودية بالبلدين. ومع أن الحدود الحالية تم ترسيمها رسميًا خلال فترة الانتداب الفرنسي، إلا أن العديد من القرى التي كانت تاريخيًا جزءًا من لبنان تم ضمها إلى سوريا، مما خلق إشكالية مستمرة حول الهوية والانتماء. في هذا البحث، سنتناول تفاصيل هذه القرى، أسباب ضمها إلى سوريا، والتبعات الحالية لهذا الواقع.
أولًا: السياق التاريخي لترسيم الحدود اللبنانية – السورية
- لبنان وسوريا في العهد العثماني
قبل الحرب العالمية الأولى، لم تكن هناك حدود فاصلة بين لبنان وسوريا، حيث كان كلا البلدين جزءًا من ولاية الشام العثمانية، التي كانت مقسمة إلى متصرفيات وأقضية. وكان جبل لبنان يتمتع بحكم ذاتي ضمن المتصرفية، لكن المناطق الحدودية مثل البقاع وعكار ووادي خالد والهرمل لم تكن خاضعة لحكم مستقل، بل كانت امتدادًا للمناطق السورية.
- الانتداب الفرنسي وإعلان دولة لبنان الكبير (1920)
بعد سقوط الدولة العثمانية، فرضت فرنسا انتدابها على سوريا ولبنان، وأعلن الجنرال الفرنسي هنري غورو في 1 سبتمبر 1920 قيام دولة لبنان الكبير، التي ضمّت بيروت، جبل لبنان، البقاع، الجنوب، والشمال إلى الكيان اللبناني الجديد.
في هذه المرحلة، لم يكن ترسيم الحدود واضحًا تمامًا، مما أدى إلى إعادة رسمها لاحقًا بحيث تم ضم بعض القرى التي كانت تابعة للبنان إلى سوريا.
- اتفاقيات ترسيم الحدود (1924-1935)
مع استمرار الانتداب، أجرت فرنسا تعديلات على الحدود بين لبنان وسوريا لعدة أسباب إدارية وسياسية، ما أدى إلى نقل بعض القرى من لبنان إلى سوريا، وأبرز هذه الاتفاقيات كانت بين عامي 1924 و1935.
- الاستقلال وتثبيت الحدود (1946)
عند استقلال لبنان وسوريا عن فرنسا عام 1943 و1946 على التوالي، اعتمدت الدولتان الحدود التي رسمها الانتداب الفرنسي، مما أدى إلى بقاء بعض القرى ذات الغالبية السكانية اللبنانية داخل الأراضي السورية.
ثانيًا: القرى اللبنانية التي ضمّت إلى سوريا
- قرى وادي العاصي (شمال قضاء الهرمل – حمص حالياً)
هذه القرى كانت تاريخيًا جزءًا من قضاء الهرمل في محافظة البقاع، ولكنها ألحقت بسوريا خلال فترة الانتداب، ومن أبرزها:
حاويك
حوش السيد علي
السماقيات
النزارية
وادي حنا
زيتا
الفاضلية
الوضع الحالي: رغم أنها تتبع إداريًا لمحافظة حمص، إلا أن سكانها ما زالوا يحتفظون بعلاقات وثيقة مع الهرمل، وبعضهم يحمل الجنسية اللبنانية.
- قرى وادي خالد والمناطق المحاذية لعكار
بعض القرى التي كانت ذات ارتباط لبناني واضح، لكنها ألحقت بسوريا، تشمل:
مزرعة بيت مطر
خربة عواد
مشيرفة الفتيح
النهرية
الوضع الحالي: سكان هذه القرى ما زالوا على ارتباط بعكار، والكثير منهم يتنقل يوميًا بين لبنان وسوريا.
- قرى جبل الشيخ ومنطقة البقاع الغربي
عرنة
حضر
الوضع الحالي: هذه القرى تُعتبر سورية رسميًا، لكنها تاريخيًا كانت مرتبطة بجبل الشيخ اللبناني، ولا تزال العائلات اللبنانية فيها تحتفظ بروابط قوية مع الجنوب والبقاع الغربي.
ثالثًا: أسباب ضم هذه القرى إلى سوريا
- التوازن الطائفي في لبنان
أحد الأسباب الرئيسية لضم بعض القرى إلى سوريا كان رغبة فرنسا في الحفاظ على توازن طائفي معين داخل لبنان الكبير، فتم نقل بعض القرى ذات الغالبية السنية أو الشيعية إلى سوريا.
- اعتبارات إدارية
بعض هذه القرى كانت أقرب إداريًا إلى المدن السورية مثل حمص ودمشق من بيروت أو زحلة، فتم إلحاقها بسوريا لتسهيل إدارتها.
- المصالح الاستراتيجية والعسكرية
بعض القرى كانت تقع على ممرات استراتيجية، مثل وادي العاصي وجبل الشيخ، لذا فضّلت فرنسا إبقاءها ضمن سوريا لأغراض أمنية.
رابعًا: الوضع الحالي لسكان هذه القرى
رغم مرور ما يقارب 100 عام على ترسيم الحدود، لا يزال سكان هذه القرى:
يحتفظون بالهوية اللبنانية ثقافيًا واجتماعيًا، رغم تبعيتهم الإدارية لسوريا.
يتمتع العديد منهم بالجنسية اللبنانية، خاصة في قرى وادي خالد والقصر.
يعتمدون اقتصاديًا على لبنان، حيث يعمل بعضهم في الهرمل وعكار وطرابلس.
ما زالوا يعانون من مشاكل قانونية، خاصة فيما يتعلق بجوازات السفر والحقوق المدنية.
خامسًا: هل يمكن للبنان استعادة هذه القرى؟
حتى اليوم، لم تثر الحكومات اللبنانية المتعاقبة قضية استعادة هذه القرى بشكل رسمي، وذلك لعدة أسباب:
- العلاقات اللبنانية – السورية المعقدة: أي مطالبة رسمية قد تفتح بابًا لخلاف دبلوماسي بين البلدين.
- غياب دعم دولي: المجتمع الدولي يعترف بالحدود التي رُسمت خلال الانتداب.
- الارتباطات الاقتصادية والاجتماعية: السكان أنفسهم يعيشون واقعًا مشتركًا بين البلدين، ما يجعل إعادة ترسيم الحدود أمرًا صعبًا.
السيناريوهات المستقبلية
قد تبقى الأمور كما هي، حيث يستمر السكان في العيش بين البلدين دون تغيير في الوضع الإداري.
يمكن أن تُعقد اتفاقيات بين لبنان وسوريا لمنح هؤلاء السكان حقوقًا مزدوجة.
في حال أي إعادة تفاوض على الحدود، قد تُطرح بعض القرى للنقاش، لكن ذلك مستبعد حاليًا.
إن مسألة القرى المشتركة بين لبنان وسوريا ليست مجرد مسألة ترسيم حدود، بل هي قضية هوية وانتماء لسكان هذه المناطق، الذين لا يزالون يعيشون بين البلدين. وبينما تبقى هذه القرى رسميًا تحت السيادة السورية، فإن واقعها الاجتماعي والثقافي يظل مرتبطًا بشكل كبير بلبنان، ما يجعلها نموذجًا للعلاقات الحدودية المتداخلة في المنطقة.
