مقالات

النشر بين آفتي العلم الناقص والتحليل الناقص. أحلام بيضون

ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على استسهال الكتابة والنشر، فورد هذا الباب الكتاب والباحثون المتعمقون، وأصحاب الاختصاص، ولكن أيضا المتطفلون، ومن نال علما ناقصا، بدراسة أنجزها على عجل في ظروف صعبة، أو بلد لا يعير أهمية كبيرة للبحث العلمي، أو حتى بشهادة أو إفادة مزورة، لما لا! أو كل من أنهى المدرسة الابتدائية، وتمكّن كما يقال من “فكّ الحرف”. والانتقاد لا يستهدف حقيقة من حصّل مستوى معين من التعليم، واضطرته ظروفه، أو هو آثر أن يترك الدراسة ويبحث لنفسه عن عمل آخر، إنما يستهدف من يتجرأ أن ينشر ويزود القرّاء بمادة سطحية أو مغلوطة، أو غير واثق من صحة محتواها. ولعلّ أكبر المرتكبين لهذه الآفة إن لم نقل الخطيئة، هم من ينصّبون أنفسهم محللين وخبراء، في مواد تحتاج إلى سعة اطلاع وتمحيص. فيستعملون مثلا مصطلحات شاعت لأهميتها، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء الإحاطة بالمعرفة الكاملة حول المقصود بالمصطلح. فكم نسمع ونقرأ حول الليبراليين الجدد، واتخاذ مواقف عدائية ضدهم، محملين إياهم كل المصائب التي تحصل على مستوى العالم. ولا يعني إن أعطينا هذا المثل، أننا نساند أصحاب هذه النظرية، أو أن الأمور تقتصر عليها، ولكن يمكن القياس على ذلك للكلام عن العديد من المفاهيم، غالبيتها أجنبية، وردت في كتب قيمة، ولأصحاب نظريات في السياسة والحقوق والاقتصاد والاجتماع والفلسفة، وبلغات أجنبية.
إن الخبير هو كما يدل اللفظ، من أحاط بالمادة وتعمق بها، وأصبح بإمكانه أن يعطي رأيه حولها. أما المحلّل، فيجب أن يمتلك، عدا عن المعرفة المتعمّقة بالموضوع الذي يحلله، معرفة بالظورف والمعطيات المختلفة التي تحيق بالحدث، كما يجب أن يكون من أصحاب ملكة استشراف الأحداث، حين يتكرّم ويزوّد القراء أو المستمعين بتوقعاته المستقبلية، متجنبا عمل المبصرين والهرجين.
إن سعة الاطلاع لا تلزم فقط من يقدم نفسه خبيرا في مادة معينة، أو محللا لحدث معين، وإنما سعة الاطلاع والثقافة، يجب أن تمييز القارئ والمعلّق، فلا يجوز لمختص بالأدب، حتى لو كان متميزا في اختصاصه، أن يعلّق على موضوع قانوني دون أن يكون على معرفة بخصوصية تلك المادة وما تتطلبه. فمادة القانون مثلا ليست كالأدب. إن أي دراسة قانونية تتطلب لإعطاء رأي فيها أو استنتاج معين، أن نورد ما نسميه “الوقائع”، وهي عبارة عن معطيات ومعلومات تتعلق بالموضوع، يتمّ الارتكاز عليها كبيّنة لبناء الاستنتاج، تماما كإصدار الحكم. صحيح، أن طرح الوقائع هو عملية سردية أو وصفية، لكنه لا بدّ منها في أي دراسة أو بحث قانوني، تماما كما في الدعوى أمام المحكمة، حيث يتمّ سرد الوقائع كبينة وقرينة، وذكر مواد القانون لإسناد الحكم عليها.
إن التوصيف أو السرد يعيب عملا أدبيا، لكنه أمر ضروري في أي دراسة قانونية، أو أنه يلازم أصحاب الخلفية القانونية، حتى لو تناولوا موضوعا آخر شبيها، بسبب الحرص على المصداقية وتأكيد الرأي المعطى.
إن الغاية من وراء هذا المقال هي المصلحة العامة، وتعميم الفائدة مما يكتب أو ينشر، ولا تبغي مطلقا الاستهانة بأحد، ولا هي أصلا موجهة إلى أحد، إنما هي استجابة لرأي تكون لدينا أمام مجموعة من المعطيات، التي استشعرنا من الواجب أن نتوقف عندها بجرأة، من أجل التصدي لما يمكن أن يساهم في تضليلنا أو تزويدنا بمعلومات مغلوطة، ويخلق لدينا مشاعر زائفة تجاه مفاهيم لم يجر التعمق بها كما يجب ومن قبل أصحاب اختصاص، ومناقشتها بشكل موضوعي ورؤيوي مفيد.
أحلام بيضون/بيروت/2/4/2022

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى